بعد أن تمكنت الهند من إيجاد موطئ قدم عسكري لها في طاجيكستان المجاورة لأفغانستان بإقامة قاعدة جوية لها في ذلك البلد، ومن افتتاح سفارة بكابل، وقنصليات دبلوماسية مشبوهة الأنشطة والأهداف في أغلب المدن الأفغانيةº فإن واضعي استراتيجيات السياسة الخارجية الهندية يمهدون لإقامة المزيد من النفوذ والهيمنة لبلدهم بأفغانستان يساعدهم في ذلك ميول (الرئيس الأفغاني) كرزاي الخاضع للحماية الأمريكية.
اندفاع الهند في دعمها لكرزاي - ربيبها إبان دراسته في جامعاتها -، ودعمها للوجود العسكري الأجنبي على الأراضي الأفغانية - سيان لديها إن كان وجوداً سوفييتياً في الحرب الباردة، أو وجوداً أمريكياً في مدة القطب الواحد - لما يمنحه هذا الوجود لها من حرية التحرك، وتنفيذ مآربهاº قد ألب الأفغان عامة، وطالبان خاصة على الهند، وأدى ضمن ما أدى إليه إلى اختطاف أحد العاملين في مشاريع الاتصالات التي تشرف عليها الهند بأفغانستان، ومن ثم قتله تعبيراً عن الكراهية للوجود الهندي، وأدى كذلك إلى اتجاه الهند نحو التفكير بإرسال قوات عسكرية خاصة لحماية رعاياها بأفغانستان مما سيجعلها تكتسب نفوذاً عسكرياً يضاف إلى الحظوة السياسية والدبلوماسية الذي تتمتع به في ممر السلطة الأفغاني الذي يحاول كرزاي سده بكلتا يديه، وأن يجعله مقصوراً على مجرمي الحرب وأمرائها، ومهربي المخدرات وذيول الولايات المتحدة والغرب الذين ينافحون عن حكومته في وجه التنامي المضطرد للحملة ضدهم من طالبان.
الهند اغتنمت فرصة مقتل مهندسها الذي ساقه سوء قدره ليكون أداة خرقاء في تنفيذ أطماع الهيمنة الهندية بالمنطقة، واكتشفت بدون جهد بذلته أدلة بتورط باكستان في مقتله بولاية زابل بجنوب أفغانستان، وقبل مضي وقت طويل على مقتله سربت الهند أنباء بثتها قناة تلفزيونية أفغانية بأن ضابطاً بالاستخبارات العسكرية الباكستانية متورط في مقتل المهندس الهندي، توقفت الهند عند هذا الحد، ولم تقم بالإشارة إلى تورط قنصلياتها "الدبلوماسية" المنتشرة في قندهار وهيرات وجلال أباد ومزار شريف وتورط سفارتها في كابل بتجنيد الإرهابيين من المنشقين الباكستانيين، وتدجيجهم بالسلاح، وإرسالهم عبر حدود أفغانستان الجنوبية ليقوموا بهجمات ضد سكان إقليم بلوشستان الباكستاني وضد سكانه.
وتبرعت القناة الأفغانية ذاتها مرتين متتاليتين مؤخراً للمجيء برجل، وقد غطت رأسه بعمامة شبيهه بما يلبسه مقاتلو طالبان، وزعمت أنه "متحدث" باسم طالبان، وجعلته يقول معترفاً: "بأن ضباط الاستخبارات العسكرية الباكستانية قد أصروا على قتل المهندس الهندي على الرغم من احتجاجات مقاتلي الطالبان"، من جانبها نفت حركة طالبان أن يكون أحداً من المتحدثين الثلاثة باسمها قد وافق على التحدث في مقابلة مع القناة التلفزيونية، وأكدت على أن من جلبته القناة لا يمثل الحركة ومتحدث مزور باسمها.
أبعاد الحرب الإعلامية تتضح من هذه الفعلة التي أقدمت عليها القناة التلفزيونية الأفغانية خدمة منها للأهداف الاستراتيجية الهندية في أفغانستان، ومحاولتها بكل السبل الممكنة مهاجمة باكستان وخصوصاً جهاز استخباراتها العسكرية الذي يشهد له بأنه يكن الكثير من العداء للهند، ولهذا فإن الرئيس الباكستاني واستجابة منه للضغوط الغربية يقوم من حين لآخر بما يصفه عملية تطهير لهذا الجهاز من العناصر التي يسميها متطرفة، لأنها لا تقبل ما يتنافى مع مصالح بلادها الاستراتيجية.
(رئيس الجهاز الأسبق) الجنرال حميد جول وضع استراتيجية في نهاية الثمانينات لتدريب المنشقين من طائفة السيخ، وتسليحهم والزج بهم لتنفيذ عمليات ضد القوات الأمنية الهندية في إقليم البنجاب الهندي بغرض مساعدتهم في مخططات الانسلاخ التي كانوا يدعون لها عن الهند، والخروج بدولة خالصستان السيخية، هذا أولاً، والعمل ثانياً على سحب الكثير من الضغط العسكري الهندي من منطقة كشمير إلى جنوبها حيث سهول إقليم البنجاب التي بها الكثير من السيخ ومعابدهم، إلا أن مخططه قد أخفق بقدوم بينظير بوتو للسلطة بباكستان، واتفاقها مع راجيف غاندي خلال زيارته لإسلام أباد على نبذ الإرهاب والعنف، وأهدت له قائمة بأسماء السيخ لتنقض عليهم قواته الأمنية والعسكرية، وقامت بالاستجابة لطلبه ثانياً بعزل الجنرال حميد جول، وفتحت المجال رحباً أمام قوات الجيش الهندي لكي تتفرغ لقتل الكشميريين والتنكيل بهم.
ولهذا فإن الهند ترى تورطاً باكستانياً في أي أحداث "عنف" تقع على أراضيها - أو ما تدعيه أراضيها - وخصوصاً في جامو وكشمير، ولكن أفغانستان انضمت للقائمة بعد مقتل المهندس الهندي على أراضيها، وفي المقابل أقنعت باكستان نفسها - وهي محقة - بأن الهند ربطت ذاتها مع العناصر الأفغانية المعادية لباكستان في الحكومة الأفغانية للتخطيط لأعمال تخريبية على أراضيها، وخصوصاً في بلوشستان في المرحلة الحالية.
مقاتلو طالبان أو المتعاطفون معهم ينتشرون في كل مكان بالمنطقة الممتدة من كابول إلى غزني وزابل ومنهما إلى قندهار وهيلمند ونيمروز وفراه وحتى هيرات، وإدراكاً من الولايات المتحدة لهذه الحقيقة فإنها قد دفعت قوات حلف الناتو للعمل على توفير 6000 جندي ليقوموا بأعمال الدورية، ولمواجهة تنامي حدة هجمات حركة طالبان، ولمحاولة جعل المنطقة أكثر أمناً لهم مما هي عليه الآن، ولمحاولة توسيع رقعة حكم الحكومة التي يحاول كرزاي إخفاء تشرذمها من خلال إلقاء كافة المشاكل التي تواجهها على الشماعة الباكستانية، بعض الدول الأعضاء بالحلف وافقت على مضض على إرسال بعض جنودها إلى ولايات قندهار واروزجان وهيلمند.
المهندس الهندي تم اعتقاله وخطفه من قرية حسن كاريز بمحافظة شاهجوي بولاية زابل، والمحافظة هي مسقط رأس عبدالسلام روكاتيي (عضو البرلمان الجديد، وهو مجاهد سابق، وعضو سابق أيضاً في طالبان، ومن القلة القليلة من قادة الحركة الذين انشقوا عنها، وساروا باتجاه حكومة كرزاي)، وحتى روكاتيي (من كلمة روكيت الإنجليزية) الذي اكتسب اسمه هذا لمهارته في إطلاق قذائف الآر بي جي - 7، وفي تدمير الدبابات والعربات المدرعة وناقلات الجنودº لم يتمكن من القيام بأي شيء حيال اختطاف المهندس من منطقته ومن بعد قتلهº عدم تدخله يعني أن هناك خشية من طالبان، وأن أحداً أياً كان ولا حتى ممثل المحافظة بالبرلمان يرغب في مواجهة مقاتلي الحركة، ويفضل عدم اكتساب عدائهم.
حركة طالبان قالت: إن المهندس الهندي قتل بينما كان يحاول الهرب، وبعد ذلك قطع رأسه لكي يكون عبرة لغيره ممن يقفوا إلى جانب محتل أفغانستان، قطع رأسه لم يتم إلا بعد أن أثار حفيظة مقاتلي طالبان خلال محاولته للهرب، وعثر على جثته بالقرب من قرية حسن كاريز، وهذا يعني أنه لم يتم أخذه بعيداً عنها خلال مدة اختطافه، وهذا يفند مزاعم الحكومة الأفغانية وحاكم إقليم زابل بأن حملة عسكرية قد تم تدشينها لاستعادة الرهينة الهندي، وأنها انطلقت بكل اتجاه، وثبت أنها لم تكن سوى أكذوبة، لم يحدث شيء من هذا القبيل، بل إنه لم تتم أي محاولات لعقد اتصالات مع حركة طالبان بشأن الإفراج عن المهندس المختطف.
الحكومة الهندية أبدت في ردود فعلها تعجلاً في بحث موضوع المهندس المختطف أكثر مما أبدته في حالة مشابهة قديمة، حاولت وزارة الخارجية الهندية أن تتفاوض بشأن إطلاق سراح المهندس على أسس إنسانية، وأرسلت وفداً مكوناً من ثلاثة أعضاء لأفغانستان، ورغماً عن أن شيئاً لم يحدث من جانب الحكومة الأفغانية إلا أن الوفد الهندي قد أقام آمالاً عريضة على عقد اتصالات مع كبار السن من رجال قبائل ولاية زابل كوسطاء بين الوفد وطالبان، في المرة السابقة قامت الهند بترك الأمر برمته إلى الحكومة الأفغانية لتتولى مهمة العمل على إطلاق سراح الرهينة السابقة، أما في هذه المرة فإن الهند قد بذلت جهوداً ذاتية لمحاولة إنقاذ حياة المهندس ولكن هذه الجهود لم تكن كافية.
حركة طالبان كانت تطالب مقابل إطلاق سراح المهندس بأن تقوم الحكومة الهندية بالإعلان عن إغلاق سفارتها في كابل، وقنصلياتها في مدن أفغانستان الأخرى، وسحب جميع الهنود العاملين بأفغانستان، وإيقاف جميع المشاريع التي تنفذها الشركات الهندية في هذا البلد، وتجدد الاتهام بعد هذه المطالب لباكستان من جانب وزارة الخارجية الهندية بأنها ترعى الإرهاب ممثلاً على حد المزاعم الهندية في طالبان.
طالبان اختطفت هندياً آخر وقتلته في نوفمبر الماضي بعد تنصل الحكومة الهندية من أي جهود لإطلاق سراحهº كما أن الحركة قد اختطفت عمالاً هنوداً آخرين في وقت سابق، وأفرجت عنهم بعد أن توصلت لاتفاقات مع الحكومة الأفغانية بشأن الإفراج عن بعض مقاتلي الحركة المعتقلين في سجون نظام كرزاي، ومع تنامي هجمات مقاتلي الحركة فإن هناك احتمالات لاختطاف مواطنين هنوداً آخرين، كما أن مهاجمة المصالح الهندية بأفغانستان سوف تكون هدفاً شرعياً للحركة بسبب تعاونهم مع قوى تحتل بلادها، الهند بدورها طلبت إذناً من الرئيس كرزاي لحشد قوة من احتياطي السلطة المركزية للشرطة الهندية في أفغانستان لحماية 2500 هندي يعملون في مشاريع هندية بأفغانستان، حكومة كرزاي لم تجب بعد على الطلب الهندي لعدة أسباب منها وجود 200 من قوة حرس التبت الهندية فعلياً على الأراضي الأفغانية، وكذلك لعدم إثارة حساسيات باكستان تجاه وجود قوة أمنية هندية بأفغانستان، وأيضاً لكي لا تبدو حكومة كرزاي ضعيفة وغير قادرة على معالجة الموقف بنفسها.
باكستان لن تقبل بهذا التحرك خصوصاً وأن هناك تقارير تفيد برغبة الهند في حشد قوات صاعقة تابعة لجيشها على الحدود الأفغانية مع باكستان، أما الأفغان فإن منهم من ينظر إلى الأمر على أنه مواجهة بين باكستان والهند على أراضيهم، ومؤيدي حكومة كرزاي يرفضون وبشدة الانتقادات الباكستانية لعلاقاتهم الحميمة مع الهند، وطالبان تعتبر الهند عدوة لهاº لأنها تدعم حكومة كرزاي، وتؤيد الوجود العسكري الأجنبي على أراضي أفغانستان، وباكستان ستبتهج كثيراً إذا استمرت طالبان في ملاحقة الهنود بأفغانستان، ولكنها ليست قادرة على مواجهة ما يقوم به نظام الرئيس كرزاي بسبب الضغوط الأمريكية التي تطلبها بدعمه، والأمريكان بدورهم يرغبون في البقاء بأفغانستان لعدة سنوات قادمة وهذا يغذي المقاومة ضدهم من تنظيمات كثيرة تتراوح ما بين طالبان والقاعدة وحكمتيار، وكل هذا سوف يصب في إذكاء المزيد من زعزعة المنطقة غير المستقرة أصلاً.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد