الإسلام اليوم/ الزيارة الخاطفة التي قام بها الرئيس الفرنسي جاك شيراك لليبيا يوم الأربعاء 24 نوفمبر في طريقه إلى بوركينا فاسو للمشاركة في القمة العاشرة للفرانكوفونيةº تكتسب أهمية كبيرة في السياسة المغاربية لفرنسا، وتُعَد منعطفاً بارزاً في العلاقات المغاربية - الفرنسية خلال العقود الأربعة الماضية، وتتخذ دلالات عدة بالنسب لمستقبل هذه العلاقات، وبالنسبة لمنطقة المغرب العربي عموماً.
فهذه الزيارة تُعد الأولى من نوعها لرئيس فرنسي منذ انقلاب 1969م في ليبيا وبداية عهد العقيد الليبي معمر القذافي، وهي الأولى أيضاً لمسؤول فرنسي منذ استقلال ليبيا عن الاستعمار الإيطالي عام 1951م، ومن المؤكد أنها ستضع حداً للقطيعة التي استمرت طويلاً بين البلدين، وجعلت فرنسا لا تتحدث في سياستها المغاربية سوى عن أربع دول هي: المغرب وتونس والجزائر وموريتانيا إلى حد ما، دون المراهنة على أي امتداد لهذه السياسة في ليبيا.
للتقارب ثمن:
مثل هذه الزيارة لم تكن واردة دون أن يقدم النظام الليبي مؤشرات تدل على اعتداله واستعداده للتقارب مع القوى الأوروبية في السنة الماضية، مما مكنه من العودة إلى الساحة الدولية بعد مرحلة طويلة من المناكفة وشدّ الحبل، فبعد غزو العراق أعلن النظام الليبي تخليه عن برامج التسلح النووي طواعية بعد عدة أشهر من المفاوضات السرية مع واشنطن ولندن تُوِّجت بإعلان بريطانيا عن الخطوة الليبية.
وقد خلفت طريقة الإعلان عن تلك المبادرة - حيث إنها تمت من طرف لندن وليس طرابلس -، والمفاوضات السرية مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية دون إشراك فرنسا استياء واسعاً لدى المسؤولين الفرنسيين الذين رأوا في ذلك نوعاً من النية المبيتة في استبعاد أي دور فرنسي في مبادرة كبرى من هذا النوع، وفي منطقة ظلت تعد على الدوام مربعاً استراتيجياً فرنسياً بامتياز، بالنظر إلى ماضيها الاستعماري الطويل، ثم جاءت خطوة التعويض الليبي لضحايا طائرة لوكربي لتزيد من غضب الفرنسيين، فاختارت فرنسا الدخول في مساومة مع النظام الليبي ومطالبته بتعويض ضحايا طائرة"يوتا" الفرنسية التي أسقطتها المصالح الليبية فوق سماء النيجر عام 1989م، رداً على التدخل العسكري الفرنسي في التشاد، وطرد القوات الليبية منها، وقبلت ليبيا بعد مفاوضات صعبة دفع (170) مليون دولار لعائلات الضحايا الفرنسيين، مما أدى إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات الفرنسية - الليبية.
وقد مهدت تلك الانفراجة، وإعلان النظام الليبي تخليه عن"الإرهاب"، واعترافه بالممارسات الماضية علناً، وتغيير الخطاب الراديكالي لدى المسؤولين الليبيينº مهدت لعودة ليبيا إلى المسرح الدولي، وشطب اسمها من اللوائح السنوية التي تعدها الإدارة الأمريكية عن الدول الراعية للإرهاب، ورفع الحصار الاقتصادي والحظر على استيراد الأسلحة اللذين كانا مفروضين عليها في السنوات الماضية، وبدأت طرابلس تستقبل المسؤولين الأوروبيين، حيث قام بزيارتها خلال الشهور الماضية كل من رئيسي الوزراء البريطاني طوني بلير، والإيطالي سيرجيو برلسكوني، والمستشار الألماني جرهارد شرودر، وأخيراً الرئيس الفرنسي شيراك.
الرهان على النفط الليبي:
مقارنة مع المغرب وتونس والجزائر التي تُعد من الزبائن الأكبر لفرنسا في المغرب العربي، تكاد المبادلات التجارية والاقتصادية بين ليبيا وفرنسا لا تمثل حجماً قابلاً للقياس، ذلك أن الواردات الفرنسية من ليبيا - والتي تقتصر أساساً على البترول - لا تزيد عن 800 مليون أورو، وهي قيمة أقل بكثير من قيمة مشتريات فرنسا من البترول الجزائري مثلاً، بينما لا تتجاوز صادراتها إلى السوق الليبية 300 مليون أورو.
وتراهن فرنسا من خلال استئناف تطبيع علاقاتها مع ليبيا على الرفع من حجم المبادلات التجارية والاقتصادية الثنائية وإيجاد موقع لها في قطاع النفط الليبي، خاصة وأن هذا الأخير أصبح يثير شهية عدد من الشركات الأمريكية والبريطانية بعد التحول السياسي الليبيº إذ يقدر الاحتياطي الليبي من النفط بـنحو 30 مليار برميل، وأعلنت طرابلس قبل أشهر أنها ستضاعف من إنتاجها ثلاث مرات في أفق عام 2010.
منافسة فرنسية - أمريكية على المنطقة:
لكن إلى جانب الهاجس الاقتصادي والتجاري تدرك فرنسا أنها دخلت مع واشنطن في منافسة محمومة على النفط في المنطقة المغاربية، خاصة وأنها تعي جيداً أنّ الانفراج في علاقاتها مع الجماهيرية لم يكن ممكناً قبل أن ترفع واشنطن اسم ليبيا من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، وتصدر"تبرئة ذمة" في حقها، وهو ما دفع أحد المعلقين الفرنسيين إلى القول بأن فرنسا لا تزال ضحية الولايات المتحدة الأمريكية التي تحدد هي أي الدول من "محور الشر" وأي الدول من خارجه.
بداية التطبيع الفرنسي - الليبي تأتي في سياق تطورات سياسية واستراتيجية ضخمة تمر منها منطقة المغرب العربي، وتنهض كمؤشر على انطلاق الصراع بين باريس وواشنطن على النفوذ في المنطقة، فخلال الأسابيع القليلة المقبلة سينعقد بالمغرب "منتدى المستقبل" الذي دعت إليه الولايات المتحدة الأمريكية بغرض الدفع بمشروع "الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا"، ودمقرطة الأنظمة العربية والإسلامية، وهو عنوان على تمادي النفوذ الأمريكي في المنطقة، وبمثابة تتويج لحربها على العراق التي كانت فرنسا وألمانيا من المعارضين لها، كما أنه - أي المنتدى - يأتي في سياق التمدّد الأمريكي في المنطقة خلال السنوات الثلاث الماضية عقب تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وخاصة على المستويين الأمني والعسكري، دون إغفال المستوى الاقتصادي والتجاري الذي يتقوى بفعل الدينامكية التي فتحها مشروع الشراكة الأمريكية - المغاربية المعلن عنها في عام 1998م، وكذا المستوى السياسي المتمثل في التعاطي الأمريكي مع موضوع النزاع حول الصحراء المغربية على حساب أي دور يمكن أن تلعبه فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة في المنطقة.
ويمكن القول بأن الزيارة الخاطفة للرئيس الفرنسي لليبيا على رغم قصرها إلا أنها تتخذ طابعاً رمزياً قوياً بالنسبة لسياسة فرنسا المغاربية في هذه المرحلة، تريد من خلالها باريس وهي تحضر القمة العاشرة للمنظمة الدولية للفرانكوفونية في "واغادوغو" ببوركينا فاسو أن توجه رسالة إلى واشنطن، فهذه القمة ستحضرها الجزائر بصفتها عضواً جديداً بالمنظمة منذ استقلال الجزائر عن فرنسا في بداية الستينيات من القرن الماضي، حيث ظلت الجزائر التي تشهد أكبر انتشار للغة الفرنسية في المنطقة تقاطع هذه المنظمة منذ إنشائها إلى عام 2002 عندما حضر الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة القمة التاسعة لها في بيروت، من هنا فإن الرئيس الفرنسي يحضر القمة وفي جعبته مكسبان مهمان في المنطقة: عودة الجزائر إلى حظيرة المنظمة الفرانكوفونية، وتطبيع العلاقات مع ليبيا.
والرسالة الفرنسية إلى واشنطن تقول: إنه إذا كان"منتدى المستقبل" سيتعرض لإصلاح الأنظمة العربية والإسلامية وفق مشروع جاهز لا يأخذ في الحسبان الاختلافات الثقافية بين بلدان المنطقة، فإن قمة الفرنكوفونية ستعالج التعددية الثقافية، وحوار الحضارات، وفي الظاهر يبدو ذلك تشخيصاً لحجم الخلافات الفرنسية - الأمريكية، لكنه في العمق يخفي صراعاً استعمارياً على النفوذ في المنطقة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد