كيف نعيش حدث الهجرة ونستعيد أمجاد المهاجرين ؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

علمنا ربنا أن نستفيد من الأحداث ومن أخبار من سبقونا سواء كانوا من أهل الإيمان وحسن التدبير، أو كانوا من أهل الكفر أو الذين لا يعقلون، فكيف بمن هم من أسلافنا ممن - رضي الله عنهم - ورضوا عنه، وممن نحن بتديننا وامتداد حضارتنا لسنا غير ثمرة من ثمار جهودهم وجهادهم، وحسنة من بذلهم وتضحياتهم؟ وقد شكلت الهجرة منعطفا حاسما في تشكل أمة الإسلام، وحري بالمومنين تدبر تلك البدايات والمعاني التي كانت تحرك رجالها ونساءها، لأخذ الدروس والعبر والتزود بالوقود الحضاري للمضي قدما في درب الإصلاح والتجديد والبعث والإحياء والتوحيد ونفض غبار التخلف والجمود والتمزق والعجز والتردد، ذلك أن إنعاش الذاكرة باللحظات المشرقة ينفخ الروح في العزائم والإرادات. نظرة في مفهوم الهجرة: الهجرة حركة وفعل في المكان أو الحال، تنافي السكون والجمود. هجر للكفر والفسوق والفساد وانطلاق نحو بناء صرح الإيمان والطاعة لرب العالمين والصلاح والإصلاح والعمران، حركة تحتاج لزاد وطاقة، وبذل وتضحية، وأحيانا لتجميع طاقات الخير المبثوثة في مجتمع الجاهلية والانحراف، ليملك أهل الإصلاح الاستقلال وحرية القرار في بناء الذات للانطلاق نحو تحرير الإنسان وفتح أوراش من الفتوح تهم العباد والبلاد. فالهجرة المكانية من مكة إلى الحبشة ثم إلى المدينة بالأساس والتي توجت بهجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستمرت زمانا لمدة ثمان سنوات إلى عام الفتح، أسست لهجرة معنوية دائمة في قلوب وعقول وسلوك المومنين إلى قيام الساعة، حيث يهجرون الشرك إلى التوحيد، ويهجرون المعصية إلى الطاعة، ويهجرون البدعة إلى السنة. ومع كل ذلك يهجرون الفساد إلى الصلاح والفرقة إلى الوحدة، وأحوال الذلة إلى مراقي العزة، أو هكذا ينبغي أن تبقى الهجرة في الوعي والذاكرة. فالمعنى المادي والمعنوي في الهجرة كانا متلازمين من البداية. أورد الشيخ أحمد شاكر في عمدة التفسير 1/844 عن ابن السعديº أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل. فقال معاوية، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو بن العاص: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الهجرة خصلتان: إحداهما: تهجر السيئات، والأخرى: تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه، وكفى الناس العمل\" وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه\" و روى مسلم عن معقل بن يسار المزني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"العبادة في الهرج (وفي رواية والفتن)، كهجرة إلي \" مقاصد الهجرة وغاياتها: بين الله - عز وجل - دواعي الهجرة المكانية والتي يمكن إجمالها في طغيان الظلم واشتداد الفتن وعدم القدرة على التغيير من الداخل بحيث يصبح الإنسان مهددا في دينه ومبادئه، قال - تعالى -: \"وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُم فِي الدٌّنيَا حَسَنَةً وَلأَجرُ الآخِرَةِ أَكبَرُ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ (42)النحل وقال - تعالى -: \"ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (110)النحل وبين هذا المعنى ما جاء في صحيح البخاري عن عطاء بن أبي رباح قال: زرت عائشة مع عبيد بن عمير الليثي فسألناها عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم. كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله - تعالى -وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، واليوم يعبد ربه حيث شاء ولكن جهاد ونية\" فالهجرة ثبات على المبدأ، وقرار بعدم الاستسلام لمخططات أعداء الدين التي تستهدف قتله في النفوس أو حتى التخلص من تلك النفوس التي تحمله، وخنق الدعوة حتى لا تمضي بعيدا في الآفاق، فتكون الهجرة تغييرا لموقع المدافع إلى موقع الهجوم على الباطل ودحره، والإسهام في إعلاء كلمة الله. ولهذا اختلفت أحوال المهاجرين بحسب مقاصدهم. روى البخاري عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه\" معاناة الهجرة ومحنة المهاجرين: الهجرة في الدين عبادة وطاعة، تحتاج إلى بذل وتضحية ومقاومة لوسواس الشيطان بالقعود والاستسلام. وقد كانت هجرة المسلمين امتثالا لأمر الله ورسوله بعدما ضاقت بهم السبل في مكة. قال - تعالى -: \"إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِم قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ فِي الأَرضِ قَالوَا أَلَم تَكُن أَرضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَـئِكَ مَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَسَاءت مَصِيرًا (97) إِلاَّ المُستَضعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالوِلدَانِ لاَ يَستَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولَـئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعفُوَ عَنهُم وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا\" (99) النساء روى البخاري عن ابن أبي مليكة أن ابن عباس تلا \"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان\" قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله \" وأمه لبابة بنت الحارث أخت ميمونة زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وولد ابن عباس قبل الهجرة بثلاث سنوات. فكان وأمه من المستضعفين. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة بالهجرة، روى الترمذي في سننه وقال عنه حسن صحيح غريب عن الحارث الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \" إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يبطئ بها. وأنا آمركم بخمس، الله أمرني بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع. ومن ادعى دعوى الجاهلية، فإنه من جثى جهنم، فقال رجل: يا رسول الله وإن صلى وصام؟ فقال: وإن صلى وصام. وأورد الألباني في السلسلة الصحيحة 1937 عن أبي فاطمة الأيادي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"عليك بالهجرة فإنه لا مثل لها.. \" إلى آخر الحديث.

وبقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظر أمر الله له بالهجرة، روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأربعين سنة فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين ومات وهو ابن ثلاث وستين\" وروى الترمذي في سننه عن عبد الله بن عباس قال: \"كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه: وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا وقد كانت للمسلمين معاناة في طريق هجرتهم تبين مقدار ما بذلوا ليبقى الدين حيا في القلوب وفي الحياة، فهذا صهيب الرومي يتنازل عن جميع ماله، أورد ابن حجر العسقلاني في المطالب العالية 4/287 عن أبي عثمان النهدي قال: \"إن صهيبا حين أراد الهجرة إلى المدينة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا فكثر مالك عندنا وبلغت ما بلغت، ثم تريد أن تخرج بنفسك ومالك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم: أرأيتم إن أعطيتكم مالي أتخلون سبيلي؟ فقالوا: نعم، فقال: أشهدكم أني قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ربح صهيب ربح صهيب \" وفي الهجرة صعوبة فراق الأهل والأحباب، من ذلك ما رواه أبو داود في سننه وصححه الألباني عن عبدالله بن عمرو قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال ارجع عليهما فأضحكهما كما أبكيتهما \" وفي الهجرة التعرض للجوع ونقص المؤونة، من ذلك ما أورده الألباني في السلسلة الصحيحة 2580 وقال عنه حسن، عن عمير مولى آبي اللحم قال: \"أقبلت مع سادتي نريد الهجرة، حتى دنونا من المدينة، قال: فدخلوا المدينة و خلفوني في ظهرهم، قال: فأصابني مجاعة شديدة، قال: فمر بي بعض من يخرج من المدينة فقالوا لي: لو دخلت المدينة فأصبت من ثمر حوائطها، فدخلت حائطا فقطعت منه قنوين، فأتاني صاحب الحائط(بستان النخيل)، فأتى بي إلى رسول الله و أخبره خبري، و علي ثوبان، فقال لي: (أيهما أفضل؟ )، فأشرت له أحدهما فقال: \" خذه \"، و أعطى صاحب الحائط الآخر، و (خلى سبيلي) وفيها فقر شديد وعري، روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: \"جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام علينا.. \" إلى آخر الحديث. ولم يمنع الحمل النساء من الهجرة لمسافة تناهز 500 كلم معظمها صحراء، ففي صحيح البخاري عن عروة بن الزبير أن أسماء بنت إبي بكر - رضي الله عنهما - هاجرت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى. وأما عن هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - المفصلة في كتب السير فتبرز مقدار المعاناة بدءا من الحكم بالقتل في دار الندوة والتسلل بين السيوف المشرعة، وترك علي - رضي الله عنه - على فراش أقل ما يوصف به أنه \"فراش الموت\" وتورم قدمي النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى اضطر أبو بكر إلى حمله عندما صعدوا إلى الغار، وحال الغار المليئة بالهوام والعقارب حيث اضطر أبو بكر إلى تمزيق أجزاء من ثيابه وسد ثقوبه، وحال استنفار قريش والجوائز التي رصدتها، ووصول طالبهما إلى فم الغار، بحيث لو أبصر أحدهما عند قدميه لرآهما، وحكاية المغامرين في طلبهما كأمثال سراقة الذي كاد يدل عليهما لولا لطف الله - تعالى -... مكانة الهجرة والمهاجرين: فالهجرة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - شأنها شديد، وهي منزلة عظيم من منازل الإسلام، قعد الشيطان بأطرقها كما قعد لمن يريد الإسلام أول مرة ولمن يريد الجهاد، وهي سنة عدد من الأنبياء، كإبراهيم - عليه السلام - الذي قال \" وَأَعتَزِلُكُم وَمَا تَدعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48)مريم، وَقَالَ: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهدِينِ (99) فتنقل بين العراق ومصر وفلسطين والحجاز، وكاد يفتن في زوجته \"سارة\" فتنة شديدة، لولا لطف الله وحفظه. وموسى - عليه السلام - الذي تصادف ذكرى هجرته مع بني إسرائيل العاشر من شهر المحرم، حيث قال الله في شأنه: \" وَلَقَد أَوحَينَا إِلَى مُوسَى أَن أَسرِ بِعِبَادِي فَاضرِب لَهُم طَرِيقًا فِي البَحرِ يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخشَى، فَأَتبَعَهُم فِرعَونُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُم، وَأَضَلَّ فِرعَونُ قَومَهُ وَمَا هَدَى. وقد قرن الله في كتابه بين الهجرة والجهاد بيانا لعلو مكانتها عنده، قال - سبحانه -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَـئِكَ يَرجُونَ رَحمةََ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218)البقرة. وهم في كتابه من المومنين حقا، ومن الصادقين والفائزين، وممن رضي عنهم، وممن يكفر سيئاتهم ويدخلهم جنانه، قال - تعالى -: \" لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسرَةِ مِن بَعدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ, مِّنهُم ثُمَّ تَابَ عَلَيهِم إِنَّهُ بِهِم رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (117)التوبة، ومن أمثلة ما حدث لهم من المغفرة ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله قال: لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. هاجر إليه الطفيل بن عمرو. وهاجر معه رجل من قومه. فاجتووا المدينة (أصابهم الجوى داء البطن إذا تطاول). فمرض، فجزع، فأخذ مشاقص له (سهم بطرف حاد عريض)، فقطع بها براجمه (عقد الأصابع ومفاصلها)، فشخبت يداه(سال الدم منها) حتى مات. فرآه الطفيل ابن عمرو في منامه. فرآه وهيئته حسنة. ورآه مغطيا يديه. فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -. فقال: ما لي أراك مغطيا يديك؟ قال قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت. فقصها الطفيل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - \" اللهم! وليديه فاغفر \". وكما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم فقراء المهاجرين أول من يجتاز الصراط، وجاء في حديث لأبي داود بأن ضعفاءهم من أول من يدخل الجنة، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذاك خمس مائة سنة \" والهجرة في دين الله تهدم ما قبلها من الذنوب روى مسلم عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: \"أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك. فبسط يمينه. قال فقبضت يدي. قال \" مالك يا عمرو؟ \" قال قلت: أردت أن أشترط. قال \" تشترط بماذا؟ \" قلت: أن يغفر لي. قال \" أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ \" وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يبغي عن صفة المهاجر بديلا، روى البخاري عن عبد الله بن زيد قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار \" والمدينة شرفت بالهجرة، ففي الحديث الصحيح أو الحسن الذي ذكره الهيثمي المكي في \"الزواجر\"1/207\"المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان وأرض الهجرة ومثوى الحلال والحرام \" وقد كانت الهجرة موضع فخر وتنافس بين الصحابة ومنهم من ظفر بفضل الهجرتين، فأسماء بنت عميس التي قال فيها عمر الحبشية هذه البحرية، عندما قال لها: \" سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منكم فغضبت وقالت كلا والله كنتم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في الله وفي رسوله - صلى الله عليه وسلم - وايم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأسأله والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا قال فما قلت له قالت قلت له كذا وكذا قال ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان. قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالا يسألوني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -\". قال أبو بردة قالت أسماء فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني\" الحديث من رواية البخاري. والهجرة كانت من شروط الولاء في مجتمع المومنين، وكانت من شروط التوارث: روى أبو داود عن ابن عباس: في قوله عالى (والذين آمنوا وهاجروا) (والذين آمنوا ولم يهاجروا) كان الأعرابي لا يرث المهاجر ولا يرثه المهاجر فنسختها فقال (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) وكان يؤمر من لم يهاجر بإعادة حجه، أورد ابن الملقن في البدر المنير 6/16 عن عبدالله بن عباس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى\" وكان نساء المهاجرين يرثن دور سكنى أزواجهن، روى أبو داود عن زينب أنها كانت تفلي رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده امرأة عثمان بن عفان ونساء من المهاجرات وهن يشتكين منازلهن أنها تضيق عليهن ويخرجن منها فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تورث دور المهاجرين النساء فمات عبد الله بن مسعود فورثته امرأته دارا بالمدينة\" قال صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داود: \"قَالَ فِي فَتح الوَدُود: إِذَا مَاتَ زَوج وَاحِدَة فَالدَّار يَأخُذهَا الوَرَثَة وَتَخرُج المَرأَة وَهِيَ غَرِيبَة فِي دَار الغُربَة فَلَا تَجِد مَكَانًا آخَر فَتَتعَبَ لِذَلِكَ اِنتَهَى (فَأَمَرَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَن تُوَرَّث)... قَالَ الخَطَّابِيٌّ: فَأَمَّا تَورِيثه الدٌّور لِنِسَاءِ المُهَاجِرِينَ خُصُوصًا فَيُشبِه أَن يَكُون ذَلِكَ عَلَى مَعنَى القِسمَة بَين الوَرَثَة، وَإِنَّمَا خَصَّهُنَّ بِالدٌّورِ لِأَنَّهُنَّ بِالمَدِينَةِ غَرَائِب لَا عَشِيرَة لَهُنَّ بِهَا، فَحَازَ لَهُنَّ الدٌّور لِمَا رَأَى مِن المَصلَحَة فِي ذَلِكَ. وَفِيهِ وَجه آخَر وَهُوَ أَن تَكُون تِلكَ الدٌّور فِي أَيدِيهنَّ مُدَّة حَيَاتهنَّ عَلَى سَبِيل الإِرفَاق بِالسٌّكنَى دُون المِلك كَمَا كَانَت دُور النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَحُجَره فِي أَيدِي نِسَائِهِ بَعده لَا عَلَى سَبِيل المِيرَاث، فَإِنَّهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: \" نَحنُ لَا نُورَث مَا تَرَكنَاهُ صَدَقَة \" و أوجبت الهجرة للمهاجرين حق الميراث في مال الأنصار في بداية الأمر قبل توريث ذوي الفروض والعصبات من القرابة. وكان للهجرة مدخل تفضيل في إمامة الصلاة بعد القرآن، وكان المهاجرون ممن يلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنزلهم - عليه السلام - في ميمنة المنازل في الحج وجعلهم في مقدم مسجد منى، وكانوا الكتيبة الجاهزة في جنب رسول الله. وكان للهجرة مدخل في التفضيل والتقديم بين الصحابة، واشترى النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الهجرة بعبدين، وكان عمر يكرم المهاجرين ويفضلهم بالزيادة في العطاء، وكانوا من مشورته، وأوصى بهم الخليفة بعده. أثر حدث الهجرة في حاضر المسلمين ومستقبلهم: نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أنه لا هجرة إلى المدينة بعد الفتح، والهجرة ماضية إلى يوم القيامة روى البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا.. \" وروى البخاري عن مجاشع بن مسعود السلمي قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخي بعد الفتح، قلت: يا رسول الله، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة. قال: (ذهب أهل الهجرة بما فيها). فقلت: على أي شيء تبايعه؟ قال: (أبايعه على الإسلام، والإيمان، والجهاد). ولم يكن الصحابة يرون الهجرة المكانية بعد الفتح، روى الوادعي في الصحيح المسند وحسنه أثرا فيه: \"كنا نقاتل الخوارج، وفينا عبد الله بن أبي أوفى، وقد لحق له غلام بالخوارج، وهم من ذلك الشط ونحن من ذا الشط فناديناه: أبا فيروز أبا فيروز ويحك، هذا مولاك عبد الله بن أبي أوفى قال: نعم الرجل هو لو هاجر قال ما يقول، عدو الله، قال قلنا يقول: نعم الرجل لو هاجر قال فقال: أهجرة بعد هجرتي مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (وفي رواية: يرددها ثلاثا) ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: طوبي لمن قتلهم وقتلوه. وبخصوص الهجرة المعنوية روى أبو داود في سننه عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها \" روى ابن حجر العسقلاني في الإصابة (1/245)عن أبي الخير أن جنادة بن أبي أمية حدثه أن رجالا من الصحابة قال بعضهم: إن الهجرة قد انقطعت فاختلفوا في ذلك فانطلقت إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد\" هل تنتظر المسلمين هجرة إلى فلسطين في آخر الزمن؟ روى ابن حجر العسقلاني في هداية الرواة 5/497 وحسنه عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله: إنها ستكون هجرة بعد هجرة إلى مهاجر إبراهيم - عليه السلام - وفي رواية فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم تقذرهم نفس الله تحشرهم النار مع القردة والخنازير تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا \"والحديث عند أبي داود في سننه وصححه الألباني [أي تراجع الشيخ وصححه، انظر \" الصحيحة \" رقم: 3203] ومن استحضار أثر الهجرة هجر أهل الكفر والفسق المعتدين إن هم عاندوا وأصروا بعد الدعوة والبيان، قال - تعالى -: وَاصبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهجُرهُم هَجرًا جَمِيلاً (10)المزمل ومن ذلك: هجر الرجز، قال - تعالى -: يَا أَيٌّهَا المُدَّثِّرُ (1) قُم فَأَنذِر (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّر (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّر (4) وَالرٌّجزَ فَاهجُر (5)المدثر ومن ذلك الحذر من هجر كتاب الله حتى لا يكون من قيل فيهم: \"وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَومِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرآنَ مَهجُورًا (30)الفرقان والمومن لا يهجر أخاه فوق ثلاث: روى البيهقي في السنن الصغير عن عبد الله بن عمر وأنس بن مالك قالا: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجاوز بالهجرة في الكلام ثلاثا \" فالهجرة عقيدة وسلوك، يحكمها شرع الله وأمره، يهجر المومن ما نهى الله عنه، ويعظم حدث الهجرة بتعظيم الله له، ويوقر ويدعو للمهاجرين الأولين والأنصار بالخير، ويحبهم ويقتدي بسنتهم وقبل ذلك يهتدي بسنة الحبيب سيد المهاجرين والمجاهدين محمد الأمين، - صلى الله عليه وسلم - في العالمين.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply