يا قدس


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ما كلُّ مَن نطقوا الحروفَ أبانوا *** فلقد يَذوبُ بما يقولُ لسانُ

 

لغة الوفاءِ شريفةٌ كلماتُها *** فيها عن الحبِّ الأصيلِ بَيانُ

 

يسمو بها صدقُ الشعور إلى الذٌّرا *** ويزُفُّ عِطرَ حروفها الوجدانُ

 

لغةٌ تَرَقرَقَ في النفوس جمالُها *** وتألَّقت بجلالها الأَذهانُ

 

يجري بها شعري إليكم مثلما *** يجري إلى المتفضِّل العِرفانُ

 

لغةُ الوفاء، ومَن يجيد حروفَها *** إلا الخبير الحاذق الفنَّانُ؟

 

أرسلتُها شعراً يُحاط بموكبٍ, *** من لهفتي، وتزفٌّه الألحانُ

 

ويزفٌّه صدقُ الشعور وإِنَّما *** بالصدق يرفع نفسَه الإِنسانُ

 

أرسلتُ شعري والسَّفينةُ لم تزل *** في البحر، حار بأمرها الرٌّبَّانُ

 

والقدس أرملةٌ يلفِّعها الأسى *** وتُميت بهجةَ قلبها الأحزانُ

 

شلاَّلُ أَدمُعِها على دفَقاته *** ثار البخار فغامت الأَجفانُ

 

حسناءُ صبَّحها العدوٌّ بمدفعٍ, *** تَهوي على طلقاته الأركانُ

 

أَدمَى مَحاجرها الرَّصاص ولم تزل *** شمَّاءَ ضاق بصبرها العُدوانُ

 

حسناءُ، داهمَها الشِّتاءُ، ودارُها *** مهدومةٌ، ورضُها عُريانُ

 

وضَجيج غاراتِ العدوِّ يَزيدها *** فَزَعاً تَضَاعف عنده الَخَفقانُ

 

بالأمسِ ودَّعها ابنُها وحَليلُها *** وابنُ اختها وصديقُه حسَّانُ

 

واليوم صبَّحتِ المدافعُ حَيَّها ***بلهيبها، فتفرَّق الجيرانُ

 

باتت بلا زوجٍ, ولا إِبنٍ, ولا *** جارٍ, يَصون جوارَها ويُصَانُ

 

يا ويحَها مَلَكت كنوزاً جَمَّة *** وتَبيت يعصر قلبَها الِحرمانُ

 

تَستطعم الجارَ الفقيرَ عشاءَها *** ومتى سيُطعم غيرَه الُجوعَانُ

 

يا قدسُ يا حسناءُ طال فراقُنا *** وتلاعبت بقلوبنا الأَشجانُ

 

من أين نأتي، والحواجزُ بيننا: *** ضَعفٌ وفُرقَةُ أُمَّةٍ, وهَوانُ؟

 

من أين نأتي، والعدوٌّ بخيله *** وبرَجلهِ، متحفِّزٌ يَقظَانُ؟

 

ويَدُ العُروبةِ رَجفَةٌ ممدودةٌ *** للمعتدي وإشارةٌ وبَنانُ؟

 

ودُعاةُ كلِّ تقٌّدمٍ, قد أصبحوا *** متأخرين، ثيابُهم أَدرَانُ

 

متحدِّثون يُثَرثِرُون أشدٌّهم *** وعياً صريعٌ للهوى حَيرانُ

 

أين الذين تلثَّموا بوعودهم *** أين الذين تودَّدوا وأَلانوا؟

 

لما تزاحمت الحوائجُ أصبحوا ***كرؤى السَّراب تضمَّها القيعانُ

 

كرؤى السَّرابِ، فما يؤمِّل تائهٌ *** منها، وماذا يطلب الظمآنُ؟

 

يا قدس، وانتفض الخليلُ وغَزَّةٌ *** والضِّفتان وتاقت الجولانُ

 

وتلفَّت الأقصى، وفي نظراته *** أَلَمٌ وفي ساحاته غَلَيانُ

 

يا قُدس، وانبهر النِّداءُ ولم يزل *** للجرح فيها جَذوةٌ ودُخانُ

 

يا قُُدسُ، وانحسر اللِّثام فلاحَ لي *** قمرٌ يدنِّس وجهَه استيطانُ

 

ورأيتُ طوفانَ الأسى يجتاحُها *** ولقد يكون من الأسى الطوفانُ

 

كادت تفارق مَن تحبٌّ ويختفي *** عن ناظريها العطف والتَّحنانُ

 

لولا نَسائمُ من عطاءِ أحبَّةٍ, *** رسموا الوفاءَ ببذلهم وأعانوا

 

سَعِدَت بما بذلوا، وفوقَ لسانها *** نَبَتَ الدٌّعاءُ وأَورَقَ الشٌّكرانُ

 

لكأنني بالقدس تسأل نفسَها *** من أين هذا الهاطلُ الَهتَّانُ؟

 

من أين هذا البذلُ، ما هذا النَّدى ***يَهمي عليَّ، ومَن هُم الأَعوانُ؟

 

هذا سؤال القدس وهي جريحةٌ *** تشكو، فكيف نُجيب يا سَلمانُ؟

 

ستقول، أو سأقول، ما هذا الندى *** إلاَّ عطاءٌ ساقه المَنَّانُ

 

هذا النَّدى، بَذلُ الذين قلوبُهم *** بوفائها وحنانها تَزدَانُ

 

أبناءُ هذي الأرض فيها أَشرقت *** حِقَبُ الزمان، وأُنزِل القرآنُ

 

صنعوا وشاح المجد من إِيمانهم *** نعم الوشاحُ ونِعمَتِ الأَلوانُ

 

وتشرَّف التاريخ حين سَمَت به *** أخبارُهم، وتوالت الأَزمانُ

 

في أرضنا للناس أكبرُ شاهدٍ, *** دينٌ ودنيا، نعمةٌ وأَمانُ

 

الأصل مكةُ، والمهاجَرُ طَيبةٌ *** والقدسُ رَوضُ عَراقةٍ, فَينَانُ

 

شيمُ العروبة تلتقي بعقيدةٍ, *** فيفيض منها البَذلُ والإحسانُ

 

للقدس عُمقٌ في مشاعر أرضنا *** شهدت به الآكامُ والكُثبانُ

 

شهدت به آثارُ هاجرَ حينما *** أصغت لصوت رضيعها الوُديانُ

 

شهدت به البطحاء وهي ترى الثرى *** يهتزٌّ حتى سالت الُحلجانُ

 

ودعاءُ إبراهيمَ ينشر عطره *** في الخافقين، وقلبُه اطمئنان

 

هذي الوشائج بين مهبط وحينا *** والمسجد الأقصى هي العنوانُ

 

هو قِبلةٌ أُولى لأمتنا التي *** خُتمت بدين نبيِّها الأديانُ

 

شَعبٌ، فلسطينُ العزيةُ أَنبتت *** فيه الإباءَ فلم يُصبه هَوانُ

 

شَعبٌ إذا ذُكر الفداءُ بَدا له *** عَزمٌ ورأيٌ ثاقبٌ وسنانُ

 

شعبٌ إذا اشتدَّت عليه مُبةٌ *** فالخاسرانِ اليأسُ والُخذلاُن

 

لا تُخرجوهم من مَكامنِ أرضهم *** فخروجُهم من أرضهم خُسران

 

هي حكمةٌ بدويَّة ما أدركت *** أَبعادَها في حينها الأَذهانُ

 

يا قُدسُ لا تَأسَي ففي أجفاننا *** ظلٌّ الحبيبِ، وفي القلوبِ جِنانُ

 

يا قُدسُ صبراً فانتصاركِ قادمٌ *** واللِّصُّ يا بَلَدَ الفداءِ جَبَانُ

 

حَجَرُ الصغير رسالةٌ نُقِلَت على *** ثغر الشٌّموخ فأصغت الأكوانُ

 

يا قدسُ، وانبثق الضياء وغرَّدت ***أَطيارُها وتأنَّقَ البستانُ

 

يا قدس، والتفتت إِليَّ وأقسمت *** وبربنا لا تحنَثُ الأَيمانُ

 

واللّهِ لن يجتازَ بي بحرَ الأسى *** إلاَّ قلوبٌ زادُها القرآنُ

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply