أم زائرة ولا مزور ( 2/3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 إلا فتاها.. يا ترى ما عاقه؟!

رأت النساء مزغردات حولها *** فرحا بلقيا ابنٍ, وضم حفيد

 

إلا فتاها! يا ترى ما عاقه؟! *** أو لم يزل في القيد والتصفيد؟!

 

وساوس وهواجس..

أَم يا ترى يشكو السقام؟ فديته *** بالنفس! أسئلة بغير ردود!

 

فرغ الفؤاد من التصبر، بعدما *** يئست، فليس الصبر دون حدود

 

صرخة في وجه السجان..

ولا يخفى التأثر هنا بأسلوب القرآن في قوله "فرغ الفؤاد"، فهو مأخوذ من التعبير القرآني عن أم موسى - عليه السلام -، وذلك في قول الله - تعالى -: (وأصبح فؤاد أم موسى فارغًا إن كادت لتبدي به) [سورة القصص].

ولما أعياها التصبر صاحت بأعلى صوتها تخاطب الحراس، كأنها نمرة في الغابة: لماذا تأخر ابني ولم يظهر؟!

 

صرخة في وجه السجان..

صاحت مزمجرة كنمرة غابة: *** لم قد تأخر فارسي ووحيدي؟!

 

وهنا وقفة في تشبيه الشاعر للأم بأنها "نمرة غابة": فالمعتاد عند العرب - في الغالب - تشبيه المرأة في ثورتها وشجاعتها بأنها - مثلا - تهب كاللبؤة. لكن الشاعر يعلم جيدًا أن البيئة المصرية لا تستسيغ هذه الكلمة - عرفًا - حين تطلق على امرأة، ومن هنا استطاع في براعة أن يخرج من هذا المأزق حين استعاض بالنمرة عن اللبؤة. وهذا من قبيل مراعاة الشاعر في قصيدته لأعراف مجتمعه.

 

ما بالكم لا تنطقون؟ هُبلتموا!! *** أين الرجاء، الحلم؟ أين عمودي؟!

 

ولا يخفى أيضًا هنا التأثر بالأسلوب القرآني في قوله "ما بالكم لا تنطقون؟ "، وهو مأخوذ من مخاطبة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - للأصنام بقوله: (ما لكم لا تنطقون) [سورة الصافات].

وفي قول الشاعر على لسان الأم "هبلتموا" بيان كاف لوصف حالة الأم - بعد أن جاءت مستكينة لزيارة ابنها - وقد خرجت عن شعورها، وهبت فيمن أمامها من الحراس تسألهم عن ابنها، وهم واجمون كالأصنام لا ينطقون.

كما يظهر جليًّا من اختلاف الأسلوب بين شطري البيت أن الشطر الثاني موجه لأصدقاء ولدها المحبوسين معه، بينما كان الشطر الأول موجها للحراس الواقفين.

ويؤكد هذا المعني ما جاء في البيت التالي:

 

خرس الجميع، سوى دموع أحبة *** والدمع خير معبر وشهيد!

 

فكل الواقفين أخرست ألسنتهم، لأنهم يعلمون الحقيقة المرة، ويخشون البوح بها، إلا أن أصدقاءه في السجن لم يملكوا دموعهم التي كشفت ما كان مستورًا، وفضحت ما كان مغمورًا.

 

صدمة مكلومة

وحين قرأت الأم ما أخبر به صمت هؤلاء ودموع هؤلاء: صرخت من صدمة الخبر، ولم تحتمل ما وعته، فخرت مغشيًا عليها.

 

صرخت، وقد وعت الحقيقة مرة *** لا!.. لا! أعيدوا لي بني.. وليدي!

 

خرت من الإغماء، هد بناءها *** نبأ يزلزل ركن أي مشـــــــيد

 

وهنا يوقف المشهد قليلاً، وتسلط الأضواء على جسد صريع من صدمة الخبر، والناس من حولها يرثون لحالها.. ومرة أخرى يضغط الشاعر على زر الإيقاف لساعة السباق.. ويأتي صوت من خلفية المشهد الدرامي الباكي، يردد هذه الكلمات:

 

جريمة قتل.. ورحيل شهيد

 

قتل الفتى، والأم لا تدري به *** من بعد ليلة خطفه المشهود

 

كم عذبوه وهو يحتمل الأذى *** بثبات أطواد، وقلب أسود

 

راموه معترفًا بما لم يأته **فأبى إباء الفارس الصنديد

 

لم يغره وعد بما منوه من *** دنيا، ولم يحفل بهول وعيد

 

فتكالبوا مثل السباع لنهشه *** صنع الجبان الخائن الرعديد

 

صبوا عليه عذابهم ونكالهم *** بأكف سفاح وقلب حقود

 

حتى قضى نحبًا، وأسلم روحه *** متغنيًا بشهادة التوحيد

 

ما أجملها من خاتمة.. متغنيا بشهادة التوحيد.

وهنا يقرر الشاعر حقيقة المعركة: وهي أن النصر كان حليف هذا الثابت الأشم كالطود العظيم، بل بثبات أطواد، وقلب أسود، وأن الخسران والبوار كان للقتلة السفاحين الذين ورثوا عن أصحاب الأخدود جرمهم ووحشيتهم:

 

لم ينهزم، والله، بل هزم الألى *** قتلوه قتلة مؤمني الأخدود

 

ويجد الشاعر نفسه وهو يرثي لحال تلك الأم، وقد استفاقت من إغماءتها، وهي تصيح بصوت تملؤه الحسرات وتخالطه العبرات:

 

رحمى لها! وقد استردت وعيها *** وغدت تصيح بحسرة وشرود

 

قتلوك يا ولدي! ألا شلت يد *** مدت إليك بقسوة وجحود

 

ثم تجد الأم نفسها وهي تردد محاسن الفتى، وأنه لم يرتكب يومًا جرمًا يستحق عليه ما حدث له.

ويستطرد الشاعر في رثاء الفتى على لسان أمه، وذلك فيما يزيد على ستين بيتًا، في أبيات تعد من أروع ما قيل في فن الرثاء في العصر الحديث، وهو ما يستدعي إلى الذاكرة بعض القصائد التي أبدعت في هذا الفن - الرثاء - وذلك مثلما حدث مع الخنساء وهي ترثي أخاها صخرا.

 

رثائية أم لابنها المفقود

 

تقول الأم:

ما كان جرمك يا بني، ولم تكن *** في الناس غير الطاهر المحمود؟!

 

لو أنهم سألوا المكارم والتقى *** والبر عنك، لكن خير شهود

 

هل كان جرمك أن عزفت عن الخنا *** وعففت عن ورد لهم مورود

 

هل كان جرمك أن تعيش لفكرة *** لا للمجون ولا ابنة العنقود(1)

 

تدعو لنهج الله، نهج محمدٍ, *** لا نهج فرعون، ولا نمرود

 

كم أرقتك هموم أمتك التي *** كسرت جحافلها أمام يهود

 

هام الشبيبةُ في سعادَ، ولم تهم *** إلا بسعد تراثنا وسعيد (2)

 

* * *

عشقوا ملاهيهم وعشقك مصحف *** تتلوه بالترتيل والتجويد

 

ما كنت تصحب غير أرباب التقى *** من صائمين وركع وسجود

 

لم تحن رأسك للطغاة، ولم تدن *** يومًا لغير الواحد المعبود

 

ووقفت في صف الضعيف، ولم تمل *** نحو القوي ورفده المرفود

 

لم ترض يوما أن تباع بضاعة *** للأجنبي وماله الممدود

 

وأبيت تركع للجبابرة الألى *** حكموا، ولم يك حكمهم برشيد

 

ورفعت بالتوحيد رأسك عاليٍ,ا *** قتل الألى قتلوك للتوحيد

 

* * *

 

يا ويل أرض تقتل الأطهار من *** أبنائها في غلظة وكنود

 

ويبيت فيها الفرد حرًّا آمنا *** ما عاش عيش الفاجر العربيد

 

كم كنت آمل أن أراك، وإن تكن *** أمسيت ترسف في دم وصديد

 

يا ليتني أعطيت وجهك لثمة *** أفرغت فيها لوعتي وسمودي

 

يا ليت شعري أين قبرك؟ علني *** أسقيه دمعي بل دمي ووجودي

 

وأجود بالنفس الأخير جواره *** وأقيم فيه ليومنا المشهود

 

يا يوم عيد قد رجوت صباحه *** ففجعتني، لا كنت يوم العيد

 

عادت عيون الأمهات قريرة *** بلقاء أبناء، وضم كبود

 

ورجعت بالحسرات تأكل مهجتي *** ورجعت بالعبرات فوق خدودي

 

أضناني الثكل الحزين، فليتني *** ووريت قبل اليوم بطن لحود

 

ما الأرض إلا غابة قد موهت *** بزخارف العمران والتشييد

 

ما أهلها إلا وحوش غطيت *** أنيابها بملابس وبرود

 

ضاقت علي الأرض وهي فسيحة *** ما أضيق الدنيا بدون شهيدي

 

قد كان صبري في الزمان وسلوتي *** قد كان نجمي في الليالي السود

 

قد كان في يومي الحياة، وفي غدي *** أملي، وللأيام كل رصيدي

 

قد كان يحلو كل شيء في فمي *** ما دام بين يدي نضر العود

 

خطف المنون أباه مني غيلة *** أواه من زمن علي عتيد

 

كان الهوى والحب مذ كنا معًا *** في عمر زهر في الربيع نضيد

 

فارقته بالموت، لكن ابننا *** كان العزاء لقلبي المنكود

 

فنذرت أيامي له مختارة *** وتركت أحلام الملاح الغيد

 

لم أُصغ للأم الحنون ولا أبي *** ورددت خطابي بكل برود

 

أضحى أمانته لدي، فصنتها *** وحفظت عهدي، ما نكثت وعودي

 

وتخذته عِرسي ومونس وحشتي *** ومناط آمالي وبيت قصيدي

 

وهجرت ما تزدان حسناء به *** وغدا سوارَ يدي وحليه جيدي

 

ووجدت فيه جنتي بظلالها *** وبنخلها وبطلحها المنضود

 

كم كنت أنظر للزمان بعينه *** وبروحه، في قوة وصمود

 

فإذا مللت العيش لاح بوجهه *** فأحس بالإشراق والتجديد

 

وإذا ذكرت الموت، قلت: حياته *** فيها خلودي وامتداد وجودي

 

قد كنت أحسبني الفقيدة قبله *** واليوم باغتني، فكان فقيدي

 

اليوم أحلامي العِذاب تبخرت *** اليوم ولى طارفي وتليدي

 

اليوم قد خارت قواي، إذ انقضى *** ما كان لي من عدة وعديد

 

اليوم قد باتت حياتي بعده *** كالحوت يلقى في القفار البيد

 

اليوم أضحى الحلو في الفم حنظلا *** والدمع كاسي، والبكاء نشيدي

 

حتى جنازته حرمت وداعها *** والبحث عن مثواه غير مفيد

 

----------------------------------------

1 - ابنة العنقود يقصد بها الخمر.

2 - ربما قصد: سعد بن أبي وقاص وسعيد بن عامر، وهما من الصحابة - رضي الله عنهم -.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply