أيها النيل


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مِـن أَيِّ عَهـدٍ, فـي القُـرَى تتَـدَفَّقُ? *** وبــأَيِّ كَـفٍّ, فـي المـدائن تُغـدِقُ?

 

ومـن السـماءِ نـزلتَ أَم فُجِّـرتَ *** من عليــا الجِنــان جَـداوِلاً تـتَرقرقُ?

 

وبــأَيِّ عَيــنٍ,، أَم بأَيَّــة مُزنَــةٍ, *** أَم أَيِّ طُوفــانٍ, تفيــض وتَفهَــقُ?

 

وبــأَىِّ نَــولٍ, أَنـتَ ناسـجُ بُـردَةٍ, *** للضفَّتيـــن، جَديدُهــا لا يَخــلَقُ?

 

تَســـوَدٌّ دِيباجًـــا إِذا فارقتهـــا *** فـإِذا حـضرتَ اخـضَوضَرَ الإِستَبرَقُ

 

فــي كــلِّ آونــةٍ, تُبـدِّل صِبغـةً *** عجبًــا، وأَنــت الصـابغُ المُتَـأَنِّقُ

 

أَتَـت الدهـورُ عليـكَ، مَهـدُكَ مُـترَعٌ *** وحِيــاضُكَ الشٌّــرق الشـهيَّةُ دُفَّـقُ

 

تَســقِي وتُطعِـمُ، لا إِنـاؤكَ ضـائِقٌ *** بـــالواردين، ولا خــوانُك يَنفُــقُ

 

والمــاءُ تَســكُبُه فيُسـبَكُ عَسـجَدًا *** والأَرضُ تُغرِقهــا فيحيــا المُغـرَقُ

 

تُعيــي مَنـابِعُك العقـولَ، ويسـتوي *** مُتخــبِّطٌ فــي علمِهــا ومُحــقِّقُ

 

أَخـلَقتَ راووقَ الدهـورِ، ولـم تـزل *** بــكَ حَمــأَةٌ كالمسـك، لا تَـتروَّقُ

 

حــمراءُ فـي الأَحـواض، إِلاّ أَنهـا *** بيضــاءُ فـي عُنُـق الـثرى تَتـأَلَّقُ

 

دِيــنُ الأَوائِـل فيـك دِيـنُ مُـروءَةٍ, *** لِـمَ لا يُؤَلَّـه مَـن يَقُـوتُ ويَـرزُقُ?

 

لــو أَن مخلوقًــا يُؤَلَّـه لـم تكـن *** لِســواكَ مَرتبــةُ الأُلوهَــةِ تَخـلُقُ

 

جـعلوا الهـوى لـك والوَقـارَ عبـادةً *** إِنَّ العبـــادةَ خَشـــيةٌ وتَعلٌّـــقُ

 

دانــوا ببحــرٍ, بالمكــارِم زاخـرٍ, *** عَــذبِ المشــارعِ، مَـدٌّهُ لا يُلحَـقُ

 

مُتقيِّــــد بعهـــودِه ووُعـــودِه *** يَجـري عـلى سَـنَنِ الوفـاءِ ويَصدُقُ

 

يَتقبَّــلُ الــوادي الحيــاةَ كريمـةً *** مــن راحَــتَيكَ عَمِيمــةً تتــدفَّقُ

 

متقلِّــب الجــنبين فــي نَعمائِــهِ *** يَعـرَى ويُصبَـغُ فـي نَـداك فيُـورِقُ

 

فيبيــتُ خِصبًـا فـي ثَـراه ونِعمـة *** ويعُمٌّــه مــاءُ الحيــاةِ الموسِـقُ

 

وإِليـك - بَعـدَ اللـهِ - يَرجِـع تحتـه *** مـا جَـفَّ، أَو مـا مـات، أَو ما يَنفُقُ

 

أَيـن الفراعنـةُ الأُلـى اسـتذرى بهـم *** (عيسى)، و(يوسف)، و(الكَلِيمُ) المصعَقُ?

 

المُــورِدونَ النــاسَ مَنهَـلَ حكمـةٍ, *** أَفضَــى إِليــه الأَنبيــاءُ ليَسـتقوا

 

الرافعــون إِلــى الضحـى آبـاءَهم *** فالشـمسُ أَصلُهـمُ الـوَضِيءُ المُعرِقُ

 

وكأَنمــا بيــن البِــلى وقبــورِهم *** عهــدٌ عـلى أَن لا مِسـاسَ، ومَـوثِقُ

 

فحجـابُهم تحـت الـثرى مـن هَيبَـةٍ, *** كحجــابهم فـوق الـثرى لا يُخـرَقُ

 

بلغــوا الحقيقـةَ مِـن حيـاة علمُهـا *** حُجُــبٌ مُكَثَّفَــةٌ، وسِــرُّ مُغلَــقُ

 

وتبيَّنـوا معنـى الوجـودِ، فلـم يَـرَوا *** دونَ الخـــلودِ ســـعادةً تَتحــقَّقُ

 

يَبنــون للدنيــا كمــا تَبنِـي لهـم *** خِرَبًــا، غـرابُ البَيـن فيهـا يَنعَـقُ

 

فقصــورُهم; كُــوخٌ، وبيـتُ بَـداوةٍ, *** وقبــورُهم; صـرحٌ أَشَـمٌّ، وجَوسَـقُ

 

رفعــوا لهـا مِـن جَـندَلٍ, وصفـائحٍ, *** عَمَــدًا، فكــانت حائطًـا لا يُنتَـقُ

 

تتشــايعُ الــدَّاران فيـه: فمـا بـدا *** دُنيـا، ومـا لـم يَبـدُ أُخـرى تَصدُقُ

 

للمــوتِ سِــرُّ تحتَــه، وجِــدارُه *** سُـورٌ عـلى السـرِّ الخـفيِّ، وخَـندَقُ

 

وكــأَنَّ مــنزلهم بأَعمــاقِ الـثرى *** بيــن المحلَّــةِ والمحلَّــةِ" فُنــدُقُ

 

مَوفــورةٌ تحــت الـثرى أَزوَادُهـم *** رَحـب بهـم بيـن الكهـوف المُطبِـقُ

 

ولِمَـن هيـاكلُ قـد عـلا البـاني بها *** بيــن الثريَّــا والــثَّرى تتنَسَّـقُ?

 

منهــا المشـيَّدُ كـالبروجِ، وبعضُهـا *** كــالطَّودِ مُضطَّجِــعٌ أَشَـمٌّ مُنَطَّـقُ

 

جُــدُدٌ كــأَوّلِ عهدهــا، وحِيالَهـا *** تتقــادَمُ الأَرضُ الفضــاءُ وتَعتُـقُ

 

مِــن كـلِّ ثقـلٍ, كـاهلُ الدٌّنيـا بـه *** تَعِـبٌ، ووَجـهُ الأَرضِ عنـه ضَيِّـقُ

 

عـال عـلى بـاع البِـلى، لا يَهتـدِي *** مــا يَعتــلِي منــه ومـا يَتسـلَّقُ

 

مُتمكِّـنٌ كـالطودِ أَصـلاً فـي الـثرى *** والفـرعُ فـي حَـرمِ السـماءِ مُحـلِّقُ

 

هــي مــن بنـاءِ الظلـمِ، إِلا أَنـه *** يَبيَـضٌّ وجـهُ الظلـمِ منـه ويُشـرِقُ

 

لــم يُـرهِق الأُمَـمَ الملـوكُ بمثلهـا *** فخــرًا لهــم يَبقَـى وذكـرًا يَعبَـقُ

 

فُتِنَــت بشـطَّيكَ العِبَـادُ، فلـم يـزل *** قـــاصٍ, يَحُجٌّهُمَــا، ودانٍ, يَــرمُقُ

 

وتضــوَّعَت مِسـكَ الدٌّهـورِ، كأَنمـا *** فــي كــلِّ ناحيـة بَخـورٌ يُحـرَقُ

 

وتقـابلت فيهـا عـلى السٌّـرُرِ الـدٌّمَى *** مُســـتَردِيات الـــذلّ لا تَتَفَنَّــقُ

 

عَطَلـت، وكـان مكـانُهنّ مـن العُلى *** (بِلقِيسُ) تَقبِسُ مــن حـلاهُ وتَسـرقُ

 

وعَـلا عليهـن الـترابُ، ولـم يكـن *** يَزكُــو بِهـنّ سـوى العبـير ويَلبَـقُ

 

حُجُراتُهــا مَوطــوءَةٌ، وســتورُها *** مَهتوكــةٌ، بيــد البِــلى تَتخــرّقُ

 

أَودَى بزينتهــا الزمــانُ وحَليهــا *** والحســنُ بــاقٍ, والشـبابُ الـرَّيِّقُ

 

لــو رُدَّ فِرعــونُ الغـداةَ; لراعـه *** أَنّ الغَـــرانيق العُــلَى لا تَنطــقُ

 

خــلع الزمـانُ عـلى الـورى أَيامَـه *** فـإِذا الضٌّحـى لـكَ حِصَّـةٌ والرَّونَقُ

 

لــكَ مــن مواسـمِه ومـن أَعيـادِه *** مــا تَحسِـرُ الأَبصـارُ فيـه وتَـبرَقُ

 

لا (الفرسُ) أُوتــوا مثَلـه يومًـا، ولا *** (بغدادُ) فـي ظـلِّ (الرشيد) و(جِـلَّق)

 

فَتــحُ الممـالك، أَو قيـامُ (العِجلِ)، ***  أَو يـومُ القبـور، أَو الزفـافُ المُـونِقُ?

 

كــم مــوكبٍ, تَتخَـايلُ الدنيـا بـه *** يُجـلَى كمـا تُجـلَى النجـومُ ويُنسـقُ!

 

(فرعونُ) فيــه مـن الكتـائبِ مُقبِـلٌ *** كالسٌّـحبِ، قَـرنُ الشـمس منهـا مُفتِقُ

 

تَعنــو لعزَّتِــه الوجــوه، ووجهـهُ *** للشـمسِ فـي الآفـاقِ عـانٍ, مُطـرِقُ

 

آبــت مــن السـفرِ البعيـدِ جـنودُه *** وأَتتــه بــالفتحِ الســعيدِ الفَيلَــقُ

 

ومَشـى الملـوكُ مُصفَّـدِين، خـدودُهم *** نعــلٌ لفرعــونَ العظِيـم ونُمـرُقُ

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply