بعد ما يقرب من أربعين عاماً من التردد فتحت أوروبا ذراعيها إلى تركيا ولكن بشروط ثقيلة، وتركيا التي لم تتوانى من قرع باب النادي الأوروبي باستمرار جاءها الجواب جلياً بأنها ليست جاهزة أو مؤهلة بعد لتصبح ضمن أعضائه.
تقرير مجلس المفوضية الأوروبية الذي أوصى في 6 أكتوبر / تشرين الأول الجاري ببدء التفاوض مع تركيا من أجل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبيº أقر بأن أنقرة "حققت بشكل كاف" كل المعايير السياسية المطلوبة " معايير كوبنهاجن"، إلا أنه وضع شروطاً قاسية، وحذر بأنه ليس هناك من ضمانات لانتهاء المفاوضات بدخول تركيا إلى الاتحاد التي قد تمتد لمدة طويلة من الزمن، ودون أن يحدد أيضاً تاريخاً معيناً لبدء التفاوض، وترك مسألة تحديد ذلك إلى رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي لتقريرها في حال تمت الموافقة على هذه التوصية بنظام الأغلبية المؤهلة في اجتماعهم في ديسمبر القادم، وهذا ما يبقي تركيا واقفة على أعتاب القارة الأوروبية رغم بلوغ الإلحاح التركي درجة الاستجداء في الآونة الأخيرة.
إشارة رومانو برودى (رئيس المفوضية الأوروبية) بأن موافقة المفوضية تعد رسالة ثقة يتم توجيهها إلى تركيا وشعبها وحكومتها اعترافاً منهم بالطموحات التاريخية لكمال آتاتورك في مشاركة أقدار وقيم أوروبا، لم تخفف من وطأة الشروط الأوروبية وفي مقدمتها إمكانية تعليق المفاوضات في حالة حدوث انتهاكات خطيرة لمبادئ الحرية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية والديمقراطية وسلطة القانون التي يقوم عليها الاتحاد، كما وجه تقرير المفوضية الأوروبية انتقادات تتعلق بأوجه القصور في تطبيق حرية المعتقدات الدينية التي يضمنها الدستور التركي، حيث يرى بأنه لا يزال تتعرض الجاليات غير المسلمة لبعض المشاكل الخطيرة تتعلق بالهوية القانونية، وحقوق الملكية، والكهنوت، والمدارس، والإدارة الداخلية.
وفي الوقت الذي مدح فيه التقرير الإصلاحات التي قامت بها أنقرة، ودرجة التوافق في السياسة الخارجية التركية مع توجهات الاتحاد الأوربي، نوه إلى استمرار التعذيب بالسجون، والمعتقلات، وأقسام الشرطة التركية، وحبس الصحفيين في قضايا الرأي، وحذر من احتمالات تزايد حركة الهجرة الإضافية من تركيا باتجاه الدول الأعضاء مع الانضمام، واقترح أوقات انتقالية أطول بالنسبة لحركة انتقال البشر، وبند وقائي لتفادى أي خلل كبير في أسواق العمالة داخل الاتحاد الأوروبي، بالرغم من أن ديناميكية النمو السكاني في تركيا من شأنها تحقيق التوازن بالنسبة لزيادة معدلات الشيخوخة في الاتحاد التي أظهرتها الدراسات الديمغرافية هناك.
تركيا نموذج يحتذى:
أشار التقرير إلى أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي سيكون مختلفاً عن عمليات التوسع السابقة بسبب مجموعة من العوامل المتعلقة بالحجم السكاني لتركيا، وموقعها الجغرافي، وإمكاناتها الاقتصادية والأمنية والعسكرية، ولكنه أكد أن هذه العوامل تعطي تركيا القدرة على المساهمة في الاستقرار الإقليمي والدولي، ويفهم ذلك بأنه يأتي متسقاً مع ما أطلقته بعض التقارير الصادرة عن مؤسسات أوروبية و أمريكية مؤخراً في مناقشتها مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد، وإبرازها للفوائد الاستراتيجية والاقتصادية والحضارية لمثل هذا الانضمام بالنسبة للمصالح الأوروبية.
ويظهر حجم الرغبة الأوروبية في ضم تركيا ما ذكره التقرير بأن تركيا ستكون نموذجاً هاماً يحتذى لدولة ذات أغلبية مسلمة، وتعتنق في ذات الوقت المبادئ الأساسية للحرية، والديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، والحريات الأساسية، وسلطة القانون، وهو ما يساعد على زيادة تقارب السياسات الأوروبية مع دول الجوار لتركيا مما سيستدعي الأخذ في الاعتبار الروابط القائمة بينها وبين جيرانها، إلا أن الأمر يرتبط بصورة كبيرة بمدى استعداد الاتحاد الأوروبي ليقوم بدور كامل ونشط في مناطق معروفة بعدم الاستقرار والتوتر بما في ذلك الشرق الأوسط والقوقاز.
ويمكن فهم هذه التوقعات في ضوء أن أوروبا باتت تشهد تحولاً ملحوظاً في مقاربتها لتركيا، فبعد أن كان معظم الأوروبيين يغلب العامل الديني، ويرفع شعار الهوية الثقافية، والتجارب التاريخية، والتهديد الديمغرافي عند الحديث عن تركيا أخذ مسار الطرح يرتبط أكثر بالتحولات الاستراتيجية الدولية بعد احتلال العراق، ورغبة القادة الأوروبيون في تعزيز ميزان القارة بالثقل التركي، سيما مع وجود اعتقاد قوي عند حزب العدالة والتنمية الحاكم بأن السبيل الصحيح لتخطي الحالة الضاغطة في الداخل هو الهروب إلى الجهة الأوروبية، ولا شك أن هذا يستوجب من تركيا أن تفي دون نقاش بالمعايير والقيم الأوروبية، على حد قول غونتر فيرهوغن (المسؤول الأوروبي عن شؤون توسيع الاتحاد)، ولا سيما بتصريحه أن على تركيا أن تختار بين القيم التركية التقليدية (أي: الإسلامية) والقيم الأوروبية، وأبرز المقاربة الأوروبية بقوله: إن القيم الأوروبية "ليست محل نقاش".
قرار تاريخي:
الحكومة التركية الحالية التي أنجزت من الإصلاحات السياسية المنسجمة مع الشروط الأوروبية ما لم يتحقق خلال ثمانين عاماً من تحكم النخبة العلمانية بالسلطةº تدرك أن حصولها على التوصية ببدء المفاوضات يعد كافياً لتعلن نصراً سياسياً وتاريخياً مؤزراً على حد قول (وزير الخارجية التركي) عبدالله غول الذي وصف القرار بأنه تاريخي، هذه الخطوة التي جاءت بعد تنازلات سياسية كبيرة وذات مغزى في الملف القبرصي، والملف الكرديº ستطيل على ما يبدو من أمد حكومة العدالة والتنمية المحسوبة على التوجه الإسلامي، وتعزز موقفها أمام المؤسسة العسكرية التي طالها النقد في تقرير المفوضية الأوروبية بسبب استمرارها في ممارسة نفوذها من خلال آليات غير رسمية على مجلس الأمن القومي الذي تم تعيين أول مدني لرئاسته في أغسطس/ آب الماضي.
ولكن هذا لا يخفي ازدياد مخاوف التيار القومي التركي على وحدة الدولة وهيبتها، سيما وأنهم يقولون: إن التفاوض مع الاتحاد قد يشترط على تركيا إعادة النظر في تعريف الأقليات مستقبلاً، ويطالبها باعتبار الأكراد والعلويين أقليات لا بد من حصولها على حقوق سياسية على حد قولهم، إضافة إلى أن الباب سيكون مفتوحاً أمام قبرص اليونانية - العضو في الاتحاد الأوروبي - لإرغام تركيا على تقديم تنازلات قد تكون مؤلمة فيما يتصل بالقضية القبرصية ضمن معادلة عدم استخدامها حق الفيتو على عضوية تركيا، ولا يخفي القوميون هواجسهم بشأن تنشيط مساعي اللوبي الأرمني القوي في أوروبا للضغط على تركيا لحملها على الاعتراف بمجازر الأرمن، وهي كلها تحديات خطيرة قد تشل القدرة التركية في الوقت الراهن.
ما يثير قلق النخب التركية هو أن تذهب بلادهم بعيداً في تماشيها مع المطالب الأوروبية من غير أن يعد ذلك كافياً بالنسبة للأوروبيين، بحيث تبقى اسطنبول خارج القارة الأوروبية إلى أجل غير مسمى، خاصة أن الاشتراطات التي طالب بها تقرير المفوضية الأوروبية جاء بعبارات مطاطة بحيث تراعي حساسيات وقلق الشعوب الأوروبية تجاه الأتراك، في الوقت التي أثارت فيه الجدل في داخل الأوساط التركية، وربما ستجد تركيا نفسها عاجزة عن الوفاء بهذه المتطلبات نظراً لحساسية ظروفها السياسية والاستراتيجية والجغرافية، وإذا قدر لتركيا أن تنال الرضا للالتحاق بالاتحاد الأوروبي فإن القبول لن يتحقق بسهولة، إذ يتعين على تركيا أن تنجح في اختبارات عديدة حتى يتبين لدول الاتحاد حسن سلوك الدولة التركية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد