على غرار ما صنع المحافظون الجدد والمسيحيون التوراتيون بتفجيرات نيويورك وواشنطن يوم 11/9/2001م، وتصويرها كبداية تاريخ أمريكي عالمي جديد للتعامل مع الإسلام والمسلمين تحت عنوان 'الحرب على الإرهاب'، تحاول مراكز القوى العلمانية الأصولية في أوروبا أن تجعل من جريمة اغتيال المخرج الهولندي 'فان جوخ' يوم 2/11/2004م مفصلاً تاريخيًا، وتصويرها بداية لتأريخ أوروبي جديد يستخدم لغة الحرب في التعامل مع الإسلام والمسلمين في أوروبا.
العديد من وسائل الإعلام تناولت الحدث بهذه الروح، فعليسبيل المثال كان عنوان غلاف مجلة 'دير شبيجل' يوم 15/11/2004م يقول: 'بنات الله بلا حقوق ـ النساء المسلمات في ألمانيا' وقد شغل منها زهاء 15 صفحة، وعنوان آخر 'نهاية سلام زائف' على امتداد سبع صفحات من جريدة 'دي تسايت' الأسبوعية يوم 18/11/2004م، ومعظم هذا التناول الإعلامي كان يدور حول سؤال رئيس وهو 'كيف تدافع أوروبا عن قيمها تجاه الخطر الإسلامي؟ وكيف تودع حلم مجتمع متعدد الثقافات؟ أو التنديد بـ'تغلغل الشريعة في القوانين الأوروبية' إشارة إلى أحكام قضائية تعطي المسلمين بعض حقوقهم بشأن أطفالهم في المدارس مثلاً.. أو التحريض على 'ترحيل خطباء الجمعة الذين ينشرون الكراهية داخل المصليات والمساجد بأوروبا'.. أو التكهن بوجود 'مجتمعات في الظل داخل المجتمعات الأوروبية يسودها القهر والعنف على حساب النساء المسلمات'.. والقائمة طويلة، وإن كانت لا تعني انعدام وجود بعض المقالات والمواقف المتوازنة، التي تحذر من 'الهيستيريا' في التعامل مع الحدث، وتؤكد خطورة صب الزيت على نار مشاعر التعصب الهائجة، التي تثيرها أحداث هولندا، إنما تبقى نسبة هذه الأصوات للأسف محدودة، فيضيع تأثيرها في إطار الأجواء الحالية.
المواجهة باسم 'الحرية'
ليس من السهل متابعة ما يجري في هولندا، واستيعابه، واستيعاب الضجة التي تثار حوله، دون التوقف عند الأرضية التي تتحرك عليها هذه الأحداث، وقد أصبحت تتكرر في الآونة الأخيرة، بتواتر متصاعد، وبأشكال متعددة في العديد من البلدان الأوروبية.
ليس الأمر خافيًا أن سقف الحريات في أوروبا مرتفع بما لا يقارن مع أوضاعها في البلدان العربية والإسلامية، وليس خافيًا أيضًا أن كثيرًا من المنتجات الفنية والثقافية الأوروبية تتضمن صورًا استفزازية مرفوضة، طالما استثارت الاحتجاجات الكنسية والعديد من الأوساط الفكرية والثقافية والاجتماعية، على أن جميع ذلك ـ كما يقول المحرر 'ينس يسن' في صحيفة 'دي تسايت' الألمانية: يبقي داخل نطاق ما أرساه مبدأ الفصل بين الدين والدولة، نتيجة تطور تاريخي 'تشارك الكنيسة نفسها في تبريره الثقافي'، ولكن لا يسري ذلك على الإسلام الذي انتشر حديثًا وأصبح موجودًا بقوة داخل المجتمعات الأوروبية.
ويعتمد نشر التأكيدات المتواصلة لاعتبار الإسلام 'غريبًا' على المجتمع الأوروبي ومتناقضًا مع ثوابته الدينية والتاريخية ـ على مثل هذه التفسيرات سالفة الذكر ـ، هذا رغم أن الإسلام لم يعد 'ديانة قادمة مع مهاجرين وافدين وأجانب مقيمين بصفة مؤقتة' بل أصبح تدين به نسبة عالية من المواطنين الأوروبيين أصلاً، ومن المولودين من الجيلين الثاني والثالث في الأقطار الأوروبية ولا يعرفون لأنفسهم أوطانًا سواها، ومن المتجنسين المقيمين في أوروبا منذ عشرات السنين، وإلى جانب هؤلاء وجد الوافدون واللاجئون والمهاجرون حديثًا.
ـ هذه 'الحريات الشخصية' وفق المنظومة العلمانية لا تكفل الحرية الدينية أكثر من أي منظومة أخرى، فالواقع أن كثيرًا مما شهدته أوروبا في إطار إعطائها السيادة، كان على حساب الحرية الدينية بمفهومها الغربي نفسه، مثل التطوير الموجه للعلاقات بين الجنسين نحو الإباحية المطلقة عبر العقود القليلة الماضية على حساب القيم الدينية الكنسية.. بالمقابل يرون ـ أي العلمانيين ـ في رفض الفرد لهذا التطور من منطلق رؤيته لحريته الدينية مشكلة تواجههم.
هنا بالذات أوجد الانتشار الإسلامي الكمي والنوعي في أوروبا حالة جديدة لا تنسجم مع معادلة التطورات العلمانية المدعومة بسيطرة العوامل الدينية الاقتصادية على صناعة القرار، وعلى آلية التقنين، وعلى الأوضاع السياسية عمومًا.
إن ازدياد الإقبال على الإسلام وعلى الالتزام به وبقيمة الخلقية والاجتماعية، أوجد على الأرض الواقع ممارسات يومية، إذ ما وصلت إلى نقاط التماس الاجتماعي أو نقاط تقاطع التصورات مع العلمانية، سرعان ما يبدأ التفاعل مع الظاهرة، سلبًا وإيجابًا. من الأمثلة على ذلك امتناع الفتيات المسلمات عن المشاركة بملابس فاضحة في دروس الرياضة، أو رفضهن مشاركة قريناتهن في المدرسة في الذهاب في رحلة جماعية مدرسة مختلطة.
التفاعل الإيجابي يظهر للعيان من خلال تفهم متزايد في نطاق جيل الشبيبة للإسلام والمسلمين، بل والإقبال في كثير من الحالات على الاقتناع به واعتناقه لمثل هذه الأسباب، بالإضافة إلى 'عنصر الحياة الأسرية' وقد أصبح في مقدمة تعليلات اعتناق الإسلام.
أما الوجه السلبي للتفاعل مع المثال المذكور، فيظهر للعيان من خلال إطلاق اتهامات، للآباء والأمهات من 'الأصوليين الإسلاميين' بفرض تلك السلوكيات على أولادهم.. لتبرير تحرك مضاد لمواجهة ما يصورنه 'إكراهًا تربويًا' من جانب المسلمين على حساب أطفالهم!...
غفلة السلطات وتقصير المسلمين
إذا كان تبرير المواجهات السلبية يعتمد على أولوية 'الحرية الشخصية' في الفكر والفن على ما عداها، فليس هذا التبرير صحيحًا، إذ إن الحرية الشخصية كما يتبناها العلمانيون الأوربيون ليست مطلقة كما يشاع عنها، كما أن تقييدها لا يقتصر ـ كما تردد أوساط المتغربين العلمانيين في البلدان الإسلامية أحيانًا ـ على الميادين ذات العلاقة بمنع العدوان المباشر على الآخرين قتلاً أو إهانة، أي في الميادين المتعارف على ضرورة تقييد الحرية الفردية لضبط العلاقات البشرية والاجتماعية.. إنما تظهر القيود على الحرية الشخصية في الميدان الفكري والثقافي والفني والعلمي أيضًا، والمثال الصارخ بهذا الصدد معروف، ففي سائر ما يرتبط بما يسمى العداء للسامية، تؤثر الاعتبارات السياسية وسواها على التصورات العلمانية للحريات تأثيرًا جعل الحكومات الأوروبية ـ أو معظمها ـ يلجأ إلى سن تشريعات قانونية، لمنع ممارسة الحرية الفكرية أو الأدبية أو الفنية أو حتى البحث العلمي، بصورة تمس مسألة العداء للسامية وفق المنظور المثبت لها، مثل التشكيك فيما بات يعامل معاملة 'عقيدة' تاريخية عن المحرقة النازية لليهود!
ألا ينبغي التساؤل ـ قياسًا على ذلك على الأقل ـ عن أسباب تغييب أخذ 'الاعتبارات السياسية' الراهنة والبالغة الأهمية بعين الاعتبار، ومراعاتها في 'تقنين العلاقة' بين الحريات الشخصية الفردية والوجود الإسلامي في أوروبا؟
المرحلة الساخنة
إن المرحلة الساخنة الحالية للعلاقات الإسلامية ـ الغربية عمومًا، وعلاقات المسلمين في الغرب بالمجتمعات والسلطات الغربية على وجه التخصيص، تقتضي في الأصل اتخاذ خطوات رسمية واضحة تمنع الممارسات التي تستند إلى الحرية الشخصية في قطاعات الفنون والثقافة وسواها، وتتعداها شكلاً ومضمونًا عبر ما تتضمنه من افتراءات على الإسلام بصورة صارخة. وليس المقصود هنا 'حظر' سائر ما ينشر من افتراءات، فذاك ما يصعب توقعه من المجتمعات الأوروبية، ولكن المقصود ما يصل من ذلك ـ على الأقل ـ إلى 'حظر' الاستفزازات المتعمدة مضمونًا وشكلاً، وهو ما تشهد عليه مواقف عدد كبير من العامة ممن سألتهم وسائل الإعلام عن 'رأيهم' فيما يعرضه فيلم 'الخضوع' ـ للمخرج فان جوخ ـ فأبدوا مواقف واضحة ترفض ما تضمنه من افتراءات واستفزازات، وهي تقدر مسبقًا أن من شأن الأسلوب المتبع في عرضها، أن يثير ردود أفعال سلبية في صفوف المسلمين، إذا كان معظمهم قابلين للبقاء في حدود الانضباط بالشعور بالمسؤولية.
لقد كانت الأرضية القانونية مفقودة، وكانت المواقف السياسية والفكرية والإعلامية المعبرة عن الشعور بالمسئولية غائبة أيضًا، وعلى وجه التحديد في الفترة ما بين ظهور الفيلم ووقع جريمة القتل.
والواقع أن خطورة تلك الاستفزازات لا تقف عند حدود 'مشاعر المسلمين' كما يتردد باستمرار، وإنما تمتد لتشمل ما يسمى 'السلم الاجتماعي' في البلدان الأوروبية. وهنا ينبغي التنويه بأن رسوخ ثقافة العلمانية في أوروبا يؤكد أن الوصول إلى درجة كافية من الاقتناع الشعبي والسياسي في أوروبا بتلك الخطورة للتعامل معها من منطلق المسؤولية، يتطلب جهودًا كبيرة تبذلها الجهات الإسلامية بالتواصل والتعاون مع المنصفين في الغرب، وقد بدأ يتزايد عددهم بوضوح، وبدأ ينتشر في صفوفهم الوعي بأبعاد المشكلة وبالتالي التحذير من استفحالها والوصول بها إلى درجة 'الصراع الحضاري'.
وقد كان ما صنعه 'فان جوخ' فرصة مواتية للتحرك الإسلامي على الأصعدة الفكرية والثقافية والإعلامية، وكذلك بالوسائل الأخرى المتاحة في الأنظمة الديمقراطية الأوروبية، كالمظاهرات وأشكال التعبير المتعددة للاحتجاج، مما يمكن ـ لو وقع في الوقت المناسب بالشكل المناسب ـ أن يؤثر في الاتجاه الصحيح على الرأي العام وعلى صانع القرار في مختلف الميادين السياسية وغيرها. وهنا لا بد من الإقرار بأن غفلة المؤسسات والتنظيمات الإسلامية عن الاستفادة الإيجابية من الفرصة كانت واضحة.
ولا يصح تصوير الأحداث الجارية وكأنها 'صراع شامل' بين المسلمين وغير المسلمين في هولندا أو في أوروبا، فالمواجهات على الأرض مع استخدام العنف هي مواجهات بين أقليات متطرفة من الجانبين.
إمكانية تطويق الحدث
وما يزال في الإمكان تطويق الحدث والتحكم به بالتعقل والتواصل المباشر والتفاهم، وتتحمل السلطات المسؤولية عنها في الدرجة الأولى ووسائل الإعلام الجماهيرية في الدرجة الثانية، فهي الأقدر على التصرف بحكم مواقعها، وهنا تكمن المشكلة إذ لا يزال صوت 'الأصوليين العلمانيين' هو الأعلى في التعامل مع الحدث، وهذا ما يدفع مثلاً محررًا إعلاميًا منصفًا مثل يورج فيكتور يوم 18/11/2004/ إلى القول: 'إن ردود الفعل الهيستيرية على قتل فان جوخ تكشف عن شرخ عميق في المجتمع'.
سياسيون وصحفيون ينادون علنًا بنهاية التسامح، ويجعلون من أقلية المسلمين في هولندا كبش الفداء للتوترات الاجتماعية التي توشك أن تفجر المجتمع.
من هؤلاء ـ المتطرفين مثلاً ـ جيريت تسام، وزير المالية ونائب رئيس الوزراء بهولندا، وهو من حزب الشعب اليميني، وقد عاد يوم 5/11/2004م إلى 'إعلان الحرب على الأصوليين الإسلاميين والقضاء عليهم قضاء مبرمًا مهما كلف ذلك ماليًا'، وطالب الآخرين بسن قوانين تسمح بترحيل المشتبه بهم من المسلمين دون الرجوع إلى القضاء ودون أية عراقيل بيروقراطية.
والواقع أن التهديد المتكرر بالترحيل يريد أن يوحي بأن الوجود الإسلامي في بلد أوروبي كهولندا هو وجود 'أجنبي' محض. كما يكشف عن أن روح العداء وصلت ببعض المسؤولين إلى درجة 'تزوير' رسائل تهديد موجهة إلى مسؤولين هولنديين كما لو كانت صادرة عن مسلمين، وهو ما صنعه السياسي اليميني الهولندي 'بيم فورتوين' وقد اعترف بذلك لاحقًا.
وبالمقابل يبدو القلق واضحًا في الكلمات المعدودة التي نشرها المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا في صيغة تساؤلات عن مستقبل الحملة الغوغائية الراهنة، وما يمكن أن تؤثر به على المسلمين وعلاقاتهم بسواهم، ويسري شبيه ذلك على البيان الصادر عن اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروباº متجنبًا الإدانة الواضحة وداعيًا إلى التسامح بصيغة التعميم.
إن الحدث لا يكشف فقط عن مدى ما يمضي إليه 'الأصوليون العلمانيون' في أوروبا لتوظيف حادثة القتل للقيام بحملة غوغائية ضد الوجود الإسلامي في المجتمع الأوروبي، بل يكشف في الوقت نفسه عن حجم القصور القائم من جانب المسلمين، وعلى وجه التحديد منظماتهم الرئيسة، على صعيد التواصل الدائم مع أصحاب التأثير في صناعة القرار والرأي العام، والتوعية على المستويات الشعبية، والتوجيه على مستوى المسلمين أنفسهم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد