بسم الله الرحمن الرحيم
ثمة لحظة تاريخية قادمة تصفها صحيفة (النيويورك تايمز) بأنها لحظة الحقيقة، وتعني بها مواجهة حقيقة أن المصالح الأمريكية والأوروبية تتباعد بحدة، وربما إلى غير رجعة، فأوروبا تعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية مستبدة، وتخوض حروباً بلا حاجة، وتعتقد الولايات المتحدة الأمريكية أن أوروبا متعبة، وغير جدية، وضعيفة، ويبدو أن الغضب المتبادل بين الطرفين متجه ليصل إلى حالة من استحالة التفاهم.
وفي مقالته التي نُشرت في مجلة (بوليس ريفيو) ثم تحوّلت إلى كتاب يحلل (روبرت كيغن) المسار التاريخي للعلاقة الأوروبية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، ويجد أنهما يمضيان منذ ذلك التاريخ في اتجاهين مختلفين، فأوروبا خرجت من الحرب العالمية الثانية بدرس التحوّل نحو السلام والانكفاء على الداخل، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية غاصت في وحول التاريخ، ودأبت على مزاولة القوة، وبناء إستراتيجية عالمية قائمة على امتلاك القدرة العسكرية واستخدامها، إلى درجة يبدو وكأن الأمريكان ينتمون إلى المريخ الذي يرمز في التراث اليوناني والروماني إلى الحرب (مارس)، والأوربيين ينتمون إلى كوكب الزهرة الذي يرمز إلى الحب والجمال (فينوس).
هذا التباين في الثقافة الإستراتيجية لا ينبثق من الشخصيتين القوميتين لأمريكا وأوروبا، فالنزعة السلمية الأوروبية هي ثقافة جديدة تمثل رفضاً لثقافة عسكرية هيمنت على أوروبا قروناً من الزمن.
ولكن فرق القوة وتحوّلاتها بين جانبي الأطلسي لا يقدم إلا جزءاً من التفسير لتلك الهوة الواسعة التي بدأت تفصل بين الولايات المتحدة وأوروربا، فقد نشأت أيضا هوة أيديولولجية واسعة، فالأوروبيون دأبوا -بسبب تجربتهم التريخية الفريدة في القرن الماضي- على تطوير سلسلة من المثل والمبادئ الخاصة بجدوى القوة وأخلاقيتها، مختلفة عن قائمة المثل والمبادئ المعتمدة لدى الأمريكيين الذين لم يأخذوا نصيبهم من تلك التجربة.
ويبدو الصدع الإستراتيجي اليوم بين الولايات المتحدة وأوروبا أكبر من أي وقت مضى، وهو مازال يزداد اتساعاً، ويبدو أن التبعية الإستراتيجية الأوروبية للولايات المتحدة توشك على الانتهاء.
ولكن يُرجح أن يكون الاختلاف الإستراتيجي بين جانبي الأطلسي مرده إلى سيكولوحية القوي والضعيف، فكلاهما ينظر إلى العالم والأمور نظرتين مختلفتين، مثل من يملك مطرقة، فيرى جميع المشكلات "مسماراً"، ومن لا يملك مطرقة فإنه لا يريد أن تبدو الأشياء شبيهة بالمسمار.
هذا الاختلاف الطبيعي والتاريخي بين الأقوى والأضعف يتجلى في نزاع اليوم العابر للأطلسي حول قضية النزعة الأحادية، فيعتقد معظم الأوروبيين أن اعتراضهم على الأحادية الأمريكية دليل على التزامهم الأقوى بمبادئ النظام العالمي. صحيح أنهم ملتزمون بتلك المثل، رغم أنه ليس التزاماً مطلقاً، أكثر من التزام الأمريكيين بها، غير أن الأوروبيين أقل استعداداً للاعتراف بحقيقة أخرى، وهي أن معاداتهم للأحادية منبثقة من المصلحة الذاتية، فمن الطبيعي أن يبادر الأوروبيون نظراً لافتقارهم إلى القدرة على القيام بمبادرات عسكرية أحادية، فردياً أو جماعياً إلى معارضة تمكين الآخرين من القيام بما هم أنفسهم عاجزون عن فعله.
ولكن الولايات المتحدة تستطيع أن تتحرك أحادياً، وقد فعلت مرات غير قليلة بقدر معقول من النجاح، ومشكلة العالم اليوم هي أن الولايات المتحدة تستطيع تدبر الأمر وحدها، ولا غرابة أن تكون القوة العظمى الأمريكية راغبة في الحفاظ على قدرتها هذه.
لم يبادر الأوروبيون، رغم تنبؤات (هتنغتون) وعدد كبير من أساتذة التنظير الواقعيين، إلى السعي للجم القوة الصاعدة للعملاق الأمريكي عبر مراكمة قوة مقابلة، وهم ليسوا مستعدين للمخاطرة بتجارتهم الهائلة مع الولايات المتحدة سعياً منهم إلى توظيف قوتهم الاقتصادية ضد الطرف المهيمن، وليسوا في الوقت نفسه مستعدين للتحالف مع الصين، الراغبة في إنفاق المال على الدفاع، وصولاً إلى تحقيق التوازن مع الولايات المتحدة، ويحلم الأوروبيون بدلاً من ذلك باحتواء القوة الأمريكية دون قيامهم بتوظيف أي قوة.
وكان الأمريكيون مستائين من قيود يفرضها الأوروبيون، وهم لا يساهمون إلا بالقليل في الحرب، ولكن اهتمامهم بـ " القضايا الحقوقية" يقف حجرة عثرة في طريق التنفيذ الناجح لهذه الحرب، وأما الأوروبيون فقد كانوا مستائين من هيمنة الولايات المتحدة ومن تبعيتهم لها.
تمثلت العبرة التي استخلصها الأمريكيون، بمن فيهم كبار مسؤولي إدارة كلينتون، في أن العمل التعددي غير قادر، حتى لو توفرت أفضل النوايا، على تحقيق النجاح دون توفر قسط ذي شأن من النزعة الأحادية الأمريكية، ودون توفر نوع من الاستعداد الأمريكي لاستخدام القوة الكاسحة للإمساك بدفتي الحرب والديبلوماسية عند وقوع الحلفاء الأضعف في حالة من التردّد، صحيح أن إدارة كلينتون جاءت إلى الحكم وهي مولعة بالحديث عن التعددية المتشددة، غير أنها انتهت و هي تغني مواويل الإطراء لأمريكا بوصفها الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها.
وتمثل الدرس الذي استحضره الأوروبيون في أن على أوروبا أن تتخذ سلسة من الخطوات لتتحرر جزئياً على الأقل، من اعتمادها على القوة الأمريكية اعتماداً لم يعد بعد الحرب الباردة ضرورياً على ما يبدو، و تطلب هذا بدوره أن تبادر أوروبا إلى إيجاد نوع من القدرة العسكرية المستقلة.
وما لبث مثل هذا الاستنتاج أن تمخض في نهاية سنة 1998، عن حفز صديق حميم للولايات المتحدة مثل توني بلير إلى مد يده إلى فرنسا متقدماً بعرض غير مسبوق يقضى بإضافة ثقل بريطانيا إلى جهود ظلت متعثرة وتراوح في مكانها هادفة إلى إيجاد قدرة دفاعية مشتركة للاتحاد الأوروبي تكون مستقلة عن الناتو، ونجح بلير وجاك شيراك في كسب موافقة أوروبية واسعة على بناء قوة من (60.000) جندي قابلة للنشر بعيداً عن الوطن ومجهزة بالقدرة على الاستمرار لمدة تصل إلى سنة كاملة.
وعلى أهمية فارق القوة الحاسمة في صياغة الثقافتين الإستراتيجيتين العائدتين إلى كل من الولايات المتحدة وأوروبا، فإن أوروربا اليوم ذات الكتلة السكانية المتفوقة تعليماً وإنتاجاً والمؤلفة من (400) مليون نسمة، و الاقتصاد البالغ (9) تريليونات من الدولارات، تنعم بالثروة والطاقة التكنولوجية اللازمتين لتجعل من نفسها قوة عالمية عسكرية شرط أن يكون الأروروبيون راغبين في التحول إلى ذلك النوع من القوة العالمية، فهم يستطيعون أن ينفقوا بيسر ضعف ما ينفقونه الآن على الدفاع إذا اعتقدوا أن ذلك ضروري، و لعل في إزالة فارق القوة بين الولايات المتحدة وأوروبا توفير نوع من إمكانية قطع شرط معين على طريق ردم الهوة الفاصلة بين التصورين الإستراتيجيين.
ولكن أوروبيي اليوم ليسوا طامحين إلى القوة وبخاصة القوة العسكرية، وعلى امتداد نصف القرن الماضي دأب الأوروبيون على تطوير نظرة مختلفة إلى دور القوة في العلاقات الدولية، نظرة نابعة مباشرة من تجربتهم التاريخية الفريدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فقد نبذوا سياسة القوة التي جلبت لهم كثيراً من الويلات و المآسي خلال قرن كامل مضى ويزيد، إنها نظرة إلى القوة لا يشاطرهم فيها الأمريكيون ولا يستطيعون، طالما أن التجارب التاريخية المكونة على ضفتهم الأطلسية لم تكن نفسها.
غير أن هذا النزوع الأوروبي إلى الانطواء على الذات مفهوم بسبب الانشغال بجدول أعمال التكامل الضخم والصعب، فتوسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل أكثر من (24) دولة، ومراجعة الخطط والسياسات الاقتصادية والزراعية المشتركة، وبحث مسألة السيادة القومية في مواجهة الإدارة فوق القومية، ومعاينة ما يُعرف باسم العجز الديمقراطي، وضبط تنافس القوى الأووروبية الكبيرة، والنظر في شكاوى القوى الأصغر، وإقرار دستور أوروبي جديد- هذه كلها تحديات جدية يتعذر التهرب منها أو تجنبها.
هل تستطيع أوروبا أن تغير المسار، وتضطلع بدور أكبر على الساحة العالمية؟ إن عدداً غير قليل من القادة الأوروبيين قد ألحوا على قارتهم أن تفعل ذلك، وليس ضعف سياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية اليوم برهاناً بالضرورة على وجوب بقائها ضعيفة غداً، انطلاقاً من سجل الاتحاد الأوروبي الحافل بالتغلب على الضعف في مجالات أخرى، ومع ذلك فإن الأدوار السياسية اللازمة للمطالبة بقدر أكبر من القوة والسلطة لأوروبا تبدو مفقودة، للسبب الوجيه المتمثل بعزوف أوروبا عن تصور أي رسالة لها تتطلب توافر القوة تحديداً.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد