بسم الله الرحمن الرحيم
تشعر الولايات المتحدة أن من حق المنتصر تفسير التاريخ وفق هواه، وإعادة رسم الحدود الجغرافية وفق مصلحتهº لذلك فمن حقها كدولة منتصرة منفردة بسيادة العالم أن تقوم بالشيء ذاته. فالولايات المتحدة التي انتصرت على ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية اقتسمت العالم مع المنتصر على الجبهة الشرقية (الاتحاد السوفييتي). وبعد انتصارها في الحرب الباردة عليه بدأت برسم خريطة العالم من جديد وبشكل منفرد، وسخَّرت القوى الحليفة التي تسير في ركابها والأمم المتحدة بهيئاتها كافة لخدمة هدفها المنشود.
ولم تكتف الولايات المتحدة بذلك، بل أعادت نبش أوراق التاريخ وقررت أن بريطانيا وفرنسا اللتين رسمتا خريطة الشرق الأوسط خلال وبعد الحرب العالمية الأولى قد هضمتاها حقها كحليف منتصر. من هنا بدأت الولايات المتحدة في حركة تصحيح للتاريخ، بالتفكير وإطلاق مشاريع الشرق الأوسط الكبير والجديد بين الحين والآخر، آخذة في الاعتبار مصالحها الذاتية ومصالح ربيبتها (الدولة الصهيونية). ورغم أن الولايات المتحدة تضع السيطرة على العالم قاطبة على رأس جدول أعمالها ومنذ القِدم، وأنها أنشأت حديثاً مركزاً للأبحاث خاصاً بذلك وأطلقت عليه اسم (مشروع القرن الأمريكي الجديد) إلا أن عمليات المد والجزر في تحقيق ذلك الهدف تعود أساساً إلى طبيعة الإدارة الأمريكية ذاتها والظروف المحيطة بإمكانية التنفيذ. ويهدف مشروع ـ القرن آنف الذكر ـ الجديد - حسب القائمين عليه - إلى مد السيطرة الأمريكية على الكرة الأرضية، بل والسيطرة على الفضاء أيضاً. وقد وقّع الرئيس جورج بوش مؤخراً وثيقة باحتكار الولايات المتحدة لاستخدام الفضاء، لم يجفَّ حبرها بعدُ. هذا الرئيس الذي يزعم أن الله قد منحه الحق بنشر الحرية والديمقراطية في العالم، وأن ما يقوم به ليس سوى إبلاغ تلك الرسالة للبشرية جمعاء. ويبدو أنه سيبلّغ الرسالة للعالم عن طريق سيطرته عليه أولاً.
ويبقى الشرق الأوسط - الحلقة الأضعف عالمياً - مركز الاستقطاب الأمريكي، لكونه مركز الحضارات والرسالات السماوية والنفط، ومن هنا تركز الإدارات الأمريكية جهودها للسيطرة عليه والحلول مكان المستعمرين السابقين. وتستغل الإدارات الأمريكية الفرصة تلو الأخرى للسيطرة على شعوب المنطقة وإعادة تشكيلها وفق رغباتها.
اعتبارهم الإسلام عدواً:
استغلت الإدارة الأمريكية الحالية أحداث أيلول/ سبتمبر 2001م لاحتلال المنطقة عسكرياً وفرض أنظمة حكم عميلة على هواها. وقد ابتدأت الحملة العسكرية على أفغانستان ثم أتبعتها بحملة على العراق. ولم يقتصر الأمر على هاتين الدولتين، إنما هناك دول أخرى مرشحة ليست أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية مستثناة منها.
وترى الولايات المتحدة أن ما حدث لها في 11 أيلول/ سبتمبر يعود بالأساس إلى أفكار الدعاة والمفكرين الإسلاميين الذين كانوا يكتبون ويحضون الناس ويعملون على النهوض بالأمة الإسلامية واستقلالها عن المستعمرين الأوروبيين.
لذلك فإن ما تقوم به الولايات المتحدة هو مكافحة تلك الأفكار في دول المصدر أي (الدول الإسلامية) وليس ردة فعل على ما حدث في أيلول/ سبتمبر، وهو ما يتنافى مع الحقيقة. وتُبرز الولايات المتحدة أسماء (أبو الأعلى المودودي وسيد قطب وغيرهما) كأبرز هـؤلاء المفكـريـن الذيـن تقول أمـريكا إنـه لـولاهـم لما شهـد العـالـم الإسـلامي حالـة العـداء لهـا، ولمـا قام منفـذو عمليـة 11 أيلول/ سبتمبر بعمليتهم تلك.
وقد شملت موجة العداء الأمريكي للحركات الإسلامية حركة حماس. فالحركة التي تضعها الإدارة الأمريكية على لائحة الإرهاب تكافح ضد المشروع الصهيوني على أرض فلسطين. وتأخذ الإدارة الأمريكية على حركة حماس كذلك تأييدها للجهاد ضد القوات الأمريكية في العراق، وقول رئيس مكتبها السياسي (خالد مشعل): إن الحركة تقاتل أعتى قوة في العالم وهي الولايات المتحدة وأعتى قوة في المنطقة وهي (الدولة العبرية). كما تقول واشنطن: إن أحد قادة حمـاس الـراحلين الدكتـور عبد العزيز الرنتيسي قد دعا لحرب الولايات المتحدة حين صرح بأن قتال أمريكا ليس واجباً وطنياً وأخلاقياً فحسب، إنما هو واجب ديني أيضاً.
ورغم أن حالة العداء الأمريكي للإسلام تعود إلى عقود من الزمن، إلا أنها اشتدت في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد اختفاء العدو الشيوعي عن الخريطة السياسية الدولية وظهور الإسلام بديلاً حضارياً متجدداً، وهو ما اعتبرته الولايات المتحدة تهديداً لمحاولاتها السيطرة على العالم.
وقد أسهـم في إيجاد حالة العداء هذه مجموعة من العوامل التي عملت على بلورة السياسة العدائية للإسلام. أبرز هذه العوامل سيطرة اللوبي الصهيوني على مصادر القرار في الولايات المتحدة. فـ «إيباك» (اللوبي الصهيوني) قد مدّ نفوذه إلى الإدارة الأمريكية في البيت الأبيض، ووزارتي الدفاع والخارجية والكونغرس بمجلسيه، وبات رجال «إيباك» يكتبون بأنفسهم مشاريع قرارات الكونغرس التي تهم (الدولة العبرية) وتعادي الدول الإسلامية.
وامتدت يد اللوبي الصهيوني للسيطرة على وسائل الإعلام والثقافة، ومراكز الأبحاث التي تمد رجال الإدارة الأمريكية بالمعلومات والدراسات، والتي لا تخرج عن دائرة تفضيل (الدولة العبرية) ومحاربة كل ما هو إسلامي.
وتمكن هذا اللوبي من إنشاء مكتب في وزارة الخارجية الأمريكية لرصد حالات (العداء للسامية!) في العالم وتعيين مفوض في كل سفارة لرصد تلك الحالات في الدولة التي يعمل بها. والهدف من ذلك هو رصد العداء لـ (للصهاينة) من خلال ما يسمى (العداء للسامية) والتعامل معه أمريكياً.
ومن العوامل الهامة في التأثير على صنع القرار الأمريكي المعادي للإسلام هو انتشار أفكار اليمين المتطرف بين الأمريكيين ووصول ممثلي هذا التيار إلى أعلى المناصب القيادية في الولايات المتحدة.
والعامل المهم الأخير هو بلا شك دور النصارى الصهاينة وتأثيـرهم الانتخـابي الـذي تحـرص الـدوائـر الأمريكية على أخذه في الاعتبار لدى رسم سياستها الشرق أوسطية. فيعتقد 30% من الأمريكيين أن إقامة (الدولة الصهيونية) خطوة أولى لعـودة المسيـح، بزعمهـم، بينمـا يعتقـد 40% منهـم بـأن الـله قد وهب فلسطين لليهود أبدياً. لذلك تأتي القرارات الأمريكية بشكل كامل مؤيدة لـ (للدولة العبرية) ومعادية لكل ما هو إسلامي كنتيجة طبيعية للعوامل المؤثرة باتخاذ القرار وآليات تنفيذه.
وكأي دولة مستعمرة تطرح الولايات المتحدة شعارات براقة لجذب النفوس في الدول التي تنوي استعمارها. ويأتي الإصلاح والحرية والديمقراطية على رأس هذه الشعارات لحاجة الشعوب العربية والإسلامية لها.
البرامج الأمريكية لتسهيل تمرير مشروعها الاستعماري:
ولتنفيذ ما تصبو إليه الإدارة الأمريكية من بناء للشرق الأوسط الجديد، أطلقت الولايات المتحدة مبادرات وبرامج عديدة أهمها:
مبادرة منطقة التجارة الحرة:
تهدف المبادرة إلى إنشاء منطقة للتجارة الحرة قائمة على الفكرة الليبرالية واقتصاد السوق. ويرى الأمريكيون أن نتيجة قيام تلك المنطقة ستكون نمواً اقتصادياً كاملاً مما سيؤدي بدوره إلى بروز طبقة متوسطة الغنى ستكون صِمَام أمان المجتمع. وترنو الولايات المتحدة إلى نوع من التكامل الاقتصادي بين دول المنطقة من جهة، وبينها وبين الولايات المتحدة من جهة أخرى، وذلك على غرار ما هو حاصل مع الأردن، البحرين، عُمان، والمغرب. وبالطبع ستكون (الدولة الصهيونية) محور هذا الحلف الاقتصادي.
مبادرة الشرق الأوسط الكبير:
تقوم هذه المبادرة على عقد اجتماعات سنوية بين ممثلي الحكومات ورجال الأعمال ومؤسسات المجتمع المدني من جهة وممثلي الدول الثماني الكبرى. والغاية من تلك المبادرة تأمين الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لشعوب تلك الدولº لأن الاضطرابات وعدم الاستقرار سينعكس على الدول الغربية. وعقد حتى الآن مؤتمران للمبادرة في المغرب (2004) والبحرين (2005) وسيُعقد المؤتمر الثالث في عمان قبل نهاية العام الحالي.
مبادرة شراكة الشرق الأوسط:
تقوم هذه المبادرة على ركيزتين وهما: مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان التابع لوزارة الخارجية، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
وتهدف هذه المبادرة إلى دعم خطوات الإصلاح عن طريق تأمين المساعدات اللازمة للمؤسسات الحكومية وتوزيع منح مالية لمنظمات المجتمع المدني ودعم السياسيين المحليين الدائرين في الفلك الأمريكي. وفي المجال الثقافي تركز المبادرة على ترجمة الكتب الأمريكية للغة العربية، وترجمة ودبلجة الأفلام. وتولي المبادرة قضايا المرأة أهمية خاصة.
ويبين الجدول التالي برامج المبادرة وحجم الأموال المدفوعة لتغطيتها (بملايين الدولارات).
ورغم الجهود التي تقوم بها الإدارة الأمريكية، إلا أن تأثير ذلك على المنطقة ما زال محدوداً جداً، بل انعكس سلباً على أمريكا.
ففي السنتين الأخيرتين جرت انتخابات في عدد من الدول صعدت بنتيجته تيارات معادية للسياسة الأمريكية بالكامل. ففي فلسطين رغم نكباتها، وفي مصر، كان فوز التيار الإسلامي الذي أرادت أمريكا مكافحته ملفتاً. وقد أدى هذا الأمر إلى مراجعة السياسة الأمريكية بالكامل، فهل تستمر الولايات المتحدة بدعمها لما يسمى بـ (الإصلاح) وما يفرزه من نتائج عكسية، أم أن على الولايات المتحدة وقف دعم الديمقراطية والتحالف مع الأنظمة المستبدة من أجل مصالحها ومصالح (الدولة الصهيونية)؟
خريطة الشرق الأوسط الجديد:
يبدو أن الإدارة الأمريكية أمام فشل سياستها لدعم الإصلاح والديمقراطية في الشرق قد وجدت أن سياسة العصا أحق بالاتباع من سياسة الجزرةº فقد بدأت أمريكا بحربها على أفغانستان، ومن ثم على العراق، وحاولت الشيء نفسه بالوكالة عن طريق (الصهاينة) في حربها المستمرة ضد الشعب الفلسطيني وحكومته المنتخبة ديمقراطياً. وما زالت تهدد بعمل عسكري ضد سورية وإيران، السودان وضد الصومال أخيراً. كما سبق أنها هددت بإعادة باكستان إلى العصر الحجري إن لم تتحالف معها. ولكن لماذا كل ذلك؟ وهل حقاً تريد أمريكا الإصلاح والحرية والديمقراطية؟
خريطة الشرق الأوسط الجديد التي نشرتها مجلة «القوات المسلحة» الأمريكية توضح حقيقة أن كل ما يتم لا يخرج عن المصلحة الأمريكية - (الصهيونية) المشتركة.
فمصلحة الولايات المتحدة أن تسيطر على الدول الإسلامية بأي طريقة كانت للقضاء على الإسلام، الذي تعتبره المحرك الرئيسي لظاهرة العداء لها والمستحكم في نفوس شعوب العالم الإسلامي، ومن ثم السيطرة على موارده الاقتصادية وإشراك (الدولة الصهيونية) في ذلك، إضافة إلى زرع المنطقة بدويلات قومية ومذهبية وعرقية تبرر للكيان الصهيوني وجوده كدولة عنصرية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد