بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا خير أمة أخرجت للناس، بالأمس كنا نستعد لاستقبال شهر رمضان المبارك، ونعدّ العدة فرحين بنعمة الله، وها نحن اليوم نلوّح بأيدينا مودّعين رمضان، وكلنا حزن على فراقهº لأنه شهر الخير، شهر البركة، شهر الصبر، شهر المواساة، شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.
من منا لا تؤلم نفسَه لحظاتُ الفراق؟! ومن منا لا تجرح مشاعرَه ساعات الغياب؟! بدموع الفرح استقبلنا رمضان، وكأنني بك تطلق العبرات لسماع أول موعظة في رمضان، وها أنت بدموع الأثر والتأثّر تودّعه، بالأمس كان الإفطار حرامًا، فأصبح اليوم الصيام حرامًا، وليس بين اليومين حاجز زماني، الذي حرّم إفطار ذاك هو الذي حرّم صيام هذا، إنها أيام أكل وشرب وذكر لله تبارك وتعالى.
قَدِمَ رسولُ الله المَدِينَةَ وَلَهُم يَومَانِ يَلعَبُونَ فيهِمَا فقال: ((مَا هَذَانِ اليَومَانِ؟)) قالُوا: كُنّا نَلعَبُ فِيهِمَا في الجَاهِليّةِ، فقال رسولُ الله: ((إنّ الله قَد أبدَلَكُم بِهِمَا خَيرًا مِنهُمَا: يَومَ الأضحَى، وَيَومَ الفِطر)) رواه أبو داود. وفيه نهاية من اللطف وأمر بالعبادةº لأن السرور الحقيقي فيها، قال الله - تعالى -: ( قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ ) [يونس: 58]، حيث كل عيد منهما بعد أداء فريضة وقربة إلى الله - سبحانه وتعالى -، فعيد الفطر السعيد بعد أداء فريضة الصيام، وعيد الأضحى بعد أداء فريضة الحج، فالعيد بمثابة استراحة من سفر أو ري بعد ظمأ، فيزداد العبد بالعيد قربًا من الله تبارك وتعالى.
أمة الحبيب الأعظم، بعد أن صام المسلمون وتخرجوا من رمضان بأرواح لطيفة وشفافة طهروا أنفسهم وأرواحهم، وها هم يقبلون على يوم العيد هذا مهنّئين متودّدين، يمسحون رأس اليتيم، ويمدون يد العون والمساعدة للفقراء والمساكين بالبر والعطاء.
ماذا جنى الصائمون بعد صيامهم؟ وبم أثابهم الله - عز وجل -؟ إن الصائمين حينما يخرجون من صلاة العيد سوف يقبضون جوائزهم، فقد نجحوا في هذا الامتحان وتخرجوا من مدرسة رمضان قال رسول الله: ((إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطريق فنادوا: اغدوا ـ يا معشر المسلمين ـ إلى رب كريم، يمن بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربكم، فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلّوا نادى مناد: ألا إن ربكم قد غفر لكم، فارجعوا راشدين إلى رحالكم، فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة)) رواه الطبراني في الكبير.
ولكي تستلم جائزتك ماذا عليك أن تعمل؟ يندب لك أن تلبس أحسن الثياب وتتطيب بأجود الأطياب في يوم العيد لما أخرجه الحاكم من حديث الحسن السبط قال: أمرنا رسول الله في العيدين أن نلبس أجود ما نجد، وأن نتطيب بأجود ما نجد. وكان النبي يلبس بُردًا حَبرَة في كل عيد. رواه البيهقي. والحَبرَة: الموشى والمخطط. فلنلبس أجمل وأحسن الأخلاق وأكمل الشمائل، ولنتطيب بأطيب الخصال.
ويسن للمسلم أن يذهب من طريق ويرجع من آخر لتشهد عليه الملائكة، لحديث جابر - رضي الله عنه - قال: كان النبي إذا كان يوم عيد خالف الطريق. رواه البخاري.
والعيد الحقيقي هو يوم لا نعصي الله - تعالى -، ولقد قيل لأحد الصالحين: متى عيدكم؟ فقال: يوم لا نعصي الله - سبحانه وتعالى -، وقال آخر: ليس العيد لمن لبس الجديد وأكل المزيد، بل العيد لمن أمن الوعيد وكانت طاعاته تزيد. وليس العيد لمن لبس الملابس الفاخرة، إنما العيد لمن أمن عذاب الآخرة.
العيد أقبل يا أخيَّ فلا تكن *** فرحـا به فما هو عيـد
ما العيد إلا أن نعود لديننا *** حتى يعود نعيمنا المفقـود
ما العيد إلا أن نكوِّن أمة *** فيها محمد لا سواه عميد
ما العيد إلا أن يُرى قرآننا *** بين الأنام لواؤه معقـود
أمة الحبيب الأعظم، ولئن عاق سير الصائم أخطاء وزلات وذنوب وشهوات، فقد عالج الشرع الحنيف هذه النواقص وهذه الآثار المرَضية العالقة بالروح لا بالجسد، عن ابنِ عَبّاسٍ, - رضي الله عنهما - قال: فَرَضَ رَسُولُ الله زَكَاةَ الفِطرِ طُهرَةً لِلصّيَامِ مِنَ اللّغوِ وَالرّفَثِ وَطُعمَةً للمَسَاكِينِ، مَن أَدّاهَا قَبلَ الصّلاَةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقبُولَةٌ، وَمَن أَدّاهَا بَعدَ الصّلاَةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصّدَقَاتِ. رواه أبو داود.
فزكاة الفطر لشهر رمضان كسجدة السهو للصلاة، تجبر نقصان الصوم كما يجبر سجود السهو النقصان والخلل في الصلاة، وزكاة الفطر سبب لقبول الصيام، قال رسول الله: ((صوم رمضان معلق بين السماء والأرض، ولا يرفع إلا بزكاة الفطر)) رواه أبو حفص ابن شاهين.
أمة الحبيب الأعظم، جاء رمضان ومضى، وكأنه برق خاطف، حاملاً حصيلة أعمالنا من صوم وصلاة وصدقة وبر وإحسان وقراءة للقرآن، فطوبى لعبد اغتنم الأداء وأحسن الانتهاء، فحصل على النجاة عند اللقاء، وحل العيد بنا ضيفًا عزيزًا على قلوبنا، فهل لنا من وقفة وفاء لرمضان؟! إن الوفاء من شيمة الإسلام، ومن لا وفاء له لا خلاق له، عن أبي أيوب - رضي الله عنه - أن رَسُول اللَّهِ قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر)) رَوَاهُ مُسلِم.
والأفضل أن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر، فإن فرقها أو أخرها عن أوائل شوال إلى أواخره حصلت فضيلة المتابعةº لأنه يصدق أنه أتبعه ستًا من شوال، قال العلماء: وإنما كان ذلك كصيام الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر والستة بشهرين.
أمة الحبيب الأعظم، إن كثيرًا من الناس يهتم في رمضان بمختلف صنوف الطاعات والقربات، فإذا ودع الشهر هجر هذه الطاعات، وكأنه لا يعرف الله إلا في رمضان، وكأن رب رمضان ليس ربًا لسائر أشهر العام. فهناك من يقبل على كتاب الله في رمضان ويختمه مرارًا وقد هجره طوال العام ،( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَومِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرآنَ مَهجُورًا ) [الفرقان: 30]. وهناك من كان أخًا للمسجد فإذا انتهى رمضان فإنه لا يعرف إلى المسجد سبيلاً، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه كتب إلى سلمان - رضي الله عنه -: يا أخي، ليكن المسجد بيتك فإني سمعت رسول الله يقول: ((المسجد بيت كل تقي، وقد ضمن الله لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والراحة والجواز على الصراط إلى رضوان الرب)) رواه البيهقي.
ليقف كل واحد منا مع نفسه ويسأل: كيف استقبل ضيفه العزيز رمضان؟ هل أطعمت جارًا؟ هل زرت أخا في الله؟ هل نصرت مظلومًا؟ هل آويت يتيمًا؟ هل بررت والديك؟ هل قمت بصلة الأرحام؟ هل عدت مريضًا؟ هل فطرت صائمًا؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها ونحن نودع هذا الشهر الكريم، ليتبين الفائز من العاثر والرابح من الخاسر.
أتمنى من الله - تعالى -أن نكون قد تخرجنا من مدرسة رمضان وقد غسلنا قلوبنا من كل غل وحقد وحسد وبغضاء وشحناء، وطهرنا ألسنتنا من الكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور.
ويسن للمسلم ـ أيها الإخوة ـ أن يُظهِر الفرح والبشاشة لمن لقيه في يوم العيد لما روي عن حبيب بن عمر الأنصاري قال: حدثني أبي قال: لقيت واثلة يوم عيد فقلت: تقبّل اللّه منا ومنك، فقال: تقبل اللّه منا ومنك. رواه البيهقي.
فأسأل الله العلي الكبير أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وكل عام وأمتنا الإسلامية بألف خير.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد