لكن ما خفي في قندوز أبشع مما ظهر في أبو غريب


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ما حصل في مدينة قندوز الأفغانية كان أبشع مما حصل في سجن أبو غريب العراقي.

الأميركيون ذهبوا إلى هناك من أجل (التحرير) أيضاً, وكان لا بد أن يذوق الأسرى طعم الحرية المغموس بالدم.

حدث ذلك في أواخر شهر تشرين الثاني(نوفمبر) 2002، بعد حصار مرير لقندوز وافق مقاتلو حركة طالبان على التفاوض لتسليم المدينة للتحالف الشمالي الأفغاني الذي تدعمه القوات الأميركية, وأشارت مجلة نيوزويك إلى أنه تم التوصل إلى اتفاق بإشراف أميركي بعد ثلاثة أيام من المفاوضات يقضي بعودة المقاتلين الأفغان إلى بيوتهم وقراهم, وعودة الباكستانيين إلى بلدهم بعد فرزهم من قبل الأميركيين، واعتقال المشتبه منهم بانتمائه إلى منظمة القاعدة, وتسليم المقاتلين العرب والأجانب إلى الأمم المتحدة أو منظمات دولية أخرى، لكن الأسرى هلكوا في مقتلة جماعية على يد القوات الأميركية وحلفائها الأفغان، عدد كبير من المقاتلين العرب والباكستانيين المتهمين بالانتماء إلى القاعدة - ويقدرون بـ 800 مقاتل اقتيدوا إلى قلعة جانجي - حيث تمرد بعضهم, وهاجمتهم القوات الأميركية بطائرات إف 18، وأمطرتهم بعشرات القنابل العنقودية التي قلبت الأرض, مخلفة مئات الجثث المتفحمة لرجال كان كثير منهم مقيد اليدين, وهو ما ينفي رواية تمرد هؤلاء الأسرى, أو على الأقل اشتراكهم جميعاً في التمرد.

قرابة 3000 أسير آخرين (خليط من أفغان، وعرب، وباكستانيين، وشيشان) قيدت سواعدهم, وعصبت أعينهم, واقتيدوا لوضعهم في حاويات ضخمة لسيارات شحن, تمهيداً لنقلهم - كما قيل - إلى سجن شبرقان، الذين قاوموا حملوا بأيديهم وأرجلهم، ورموا على وجوههم داخل الحاويات، كانت كل حاوية تحتوي 200 - 300 شخص، عرف السجناء وقتها أنهم غدر بهم, وأنهم لن يذهبوا إلى بيوتهم, وربما أدركوا - كما قالت مجلة نيوزويك - أنهم سيموتون بطريقة مبتكرة, طريقة رخيصة للقتل الجماعي البطيء - الموت بالحاوية -.

بعد ساعات من حشر الأسرى في الحاويات بدأوا يصيحون، ويولولون، ويضربون جوانب زنازنهم المكتظة، كانوا يصرخون: " نحن نموت, أعطونا ماء, نحن بشر ولسنا حيوانات"، نيوزويك التقت شاباً بشتونياً نجا من جحيم الحاوية أو الهاوية، قال الشاب: بعد مضي 24 ساعة من بقاء الأسرى بلا ماء, استبد بهم العطش, فبدأ كل واحد منهم يلعق عرق جسد الآخر، من الأسرى من فقد رشده, وبدأ يعض ويمضغ جلد من حوله، ويقول ناج من حاوية أخرى: إنه بعد ثمان ساعات تقريباً بدأ الأسرى يستغيثون طلباً للماء والهواء, ولما لم يجب أحد, بدأ بعضهم في استخدام عمامته لاعتصار العرق وشربه، وبعد مرور بضع ساعات أخرى بدا الجنون على كثير من الأسرى, وشرع كل منهم يعض أصابع الآخر وذراعيه وساقيه، اقتربت رحلة الموت التي استغرقت 24 ساعة من سجن شبرقان, وحينها كان الهدوء المخيف يخيم على القافلة برمتها، إحدى الحاويات التي كانت تضم نحو 200 أسير, لم ينج منها أحد، يقول سائقها: " لقد فتحوا الأبواب, فاندلقت الجثث مثل السمك, كانت كل ملابسهم ممزقة ومبللة" (مجلة نيوزويك, 26 آب/ أغسطس 2002).

يقول المنتج الاسكتلندي جيمي دوران - منتج البرنامج التلفزيوني الوثائقي " قافلة الموت" -: إن أسرى طالبان كانوا يتوسلون طلباً للرحمة, وإن أحد الجنود أطلق النار على إحدى الحاويات من أجل التهوية - كما قال - فانسكب الدم من خلالها, وقتل عدد من الناس داخلها، لكن أمانة هذا الجندي - كما يقول دوران - تخفي وراءها وحشية هائلة، لقد كانت أكثر الرصاصات في وسط الحاوية وأسفلها لا في أعلاها, ما يعني أن الهدف لم يكن التهوية, بل القتل، ويشير دوران إلى أن بعض السجناء تركوا أربعة أو خمسة أيام ليموتوا من الاختناق أو الجوع أو العطش.. "عندما فتحت الحاويات في النهاية, لم يكن هناك سوى خليط من البول، والدم، والغائط، والقيء، واللحم المتعفن"، يؤكد دوران أن جنوداً أميركيين حضروا المشهد, وأنهم طلبوا من أهل شبرقان محو آثار المحرقة, ونقل الجثث إلى خارج المدينة قبل أن تلتقطها صور الأقمار الصناعية( ليموند ديبلوماتيك, أيلول/ سبتمبر 2002).

وبالرغم من صعوبة الإفلات من طريقة (القتل بالحاوية) فقد نجا منها عدة مئات من أسرى طالبان, وكان لا بد من طريقة أجدى وأسرع، اقتيد هؤلاء إلى منطقة صحراوية مجاورة لشبرقان, تعرف بدشت الليل, وكانوا مثقلين بالجراح، وفاقدين للوعي, وهناك أطلق الجنود عليهم وابلاً من الرصاص, وأبادوهم عن بكرة أبيهم، بعد تسعة أشهر من المذبحة لم يكن من الصعب تمييز ما جرىº جثث كان يمكن ملاحظتها بسبب ضحالة القبور, وأخرى برزت للعيان من تحت التراب، لكن الملابس في كل مكان: عمائم سوداء بالية, أحذية محترقة, وسجادة صلاة، كانت هناك بقايا أسنان وأضلاع وشعور وجماجم بشرية لا تخطئها العين (صحيفة الغارديان البريطانية, 14 أيلول/ سبتمبر 2002).

ضمت دشت الليل جثث قتلى ما يزيد على 3000 من الأسرى, هم مجموع قتلى الحاويات، ومن نجا منها وأجهز عليه لاحقاً، وتشير نيوزويك إلى أن المذبحة تمثل "إحدى الأسرار الصغيرة القذرة للحرب الأفغانية.. وأن تحقيق نيوزويك توصل إلى أن القوات الأميركية كانت تعمل بحميمية مع "حلفاء" ارتكبوا ما يمكن وصفه بجرائم حرب".

جيمي دوران نقل عن أحد سائقي الشاحنات تأكيده أن30 - 40 من أفراد القوات الخاصة الأميركية شهدوا عملية الإعدام الجماعي للأسرى، كما نقل عن جندي أفغاني قوله: إنه رأى جندياً أميركياً يكسر رقبة أحد الأسرى, ويقذف الأسير في وجوه آخرين, مضيفاً: "لقد كان الأميركيون يصنعون ما بدا لهم, ولم نكن نستطيع إيقافهم, كل شيء كان تحت سلطة القائد الأميركي"، أحد جنرالات التحالف الشمالي تحدث لدوران عن معاملة الأميركيين للأسرى قائلاً: " لقد كنت شاهداً، رأيتهم يطعنون سيقانهم, يقطعون ألسنتهم, ينزعون شعورهم ولحاهم، كان يبدو أحياناً أنهم يفعلون ذلك من أجل المتعة، أحياناً يأخذون أحد السجناء إلى الخارج فيضربونه, ثم يعيدونه إلى السجن, وقد لا يعود, ويختفي.. السجين يختفي"، يؤكد دوران أن كل الشهود في برنامجه الوثائقي مستعدون للإدلاء بشهاداتهم في أي تحقيق دولي, وتحديد هويات العسكريين الأميركيين الذين ارتكبوا جرائم حرب، وانتهاكات لحقوق الأسرى.

لكن أين بقية الأسرى؟ يتساءل دوران عن مصير 5000 رجل من أصل 8000 تم أسرهم، ربما هرب القليل, وربما اشترى بعضهم حريته, ولكن الأغلبية كما يشير دوران نقلاً عن شهود عيان - خلال تحقيقه الذي استمر ستة أشهر - ترقد تحت التراب، يؤكد دوران أن قادة البنتاغون يمارسون التعتيم على المذبحة "مختفين خلف جدار من السرية, آملين أن تتوارى القصة, ولكنها لن تتوارى".

آدم جونز أستاذ الدراسات الدولية بمركز أبحاث سايد بمدينة مكسيكو يشير إلى أن وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد كان قد صرح بعيد سقوط نظام طالبان أنه لا يحبذ تفاوضاً يؤدي إلى استسلام قوات طالبان، وفي تصريح لاحق "أوضح" رامسفيلد كلامه مشيراً بالتحديد إلى المقاتلين الأجانب: " أمنيتي أن يقتلوا, أو يؤخذوا أسرى"، ويعلق جونز قائلاً: " في النهاية حصل رامسفيلد على الحسنيين: يبدو أن آلاف الرجال أخذوا أسرى, ثم قتلوا"(موقع كاونتر بنش, 8/9 أيار/مايو 2004).

لماذا يرتكب الجنود الأميركيون هذه الجرائم؟ لماذا يعاملون الأسرى في أفغانستان والعراق بهذه الوحشية؟ يجيب عن ذلك الصحافي البريطاني روبرت فيسك متحدثاً عن المعاملة السادية للسجناء العراقيين: " نعم, إنها جزء من ثقافتنا, تقليد قديم يعود إلى الصليبيين (مؤداه) أن المسلمين قذرون, فساق, غير مسيحيين, غير جديرين بالإنسانية...، وحربنا هذه المومسية وغير الشرعية وغير الأخلاقية قد أثمرت الآن صوراً تكشف عنصريتنا"(موقع كاونتر بنش, 7 أيار/مايو 2004).

لقد ارتكب الأميركيون والبريطانيون في أفغانستان والعراق جرائم إبادة تضاهي ما فعله حلفاؤهم الصرب بمسلمي البوسنة والهرسك, وإن من المهم ألا تمر هذه الجرائم دون حساب، على الأقل يجب أن يتم توثيقها وتسجيلها في ذاكرة التاريخ، وما حدث في سجن أبو غريب على بشاعته، وعلى قلة ما نعلم عنهº يجب ألا يحجب أعيننا عن ممارسات قد تكون أكثر بشاعة، وأوسع نطاقاً كالتي ارتكبت في أفغانستان بعد سقوط قندوز.

في غضون ذلك ينبغي ألا نكثر الحديث عن قيم التسامح، وقبول الآخر لدينا بمعزل عن مطالبة هذا الآخر بالشيء نفسه، كما يجب أن نشدد في خطابنا على قيم أخرى تثمر مشاعر القبول والتسامح, كالعدل والمساواة، ورفض الهيمنة والعدوان، في غياب هذا التوازن تخلو الساحة للعنف الأعمى, ويسود قانون الغاب, تماماً كما يفعل الأميركيون وحلفاؤهم اليوم في أفغانستان والعراق.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply