بسم الله الرحمن الرحيم
شكلت المناسبات الإسلامية مادة خصبة للشعراء منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا، وتفاوت إحساسهم به قوة وضعفا، عبادة وعادة، وأخذ هذا الاهتمام مظاهر عديدة، بدت في أغراض شعرية مختلفة منها:
تحري رؤية الهلال
ومن ذلك قول ابن الرومي
ولما انقضى شهـر الصيـام بفضله *** تجلَّى هـلالُ العيـدِ من جانبِ الغربِ
كحاجـبِ شيخٍ, شابَ من طُولِ عُمرِه *** يشيرُ لنا بالرمـز للأكـلِ والشٌّـربِ
وقول ابن المعتز:
أهـلاً بفِطـرٍ, قـد أنـافَ هـلالُـه *** فـالآنَ فاغدُ على الصِّحاب وبَكِّـرِ
وانظـر إليـه كزورقٍ, من فِضَّــةٍ, *** قـد أثقلتـهُ حمـولـةٌ مــن عَنبَـرِ
تهنيئة الملوك:
ومثال ذلك تهنئة البحتريّ للخليفة العباسي المتوكل (ت274هـ) بقوله:
بالبر صمت وأنت أفضل صائم *** وبسنة الله الرضية تفطر
فانعم بعيد الفطر عيداً إنه *** يوم أغرٌّ من الزمان مشهّر
وقول المتنبي لسيف الدولة عند انسلاخ شهر رمضان عام 442هـ:
الصَّـومُ والفِطـرُ والأعيادُ والعُصُر *** منيـرةٌ بـكَ حتى الشمسُ والقمـرُ
وقوله في قصيدة مطلعها:
لكـلِّ امـرىءٍ, من دهـره ما تعوّدا *** وعادةُ سيفِ الدولةِ الطَّعنُ في العِـدا
قال:
هنيئـاً لـكَ العيـدُ الذي أنتَ عِيدُه *** وعيـدٌ لمـن سَمَّى وضحّى وعيّـدا
ولا زالـتِ الأعيـادُ لُبسَـكَ بعَـده *** تُسَلِّـمُ مخـروقـاً وتُعطى مُجــدّدا
الشكوى وندب الحال:
ولعل أشهر ما قيل في ذلك دالية المتنبي في وصف حاله بمصر:
عيـدٌ بأيّـةِ حـالٍ, جِئـتَ يا عيـدُ *** بمـا مضـى أم بأمـرٍ, فيكَ تجديـدُ
أمّـا الأحِبـة فالبيـداءُ دونَـهــم *** فليـت دونــك بيـداً دونهـم بيـدُ
وهي مشهورة معروفة.
وشكوى المعتمدُ بن عباد بعد زوال ملكه، وحبسه في (أغمات) فقال قلبه وهو يرى بناته جائعات عاريات حافيات في يوم العيد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا *** وكان عيدك باللذات معمورا
وكنت تحسب أن العيد مسعدةٌ *** فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعةً *** في لبسهنّ رأيت الفقر مسطورا
معاشهنّ بعيد العزّ ممتهنٌ *** يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعةً *** عيونهنّ فعاد القلب موتورا
قد أُغمضت بعد أن كانت مفتّرةً *** أبصارهنّ حسيراتٍ, مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافيةً *** تشكو فراق حذاءٍ, كان موفورا
قد لوّثت بيد الأقذاء اتسخت *** كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
لا خدّ إلا ويشكو الجدب ظاهره *** وقبل كان بماء الورد مغمورا
لكنه بسيول الحزن مُخترقٌ *** وليس إلا مع الأنفاس ممطورا
أفطرت في العيد لا عادت إساءتُه *** ولست يا عيدُ مني اليوم معذورا
وكنت تحسب أن الفطر مُبتَهَجٌ *** فعاد فطرك للأكباد تفطيرا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً *** لما أمرت وكان الفعلُ مبرورا
وكم حكمت على الأقوامِ في صلفٍ, *** فردّك الدهر منهياً ومأمورا
من بات بعدك في ملكٍ, يسرّ به *** أو بات يهنأ باللذات مسرورا
ولم تعظه عوادي الدهر إذ وقعت *** فإنما بات في الأحلام مغرورا
والشاعر العراقي د. السيد مصطفى جمال الدين (ت 1996م) بث شكوى أيام صباه الأولى في قصيدة رائعة قال فيها:
العيدُ أقبلَ تُسعِـدُ الأطفـالَ ما حملت يـداه *** لُعَباً وأثوابـاً وأنغامـاً تَضِـجٌّ بهــا الشِّفاه
وفتاكَ يبحثُ بينَ أسرابِ الطفولةِ عن (نِداه) *** فيعـودُ في أهدابه دَمعٌ، وفي شفتيـه (آه)
وقوله:
هـذا هـو العيـدُ، أيـنَ الأهـلُ والفـرحُ *** ضاقـت بهِ النَّفسُ، أم أودَت به القُرَحُ؟!
وأيـنَ أحبابُنـا ضـاعـت مـلامحُـهـم *** مَـن في البلاد بقي منهم، ومن نزحوا
وقوله:
يـا عيـدُ عـرِّج فقد طالَ الظّما وجَفَت *** تِلكَ السنونُ التي كـم أينَعَـت عِنَبـا
مـا عـادَ في الـروحِ إلاّ ظامىءٌ ولِـهٌ *** مِـنَ الـعــروقِ وإلاّ لاهـثٌ تَعِـبـا
مـا عـاد في الصّـدرِ إلا خافـقٌ تَعِبٌ *** أوهـى بـه الألـمُ المدفونُ فاضطربـا
يـا عيـدُ عُدنـا أعِـدنـا للذي فرِحَت *** بـه الصغيـراتُ مـن أحلامنـا فخبـا
مَن غيّـبَ الضحكـةَ البيضاءَ من غَدِنا *** مَن فَـرَّ بالفـرحِ السهـرانِ مَن هَربَا
لـم يبـقَ مـن عيدنـا إلا الذي تَرَكَت *** لنا يـداهُ ومـا أعطـى ومـا وَهَـبـا
مـن ذكـريـاتٍ, أقَمنـا العُمرَ نَعصِرُها *** فمـا شربنـا ولا داعـي المُنى شَرِبـا
يـا عيـدُ هَـلاّ تَذَكـرتَ الذي أخَـذَت *** منّـا الليالـي ومـا من كأسِنا انسَكَبـا
وهـل تَذَكـَّرتَ أطفـالاً مبـاهِجُـهُـم *** يا عيدُ في صُبحِـكَ الآتي إذا اقتربا
هَـلاّ تَذَكـَّـرتَ ليـلَ الأَمــسِ تملــؤُهُ *** بِشـراً إذا جِئـتَ أينَ البِشرُ..قد ذَهَبا
تذكر مصاب الأمة:
لم تعرف الأمة في عهودها السابقة حالة الاستضعاف التي شهدتها في القرنين الماضيين، لذلك لا نجد نماذج هذا الضرب عن الأعراض الشعرية عندهم، وأكثر ما نجده عند الشعراء المحدثين من أمثال الشاعر عمر بهاء الدين الأميري (ت1356هـ) في قوله:
يقولـونَ لـي: عيـدٌ سعيـدٌ، وإنَّهُ *** ليـومُ حسابٍ, لـو نحـسٌّ ونشعـرُ
أعيـدٌ سعيـدٌ!! يا لها من سعـادةٍ, *** وأوطانُنـا فيهـا الشقاءُ يزمـجـرُ
و قوله:
يمـرٌّ علينا العيـدُ مُـرَّاً مضرَّجـاً *** بأكبادنا والقدسُ في الأسـرِ تصـرخُ
عسى أن يعـودَ العيـدُ باللهِ عـزّةً *** ونَصـراً، ويُمحى العارُ عنّا ويُنسَـخُ
وشكوى الشاعر عمر أبو الريشة (ت 15/7/1990م)
يا عيـدُ مــا افتَرَّ ثَغرُ المجدِ يــا عيد *** فكيـف تلقاكَ بالبِشـرِ الزغـاريـدُ
يا عيدُ كم في روابي القدسِ من كَبِدٍ, *** لها على الرَّفـرَفِ العُلـوِيِّ تَعييــدُ
سينجلـي لَيلُنا عـن فَجـرِ مُعتَرَكٍ, *** ونحـنُ في فمـه المشبوبِ تَغريـدُ
حقيقة معنى العيد:
وهذه مثالها قو ل أبي إسحاق الإلبيري:
ما عيدك الفخم إلا يوم يغفر لك *** لا أن تجرَّ به مستكبراً حللك
كم من جديد ثيابٍ, دينه خلق *** تكاد تعلنه الأقطار حيث سلك
ومن مرقع الأطمار ذي ورع *** بكت عليه السما والأرض حين هلك
وهو قول ينم عن عمق معرفة بحقيقة العيد، وكونه طاعة لله وليس مدعاة للغرور والتكبر.
اللهم أجعل أيامنا أعياداً نفرح فيها بالطاعة، ونطمح فيها للمغفرة، وندعو فيها لعزة الأمة ومجدها.آمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد