وقفة تأمل في تكريم مرتد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن كثيراً من النفوس الفاسدة تطمع في أن تصل إلى مكانة سامية لا تستحقها وليست لها بأهل، وتسلك في سبيل ذلك من الطرق الملتوية والسبل المعوجة ما تظن أنه يصل بها إلى ذلك. ومهما سلك الإنسان من تلك السبل المنحرفة ومهما شجعه أهل الانحراف من أمثاله فلن يعـدوَ قـدره، بل لا تزيـده تلك المسـالك الفاسدة إلا حطة وضَعة.

ومـن النـاس مـن يـدرك هذه الأمور بعد الوقوع فيها مما قد يزهده فيها، فلا يصبح لها البريق الأول والوهج الذي كان يأخذ بلبه، فتنكسر نفسه وتضعف أحلامه، وقد يقوده ذلك إلى التوبة بإذن الله.

ومن الناس من لا يزالون في غيهم يعمهون ولا تزيد الواحد منهم هذه المسالك إلا انغماساً في الضلالة فلا يرى الرشد إلا في طريق الغواية والهلاكº كما قال -تعالى -: {سَأَصرِفُ عَن آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَإن يَرَوا كُلَّ آيَةٍ, لاَّ يُؤمِنُوا بِهَا وَإن يَرَوا سَبِيلَ الرٌّشدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإن يَرَوا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: 146]، وهي صورة جد معبرة عن طبيعة أولئك الناس الذين يبتعدون عن طريق الخير والحق مع وضوحها، ويلوذون بطريق الغي يتخذونه معبراً لكل ما يريدون.

وهناك من أهل الباطل والضلال من شياطين الإنس والجن من يزين له ذلك ويحاول أن يشد أزره ويقويه ويمده بما عـنده مـن أسـباب البقاء والتصدٌّر في الباطل، كما قال - تعالى -: {وَإخوَانُهُم يَمُدٌّونَهُم فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقصِرُونَ} [الأعراف: 202]، فإخوان الشياطين وهم الفجَّار من ضُلاَّل الإنس وهم أتباعهم والمستمعون لهم القابلون لأوامرهم تمدهم الشياطينº إذ تساعدهم على فعل المعاصي، وتسهلها عليهم وتحسنها لهم، فلا الإنسي يسأم من فعل الجهالات والضلالات وارتكابها، ولا الشياطين تقصر عن مد الإنسي ومساعدته، وبذلك لا يتوبون ولا يرجعون.

منذ فترة ليست بالبعيدة في زمننا الحاضر يحاول كثير من الأقزام أو النكرات التطاول أو الظهور، وذلك بالتعدي على القمم السامقة التي لا يدانيها شيء ليكون ذلك مسوِّغاً لشهرتهم بين الناس، فصار التهجم على الإسلام وعلى رسول رب العالمين محمد - صلى الله عليه وسلم -، منهج كثير من هؤلاء الأقزام، وقد تساند في هذا الدور الكفار الأصليون مع إخوانهم من المرتدين، وكذلك المنافقون الذين يتطاولون على دينهم ورسوله الكريم.

قد يكتب الكافر كتاباً ينتقد فيه الدين لأمور فيه لم يفهمها فيظنها لجهله تعارضاً أو شيئاً من ذلك، لكنه يبقى مع ذلك محتفظاً بالأدب في العبارةº فهذا الذي يستحق أن يناقَش ويجاب ويبيَّن له ما اشتبه عليه. لكن في الجهة المقابلة هناك من يكتب لا لأمر قد اشتبه عليه أو استغلق على فهمه، وإنما يكتب بهدف القدح والسب والطعن واستخدام الكذب في ما يسرده ويقوله وينسبهº فهذا لم يذكر شيئاً يعترض به أو عليه حتى يبين له أو يناقش فيه، بل هو سب وطعن بسوء أدب منشؤه القلب الأغلف بل العقل الأجوف، ومثل هذا لا يصلح معه إلا الحد الشرعي.

 

فمنذ ما يقارب عقدين من الزمان كتب كاتب بريطاني من أصل هندي هو المدعو سلمان رشدي تدل شهادة ميلاده على أنه ينتـمي للإسـلام، كتاباً يهاجم فيه كتاب الله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجات المصطفى، وهو كتاب لا يرقى إلى مناقشة قضية من القضايا، بل هو كتاب سباب وطعن وشتائم لا تصدر إلا عن مَوتور كأنه يأخذ بذلك ثأره، وقد عامله الله بنقيض قصده فلم يكتب له إلا الخوف والاستتار عن أعين الناس خوفاً من الموت الذي أخذ يطارده تلك المدة، فظل هذا المغمور مغموراً سنوات مديدة، لكن كارهي الإسلام وأعداءه من الكفار أرادوا أن يعيدوها جذعة تنفيساً عما في صدورهم من الغل والحقد على الإسلام. لقد أكلت العداوة والبغضاء أكبادهم حـتى ما يملـكون أن يسـتتروا بالعـداوة، بل نراهم يصرحون بها وبأساليب مختلفة، كلما لاحت لهم فرصة لذلك، فلا يكاد ينقضي موقف من مثل هذا حتى يبدأ الموقف الآخر في تتابع غريب، وكأن كل واحد منهم يظل حاملاً لراية العداوة والكُره والبغضاء فترة من الزمن إلى أن يأتي آخر فيحملها عنه، وذلك في ظل ضعف المسلمين وضياع هيبتهم في العلاقات الدولية، فلم تعد لهم قدرة في كثير من الأمور إلا على إصدار أصوات الأنين، فنجد من يصدر في أمريكا كتاباً مملوءاً بالسخف والضلالة يسمونه (الفرقان الحق) يحاولون أن يضاهوا به القرآن الكريم، ولم يخمد أُوار هـذه الحـركة حتى جاء الشـر مـن قِبَل فرنسـاº حيـث مُنعت المسلمات من ارتداء الحجاب في الدوائر الحكومية والمدارس والجامعات، في قانون ملزم يتحدى دعاوى الحرية التي ما فتئ الغربيون يفاخرون بها، وقبل أن تهدأ المسألة جاءت الصور الإجرامية التي نشرتها مجلة دانمركية تنال من خير البشرية - صلى الله عليه وسلم -، وقبل أن يأخذ المسلمون حقهم ممن نشر هذه الصور التي لا تدل إلا على الحقد على الإسلام والكره لرسوله، في سوء أدب ليس له مثيل، يظهر كاهنهم الأكبر في سابقة لا نظير لها في العصر الحديث وهو يطعن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنقى البشرية وأطهرها. ثم ها نحن أولاء نفاجَأ بتلك العجوز الشمطاء راعية الكنيسة الكاثوليكية في بريطانيا وهي تحاول النفخ في الرماد لإثارة الغبار على المسلمين، فقامت بمنح ذلك المرتد وساماً رفيعاً ولقباً يضفي عليه وجاهة في مجتمعه وهو لقب (فارس).

 

ومن عادة الدول أن تمنح الأوسمة لرعاياها أو لرعايا دول أخـرى لقيـامهم بأعـمـال فيها فائـدة للدولـة المـانـحـة أو للإنسانية، بغضِّ النظر عن جنسية المستفيد، وحق لنا نحن ـ المسلمين ـ أن نتساءل: لماذا أعطت بريطانيا ذلك المرتد وسام فارس؟ ويأتيك الجواب: نظير ما قدمه من إسهامات وخدمات جليلة في مجال الأدب. وعندما ننظر فيما قدمه ذلك المارق في مجال الأدبº فإذا هو مجموعة من القصص والمقالات كل ما يميزها تطاولها على الإسلام الذي أكرم الله به وبرسـوله البشـرية ليخرجـهم مـن الظلمات إلى النور. فقد ألّف ذلك المأفون منذ ما يقارب عقدين من الزمن كتاباً سماه «آيات شيطانية» تضمَّن إساءة وتطاولاً على الإسلام وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أزواجه الطاهرات العفيفات، وقد أعلن ذلك المرتد دعمه لمن هاجم الحجاب والمرأة المسلمة في مجلس العموم البريطاني، كما أعرب عن تأييده للصحيفة الدانماركية التي نشرت الرسوم المسيئة لسيد الخليقة في تحد سافر للمسلمين، ومنذ تأليفه الكتاب المذكور لجأ إلى بريطانيا محتمياً بها من غضبة المسلمين، وقد حظي طوال تلك الفترة بحماية منقطعة النظير من السلطات البريطانية، ثم أتمت المحادَّة للمسلمين بإعطائه لقب (فارس).

وهذا بلا شك نوع من أنواع العداء للأمة والاستخفاف بها وبدينها، وهو ما قامت به ملكة بريطانيا بمناسبة ذكرى مولدها بتكريم من يتطاول على الإسلام، ثم تعليق وزيرة خارجية بريطانيا في برود إنجليزي معروف واستهتار على بعض المواقف الإسلامية الرافضة لمنح المرتد هذا اللقب بقولها: «نأسف بالطبع لكون أشخاص شعروا بالاستياء من هذا التكريم الذي مُنِح قبل كل شيء لحياة طويلة من الإنتاج الأدبي» وما حملهم على الاستهانة بالأمة والاستخفاف بها إلا ضعفها الناتج عن بُعدها عن دينها الذي أعزها الله به، والتي لم تعد تملك في أغلب الأحيان أكثر من الصياح لما يصيبها من آلام، ومع ذلك لم نجد من يشعر بالألم ويصيح مـن جـراء هـذا التـصرف من ملكة النصارى في بريطانيا إلا دول معدودة لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة.

نحن لا يعنينا أن يعطى هذا المارق لقب فارس أو غيره، سواء صدر من ملكة بريطانيا أو من أئمة الكفر جميعاًº فإن ذلك لن يرفع قدره، ولن يهز لنا قناعة في شيء مما جاء به دينـنا القويم، ولن ينفعه عند ربه يوم يلاقيه فيحاسبه على ما جنت يداه.

وإنما الذي يحز في النفس هو هذا الهوان الذي صارت إليه الأمة بين الناس، حتى في مجال المجاملاتº فبينما تجدهم يأكلون من خيرات بلادنا، ويعتمدون على المواد الخام التي حبا الله بها بلادنا فتقوم بها عندهم صـناعات كثـيرة، وبها تعـمر بلادهـم ويعمل عاطلهم، ويرتفع مستواهم المعيشي ـ بينما الأمر كذلك فإننا نجدهم في المقـابـل يكرمـون مـن يعتـدي على ديننا، فحتى المجاملات أو اللياقة في التصرفات لم يعد لها مجال عندهم، وقديماً قالوا عن أخلاق الأراذل من الناس: من أمن العقوبة أساء الأدب.

لقد علَّق ذلك المرتد على خبر منحه ذلك اللقب بقوله: «إنني أشعر بالسعادة الشديدة والتواضع إذ أتلقى هذا الشرف العظيمº كما أنني ممتن جداً لأن أعمالي لاقت هذه النظرة». ونحن نقول له: اخسأ فلن تعدوَ قدرك، فلست بأكثر من دجال كذاب تفتري الكذب وتختلق الإفك، وتنشره، وقد توعد الله المفترين بالغضب والذلة كما قال -تعالى -: {إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجلَ سَيَنَالُهُم غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِم وَذِلَّةٌ فِي الـحَيَاةِ الدٌّنيَا وَكَذَلِكَ نَجزِي الـمُفتَرِينَ} [الأعراف: 152]، فهي سُنَّة ماضية في كل مفترٍ,، ولكن لكل شيء أجل وكتاب، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.

ونحن في هذه الأيام نأسى على عدم اعتبار العالم الكافـر لنـا، ونسـتجدي منهم احترامنا أو مراعاة مشاعرنا، وما كان هذا العالم ليعتني بذلك أو يلتفت إليهº إنه عالم لا يقدِّر إلا المال والسلاح، ولا يقيم وزناً لمن كانت يـده خـاليـة من القوة التي يملك أن يؤدب بها من يعتدي عليه أو على حرماتـه، وما دمـنا قـد فـرطـنا في ديننـا فعلينا ألاَّ نلوم إلا أنفسنا، ومن العبث البحث عن العزة والمكانة بعيداً عن التمسك بديننا والعمل به. قال الخليفة الراشد عمر ـ رضي الله - تعالى -عنه ـ: «إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلامº فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله»(1).

إن حالات التطاول على الإسلام والإساءة لكتابه ولرسوله مرشحة للمزيد على توالي الأيام، وما دمنا نقبع في مربع التخلف والضعف الناتج عن البعد عن الدين، فإن هذا المشهد قد يتكرر أمثاله كثيراً، وهنا نتلو قول الله –تعالى- : {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم} [محمد: 7]، وقوله -تعالى -: {إن يَنصُركُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُم وَإن يَخذُلكُم فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ الـمُؤمِنُونَ} [آل عمران:160]º فهل من أوبة حميدة لعل الله أن يرفعنا بها ويكبت عدونا!

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply