مقديشو عاصمة جمهورية الصومال، وقد برزت كمدينة حضارية في عام 920م كعاصمة للمحور جنوب الصومال حسبما تؤكد الدراسات التاريخية، وفي عام 1960م أصبحت العاصمة الرسمية لما يُعرف اليوم بجمهورية الصومال.
وحديثنا عن مقديشو حديث ذو شجون، حديث عن تاريخ الشعب الصومالي بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ,º إذ تحتل لدى كل إنسان صومالي موقعاً مهماً، كما هي قلب الأمة الصومالية، وجس نبضها الحقيقي، ومن يسيطر عليها فإن الأقاليم الصومالية الأخرى ستخضع له بدون شك، ولهذا فإن الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1991م بعد انهيار الحكومة المركزية أكدت الدور الحاسم للعاصمة الصومالية في إخضاع باقي البلاد، حيث أصبحت مقديشو المحور الرئيس الذي كان أمراء الحرب يتصارعون - بين الحين والآخر - للسيطرة عليها عسى ولعل أن يفرض الطرف المنتصر بسط نفوذه على بقية الأقاليم الأخرى.
تعرّضت مقديشو إلى تخريب واسع النطاق على أيدي المليشيات المسلحة، من تدمير المؤسسات العامة والخاصة بدون استثناء للبيوت، كما أصبحت مأوى لعصابات المافيا الذين همّهم الأول والأخير الاستيلاء على أموال الغير، فعاثوا فيها الفساد من القتل والنهب، والسرقة والاختطاف والاغتصاب في ظل سيطرة أمراء الحرب.
كانت مقديشو أهم المراكز للاستخبارات الدولية والإقلييمة المعادية للشعب الصومالي، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 11/9/2001م، بالتنسيق مع أمراء الحرب الصوماليين، فتم الاعتداء على المواطنين الشرفاء، كما اختلط الحابل بالنابل، فأصبح المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، فانتشرت دور عرض الأفلام والمسلسلات الهندية والغربية، وأُغرقت البلاد بمزيد من الثقافات الهابطة عبر عدة طرق أهمها:
1. الدول المجاورة وخاصة إثيوبيا وكينيا (الخمر، المخدرات، الانحلال الخلقي).
2. الجيوش الاستخباراتية التي تستخدم وسائل متنوعة لإفساد المجمتع.
3. من بين أسباب الانحلال الخلقي الثقافة الانحلالية المستوردة من الغرب عبر أبناء الصومال العائدين منها.
4. تزايد دور عرض المسلسلات الإباحية والأغاني الماجنة المصحوبة بالرقصات الغربية.
أدخل الشعب الصومالي كله في تيه وحيرة، وظن أن جميع الطرق قد سُدّت، وتقطعت بهم السبل، في ظل إهمال دولي وعربي غريب، حتى تساءل كثير من السياسيين وخبراء علم الاجتماع: كيف يعيش الشعب الصومالي في ظل تلك الظروف الحرجة للغاية، والانعدام الأمني، والفوضى العارمة؟ فأصبحت الإجابة أن هناك عوامل عدة تساعد الصوماليين في استمرار بقائهم، وأهم تلك العوامل الإسلام.
حركة الحياة تمشي يومياً بعد يوم من اقتصاد وتعليم وثقافة، على الرغم من الفوضى العارمة التي أصبحت مادة تسلية للإعلام الدولي الذي أهمل القضية الصومالية ردحاً من الزمن.
أمراء الحرب قسّموا الصومال إلى مقاطعات وكنتونات قبلية ضعيفة لا حول لها ولا قوة، يأكل القوي منهم الضعيف، كما يأكل العدو واحدة تلو الأخرى "أمريكا وإثيوبيا"، ويؤجج الصراع العسكري بينهم بين الفينة والأخرى، حيث أصبح البلد مستباحاً بحره وبره وفضائه لتصفية حسابات دولية، إضافة إلى محاولة محو هويته الإسلامية.
أهم نتائج سيطرة أمراء الحرب علي البلد الجريح تتلخص في النقاط التالية:
1. الهجرات الخارجيةº إذ نزح ما يقدر بثلاثة ملايين صومالي إلى أنحاء العالم، يتركز معظمهم في الدول الشمالية الغريبة، ودول جوار الصومال، والدول العربية.
2. تدفق المنظمات والهيئات الغربية العاملة في مجال ما يُسمّى الإغاثة الإنسانية، ولكن في حقيقة الأمر هي منظمات وهيئات تنصيرية واستخباراتية حسبما تؤكد المعلومات التي حصلناها عليها من مصادرهم المحلية، حيث تركز في مجالين: المجال الإنساني (تقديم خدمات طبية إلى الأطفال، والنساء، وحفر الآبار، والتعليم)، ومجال إجراء البحوث والدراسات حول المشكلة الصومالية، وإيجاد الحلول المناسبة لها، ولكن النتيجة النهائية التي تتوصل تلك المنظمات في بحوثها تدور في شيء واحد وهو: أن الإسلاميين يسيطرون على القطاع التعليمي، والاقتصادي، والاتصالات الدولية، وسيملكون زمام الأمور في وقت قريب، هذا كان قبل سيطرة المحاكم الإسلامية على مقديشو.
3. ابتلع بحر خليج عدن وحده مئات الصوماليين إن لم يكن آلافاً، وهذا ليس محصوراً في هذه الناحية بل بلغت مآسي الصومال حتى شمالي أفريقيا والمحيط الأطلسي.
4. تشريد آلاف الأطفال الذين فقدوا مستقبلهم، وأصبحوا يعيشون مع الحيوانات المألوفة في بيوت الأشباح المهجورة في مقديشو نتيجة الصورايخ التي دكّتها دكاً خلال سنوات الحرب الأهلية.
5. ثورة تعليمية غير متوقعة لدى المجتمع الدولي في ظل غياب الحكومة المركزية، حيث اجتاحت جميع ولايات جمهورية الصومال المكونة من ثماني عشرة محافظة تحت إشراف التيار الإسلامي، وأدّت الثورة التعليمية إلى إحياء الثقافة الإسلامية والعربية التي كادت تندثر نتيجة سيطرة أمراء الحرب إرهابيي الصومال منذ انهيار حكومة سياد بري عام 1991م، وعلى الرغم من ذلك فإن المثقفين الصوماليين في مختلف انتماءاتهم الفكرية نجحوا في إنشاء شبكة تعليمية قوية في البلد منذ عام 1993م.
6. بروز قيادات إسلامية من جديد، والتي لم تجد فرصة مواتية منذ عام 1924م، حيث نشرت المبادئ الإسلامية في أوساط المجتمع الصومالي المتعطش لتحقيق هويته وانتمائه العربيين.
مقديشو كانت بالأمس القريب صورة مصغرة لما سردناها من كلامنا السابق خيرها وشرها، مرها وحلوها، ولكن اليوم تغير كل شيء بدون مبالغة، وبدون مقدمات تذكر، في يوم 18/2/2006 كانت ضربة البداية الحقيقية، إنها العودة الصحيحة إلى الإسلام، وفهم الداء الحقيقي الذي أصاب الشعب الصومالي، وجعل جسمه مشلولاً لا يحرّك ساكناً طيلة عقد ونصف.
ولكن اليوم استعاد الإنسان الصومالي كرامته وعافيته، وعرف أن الشرف والعزة لا يمكن حصولهما إلاّ بعد الانقياد التام إلى الله - تعالى-: ((لَقَد أَنزَلنَا إِلَيكُم كِتَاباً فِيهِ ذِكرُكُم أَفَلا تَعقِلُونَ))[الأنبياء:10]، ((وَإِنَّهُ لَذِكرٌ لَكَ وَلِقَومِكَ وَسَوفَ تُسأَلونَ))[الزخرف:44]، ((وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى))[طه: 124].
لا يوجد الآن ما يُعرف بالخطوط الخضراء ولا الحمراء بين أحياء مقديشو، كما اختفت مظاهر الحواجز المنضوية للمليشيات المسلحة، ولأول مرة تمكن سكان العاصمة من استخدام بعض الشوارع التي كانت مغلقة منذ عام 1991م، إضافة إلى المطار الدولي حيث أصبح الآن المطار الرسمي للعاصمة.
مقديشو في وحدة المحاكم:
مقديشو اليوم تخضع - ولأول مرة - لإدارة موحدة وهي المجلس الأعلى للمحاكم الإسلامية باعتراف المجتمع الدولي والإقليمي بكل مكوناته، حتى أمريكا التي قدمت الدعم لأمراء الحرب المهزومين لم تستطع إنكار الواقع الجديد في مقديشو، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما شجّعت مواصلة الحوار الصومالي في الخرطوم، والضغط على حليفتها الاستراتيجية إثيوبيا بتخفيف حدة التوتر بينها وبين المحاكم الإسلامية، كما طلبت الحكومة الانتقالية إبداء المرونة في المرحلة الحالية حيال تعاملها مع المحاكم الإسلامية.
وتعكف المحاكم الإسلامية في هذه الأيام على اختيار الإدارة المحلية التي تتولى شؤون العاصمة وغيرها من المدن الاستراتيجية التي فرضت سيطرتها، إضافة إلى فتح الميناء الدولي في العاصمة لتكتمل الصورة النهائية لمقديشو، وتواجه القيادة العليا للمحاكم الإسلامية القضايا الكبرى التي تنتظرها ومن بينها:
1. مواجهة المشاكل الأمنية الداخلية منها والخارجية.
2. إيجاد الإدارة القادرة على تولي المسؤولية في المرحلة القادمة.
3. مواجهة مشاكل إعادة الإعمار لتستعيد العاصمة بهجتها ونضارتها.
4. مواجهة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية.
5. تحقيق مصالحة صومالية شاملة على هدي الشريعة الإسلامية، في إطار بلورة رؤية إستراتيجية تنهي المشكلة الصومالية بصورة نهائية.
وتشهد مقديشو هذه الأيام عودة المثقفين الصوماليين على مختلف أفكارهم ومستوياتهم العلمية، استجابة لدعوة المحاكم الإسلامية التي وُجّهت إلى الشعب في وقت سابق أينما كان للمساهمة إعمار البلد كل على حسب طاقته، مما أعطى المجلس الأعلى للمحاكم الإسلامية فرصة نادرة لجمع النصائح والمقترحات والتوصيات النافعة حول الأسلوب الأمثل لمواصلة الثورة الشعبية بقيادة المحاكم الإسلامية بما يحقق مصالح الشعب الصومالي.
قبل فبراير الماضي أيام سيطرة أباطرة الحرب على مقديشو فإن عودة المثقفين الصوماليين كان شبه مستحيل إن لم يكن مستحيلاً، بيد أن اليوم ودّعت مقديشو أصعب فترة في تاريخها الحديث بكل منعرجاته وتناقضاته، ومصائبه المتعددة بسيطرة المحاكم الإسلامية عليها، كما أتاحت المحاكم للمثقفين الصوماليين إبداء آرائهم ومقترحاتهم وإبداعاتهم في جو ملائم ومناسب قد يساعد في إنجاح المرحلة الحالية، وخاصة بعد إعلان قيادة المحاكم الإسلامية إنهم ليسوا طلاب سلطة ولا مناصب، وإنما دورهم يتحدّد بإتاحة الفرصة للشعب الصومالي ليقرر مصيره بنفسه، ويستفيد من الفرصة الحالية التاريخية التي تحقّقت بفضل الله ثم بفضل الثورة الشعبية بقيادة المحاكم الإسلامية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد