وقفات مع الإجازة الصيفية


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

أما بعد: أيها المسلمون، إن مرجع كثير من المشكلات الدينية أو الاجتماعية أو الأخلاقية والسلوكية في فترات الإجازات الصيفية ذلك الفراغ الهائل الذي يخيم على أكثر الناس في هذه الفترة، فما الإجازة عند أكثر الناس إلا كمٌ كبيرٌ من الوقت الفارغ الذي لا يحسن استعماله ولا تصريفه، فهي أوقات سائبة وطاقات معطلة من خير الدنيا أو الآخرة، ولقد صدق رسول الله حين قال: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ))[1].

أيها المؤمنون، إنما كان الفراغ نعمة لأن استغلاله في الطاعة والبر يرفع درجة العبد عند ربه، ويحصل له بذلك سعادة الدنيا ونعيم الآخرة، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر كسبها وربحها يوم يقوم الناس لرب العالمين، ولذلك وجّه الله - تعالى -نبيه والأمة بعده إلى استثمار الفراغ بالاجتهاد في الطاعة والنصب والتعب فيما يقرب إلى الله - تعالى -، فقال - جل وعلا -: فَإِذَا فَرَغتَ فَانصَب وَإِلَى رَبِّكَ فَارغَب [الشرح: 7، 8].

وسرّ هذا التوجيه ـ أيها المؤمنون ـ أن العبد إنما خلق لعبادة الله - تعالى -وحده لا شريك له في كل وقت وحين، فقال - جل وعلا -: وَاذكُر رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّح بِالعَشِيِّ وَالإِبكَارِ [آل عمران: 41]، وقال - سبحانه -: فَسُبحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمسُونَ وَحِينَ تُصبِحُونَ وَلَهُ الحَمدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظهِرُونَ [الروم: 17-18]، وقال - تعالى -: وَاعبُد رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ [الحجر: 99]، فإذا فرغ الإنسان مما لا بد له منه من أشغال الدنيا فليعد إلى غاية وجوده وهي عبادة الله - تعالى -.

أيها المؤمنون، إن الفراغ نعمة مهدرة مضيعة عند كثير من الناس، بل هو سبب كثير من المفاسد والشرور الدينية والدنيوية، فمن ذلك:

إن الفراغ المهدر سبب لتسلّط الشيطان بالوساوس الفاسدة التي ينشأ عنها كثير من الانحرافات والمعاصي، فنفسك إن لم تشغلها بالحق والخير شغلتك بالباطل والشر.

أيها المؤمنون، إن الفراغ السائب سبب لكثير من الأمراض الجسمية والنفسية، الحسية والمعنوية، فحق على كل مؤمن أن يأخذ بما أمر الله - تعالى -به وبما أوصى به النبي: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك))[2].

أيها المؤمنون، إن كيفية قضاء الإجازة الصيفية أمر يحتاج إلى أن نقف معه عددًا من الوقفات:

الوقفة الأولى: مع الشباب ذكورًا وإناثًا:

أيها الشباب، أنتم عماد الأمة ورصيدها وذخرها وسر نهضتها وبناة مجدها ومستقبلها، فبصلاحكم واستقامتكم تصلح الأمة وتستقيم، ومن أهم عوامل تحقيق صلاحكم واستقامتكم وعيكم بواجبكم وملؤكم أوقاتكم بالنافع المفيد، وها أنتم ـ أيها الشباب ـ تستقبلون إجازتكم السنوية، فإياكم إياكم والفراغ والبطالة، فإنهما أصل كثير من الانحراف ومصدر أكثر الضلال، كما قال الأول:

إن الشباب والفراغ والجِدة .... مفسدة للمرء أي مفسدة

فاملؤوا أوقاتكم في هذه الإجازة بالنافع والمفيد في دين أو دنيا، ولا تتركوها نهبًا لشياطين الإنس والجن. وقد يسر الله - تعالى -لكم في هذه الأزمان قنوات عديدة، تستغلون من خلالها أوقاتكم، وتنمون قدراتكم وعلومكم ومعارفكم، بل وإيمانكم، فمنها حِلق القرآن الكريم المنتشرة في المساجد، فإنها من رياض الجنة وفيها خير عظيم.

ومن هذه القنوات التي تحفظون بها أوقاتكم تلك الدروس العلمية والدورات التي تقام هنا وهناك، وفيها يتعلم الشاب ما يجب عليه معرفته من علوم الشريعة والدين.

ومن هذه القنوات أيضًا المراكز الصيفية التي يشرف عليها أساتذة فضلاء ومربون نجباء، يعملون على إشغال أوقات الشباب بما يفيدهم وينفعهم، ففيها الأنشطة الترويحية والمهنية، وفيها الدورات العلمية والثقافية.

فاحرصوا ـ أيها الشباب ـ على الانضمام إليها، والاستفادة منها، فإن فيها خيرًا كثيرًا، وغالب المشتركين فيها هم أهل الخير والصلاح من الشباب.

شباب كما الإسلام يرضى خلائقًا ودينًا ووعيًا في اسوداد المفارق

أقاموا لواء الديـن من بعد صدعه وأعلوا لـواء الحقّ فوق الخلائق

فإن أبيت هذا فاحرص على شغل وقتك بتجارة أو زراعة أو صناعة، تملأ وقتك، وتحفظك من شرور الفراغ وأهله، فإن نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ولا بد.

وإياك ـ يا أخي الحبيب ـ ورفقةَ السوء وقرناءَ الشر الذين يزينون لك المنكر ويدعونك إليه، ففر منهم فرارك من الأسد.

الوقفة الثانية: مع أولياء الأمور من الآباء والأمهات، فأقول لهم:

أيها الأفاضل، إن الله - تعالى -منّ عليكم بالولد، ذكورًا وإناثًا، وتلك من مننه الكبار.

منن الإله على العباد كثيرة وأجلّهنّ نجابـة الأولاد

وحمّلكم الله - تعالى -مسؤولية تربيتهم وحفظهم وتنشئتهم على العبادة والطاعة، كما قال النبي: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجِّسانه))[3]، فما تقومون به اليوم من حسن التربية والرعاية والحفظ والصيانة لفلذات أكبادكم تجنونه ثوابًا وأجرًا عند الله في الآخرة، وبرًا وإحسانًا في الدنيا، وقد كلفكم الله وأمركم بحفظهم ووقايتهم، قال الله - تعالى -: يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ [التحريم: 6]، وقد قال النبي: ((والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها)) رواه الشيخان[4]. فمحافظتك على أولادك ورعايتك لهم والاجتهاد في إصلاحهم وإبعادهم عن الفساد وأهله مقدمة ضرورية لاستقامتهم وصلاحهم.

وينشأ ناشئ الفتيان منّـا على ما كان عوّده أبوه

فالأب الذي أدار ظهره لأولاده وبيته، فلم يجلس فيه إلا ساعات قصارًا، في نوم أو أكل، وقد أخذت مشاغله بتلابيب قلبه، وشغلت لبه وقلبه، فلم يلتفت لأولاده، ولا لتربيتهم وإصلاحهم، هل قام بما أوجب الله عليه؟!

والأب الذي ترك الحبل على الغارب لأولاده ذكورًا وإناثًا، يخرجون متى يشاؤون، ومع من يريدون، يسهرون إلى الفجر، وينامون أكثر النهار، ويصاحبون أهل السوء، ويهاتفون أهل الشر، هل قام بحفظهم ورعايتهم؟!

والأب الذي أدخل إلى بيته وسائل الإفساد والدمار، وامتطت صحون الشر وأطباق البلاء صهوة بيته، وانتشرت مجلات الشر وأشرطة الخراب في حجر أولاده، هل قام بتنشئة أولاده على البر والتقوى؟!

إن الجواب على هذه الأسئلة ما ترونه من أحوال أبناء هؤلاء لا ما تسمعون.

فيا أولياء الأمور، اتقوا الله فيمن استرعاكم الله إياهم، مروا أولادكم بالمعروف، ورغبوهم فيه، وانهوهم عن المنكر، ونفروهم منه، احفظوهم عن قرناء السوء وأصحاب الشر، أبعدوهم عن وسائل الإعلام الفاسد، أشغلوا أوقاتهم في هذه الإجازة بما يعود عليهم بالنفع في دينهم ودنياهم، وبادروا بذلك كله في أوائل أعمارهم، فإن الأمر كما قيل:

إن الغصون إذا عدّلتها اعتدلت ولا تليـن إذا قوّمتها الخشب

 

--------------------

[1] أخرجه البخاري في الرقاق (933)

[2] رواه الحاكم بسند جيد.

 [3] أخرجه البخاري في الجنائز (296).

 [4] أخرجه البخاري في الجمعة (844)، ومسلم في الإمارة (3408).

 

 

 

الخطبة الثانية

أما بعد: فيا أيها المؤمنون، الوقفة الثالثة: مع أولئك الذي قد شدوا حقائبهم، وأعدوا أمتعتهم، وحجزوا مراكبهم للسفر إلى بلاد الكفر والبلاء، ومواطن الفتنة العمياء في الغرب أو الشرق، وما شابهها من البلدان العربية أو الإسلامية، إلى هؤلاء أقول:

اتقوا الله في أنفسكم وأهليكم، فإن السفر إلى تلك البلاد محرم لا يجوز، لما فيه من تعريض النفس والأهل والولد للفتنة التي أعلاها الكفر بالله - تعالى -، وأدناها موافقة المعاصي والذنوب، أو على أقل الأحوال استساغة المنكر والفجور، فإن تلك البلاد والمصايف قد تعرت قلوب أهلها عن الإيمان، وانسلخت أجسادهم عن زي أهل الحشمة والحياء والإسلام، وانتشرت بين أهلها الخمور، وظهر الزنا والخنا، فعدّ المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولا شك أن من ذهب إلى تلك الأمصار فقد عرض نفسه للفتن والأخطار، وأنت ـ يا عبد الله ـ مأمور بالنأي عن الفتن صغيرها وكبيرها، فقد أخبر النبي في فتنة الدجال أن خير مال المسلم في آخر الزمان غنم يتبع بها شعف الجبال، يفر بدينه من الفتن[1]، أعاذنا الله وإياكم من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

وليعلم هؤلاء المفتونون بالسفر إلى تلك البلاد أن عليهم وزر كل ذنب يقارفه أولادهم و أهلوهم، قال النبي: ((ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا يَنقص ذلك من آثامهم شيئًا))[2].

الوقفة الأخيرة: هي مع ورثة الأنبياء من الدعاة وطلبة العلم، فأقول لهؤلاء:

أنتم يا من عقد الأمة عليكم آمالها، ورنت إليكم بأبصارها، وهوت إليكم بأفئدتها، إن المسؤولية التي أنيطت بكم وألقيت على كاهلكم في توجيه الناس وتربيتهم ودعوتهم وتبصيرهم أعظم من مسؤولية غيركم، لا سيما في هذا الزمان الذي كثر فيه الباطل والفساد، ونفقت فيه سلع أهل الكفر والإلحاد، ونشط دعاة التغريب والإفساد، وقويت فيه أسباب الزيغ والانحراف، فالأمة مهددة بجحافل هؤلاء المفسدين المتربصين الذين يجرون الناس إلى الفساد جرًا، ويأطرونهم على الكفر والفسوق والعصيان أطرًا.

فواجبكم إزاء هذا الواقع المفزع المرير كبير خطير، لا يسوغ لكم التخلي عنه ولا الرجوع عنه، فسابقوا ـ بارك الله فيكم ـ أعداءكم، واعملوا بمضاء وجدٍّ,، فاجتهدوا في الدعوة إلى الله - تعالى -، اسلكوا كل سبيل، واطرقوا كل باب لنشر الخير بين الناس، سافروا إلى القرى والأمصار، وعلموا الجاهل، وأرشدوا التائه، ودلوا الحائر، مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حذروا الناس من الفساد والعصيان، عَرٌّوا لهم الباطل، واهتكوا ستره، واكشفوا زيفه، واجهوا الغارة الشعواء التي يشنّها خصوم الإسلام وأعداؤه بالعلم والبيان والدعوة والصبر والإيمان، قاوموا وسائل التدمير والإفساد بوسائل البناء والإرشاد، انشروا الكلمة الطيبة والمحاضرة النافعة والكتاب المفيد، أقيموا الدروس والكلمات في مساجدكم وأحيائكم ومجالسكم واجتماعاتكم، وليبذل كل منكم في مجالهº فالمدرس في حلقته، والمربي في مركزه، والإغاثي في مواطن الاحتياج إليه، أخلصوا في ذلك كله لله - تعالى -، فإن ما كان لله يبقى، وما كان لغيره يذهب أدراج الرياح، لا تحقروا من أعمال البر والدعوة شيئًا، ولو أن تلقى أخاك المسلم بوجه طلق.

واعلموا أنكم إذا أخذتم بذلك كنتم من أحسن الناس قولاً، قال الله - تعالى -: وَمَن أَحسَنُ قَولاً مِمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسلِمِينَ [فصلت: 33].

 

--------------------

[1] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3055).

 [2] أخرجه مسلم في العلم (4831).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply