بسم الله الرحمن الرحيم
لاحظنا في السابق مهاجمة العصرانيين للفتوحات الإسلامية وقادتها، والتطاول على بعض الصحابة - رضي الله عنهم -، ونلاحظ هنا أن بعضهم يدافع عن الزنادقة والمرتدين باسم الدفاع عن حرية الرأي والتجديد.
وقد تحمل وزر هذه الدعوة عدد من العصرانيين، فمدحوا الخوارج واعتبروا أنهم حزب العدالة والقيم الثورية، رغم أنهم كلاب أهل جهنم كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة.
واعتبر بعضهم أن القرامطة هم الجناح اليساري في الحركة الشيعية، كما مدحوا الدولة العبيدية الإسماعيلية، وأشيد بثورة الزنج في البصرة جرياً وراء تمجيد المستشرقين لهذه الحركات المنحرفة الطائشة(1).
ثم تابع العصرانيون الجدد - أصحاب النزعة المادية - طريق من سبقهم بجرأة أشد، وانحراف أخطر(2).
تمجيدهم لعدد من الزنادقة:
دأب الطبيب (خالص جلبي) على تمجيد الحلاَّج والسهروردي ومحمود طه زعيم الإخوان الجمهوريين السودانيين، وهو باطني ضال حوكم شرعياً، وحكم بإعدامه، وأراح الله السودان منه، وستعرف المزيد عنه في هذا المقال، وقد اعتبر خالص جلبي هؤلاء مجددين قُتلوا ظلماً.
يقول في مقالة له في الشرق الأوسط: «كل المظالم وقعت باسم الشعب، وباسم الأمن، أنشئت أجهزة الرعب، وتحت بعض الشعارات تغتال الحقائقº فباسم الشعب في بغداد حكم على الحلاج بضربه ألف سوط، ثم قطع لسانه وأطرافه».
«وإن المجتمع الإنساني يتقدم بدون التجديد الدائم، وكل فكرة جديدة عانت وكابدت، من ذلك إعدام سقراط في أثينا، وإعدام محمود طه في السودان بتهمة الردة»(3).
ثم يعترض (الجلبي) على إعدام محمود محمد طه فيقول: «وتحت شعار تطبيق الشريعة الإسلامية أعدم محمود طه في السودان لرؤيا رآها، فسرت أنها كفر، ولم ينفع في رفع الحكم عنه سنواته السبعون»(4).
ويقول أيضاً: (وفي عام 1971م أعدم محمود طه في السودان على يد الطغمة العسكرية بتهمة الردة، وكان الرجل مجدداً، فلم يكفر ولم يرتد، ولكنها السلطة التي لا تتحمل النقد والمعارضة)(5).
حقيقة محمود محمد طه:
قتل هذا الرجل مرتداً لأنه كان من مدعي النبوة، وكان قد درس مذاهب الفلسفة والمنطق، وله دراسات حول مدرسة الجدليين، واستقال من عمله في الحكومة السودانية، وشكَّل الحزب الجمهوري، ولم ينضم إليه أكثر من عشرة أشخاص. عمد إلى أسلوب المحاضرة في المقاهي والشوارع، وكان يصدر منشورات باسمه، في أخريات عام 1945م(6).
سجن محمود طه مرتين، وخرج بعد المرة الأولى بعد سنتين وقد أطلق لحيته، وأرسل شعر رأسه، وأوضح أن الحزب الجمهوري حزب له رسالة، هي رسالة الحق، وأنه قد كُلِّف بهذه الرسالة، ثم سجن مرة أخرى لمدة سنتين.
وقد أسقط عن نفسه الصلاة، ولكنه نادى أتباعه بإقامة قواعد الإسلام.
كان يتأول في تفسير القرآن الكريم، ويعتبر أن الآيات المكية هي أساس الشرع، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتمكن في مكة من تعليم المسلمين أسس هذه الآيات.
نفذ فيه حكم الإعدام لادعائه النبوة، وخروجه من الإسلام بعد أن أمهل ثلاثة أيام ليتوب ويرجع عن كفره وضلاله فلم يتب ولم يتراجع، (أعدم في سجن الخرطوم).
وتوجد حقائق مذهلة عن أفكاره، ما كان يعرفها كثير من الناس، وقد بسطتها مجلة المجتمع في بعض أعدادهاº حيث بينت أن الجمهوريين في السودان يرون: أن محمود طه أفضل من النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه فصَّل الرسالة الثانية، وهي بزعمهم أعلى مرتبة من الرسالة الأولى، وحكمت المحكمة على أربعة آخرين معه بالإعدام(7).
ورغم هذه الردة عند محمود طه فإن خالص جلبي يتباكى عليه ويدافع عنه، ويعتبر أنه قُتل مظلوماً، من قِبَل السلطة العسكريةº لأنها لا تتحمل النقد والمعارضة»(8).
ويتجاهل الطبيب خالص ما كُتب عن محمود طه ورِدَّته وفكره، ومن ذلك كتاب «موقف الجمهوريين من السنة النبوية»(9) وكتاب «الردة ومحاكمة محمود محمد طه»(10).
أما الحلاج:
فهو الحسين بن منصور المتوفى عام 309 هـ، كان جده مجوسياً، عرف عند الفقهاء أنه زنديق، وكان يتعاطى السحر والشعوذة.
وكان حفيده (الحسين بن منصور) من أكبر دعاة الحلول، ودعوى امتزاج الخالق بمخلوقاته - تعالى الله عما يقوله الزنادقة علواً كبيراً -.
ومن شعر الحلاج قوله(11):
مزجت روحك في روحي كما تُمزج الخمرة في الماء الزلال
فإذا مسَّك شيء مسنـــــي فإذا أنت أنا في كل حـــــــال
ومن شعره أيضاً:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
والحلاج قتل بالعراق بعد أن ادعى النبوة حيناً، والألوهية حيناً آخر، وأقرَّ بكتاب منسوب إليه بهذه التهم.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: «الحلاج قتل على الزندقة التي ثبتت عليه، مما يوجب قتله باتفاق المسلمين، ومن قال إنه قتل بغير حق فهو: إما منافق ملحد، وإما جاهل ضال»(12).
ورغم كل ذلك فإن (جلبي) يرى: «أن الحلاج قُتل مظلوماً، وأعدم في بغداد بعد أن قطع لسانه وأطرافه»(13).
وقد أشاد خالص جلبي بالشهاب السهروردي أيضاً، واعتبر أن إعدامه كان تجاوزاً، يقول: «ربما حدثت تجاوزات حيث قضى السهروردي نحبه بفتوى أيام صلاح الدين الأيوبي»(14) ومعروف أن السهروردي كان حلولياً من أصحاب وحدة الوجود كالحلاجº فهو من ضُلاَّل الصوفية.
يقول ابن كثير - رحمه الله -: وكان الشهاب السهروردي مبتدعاً يخالف في معتقده وآرائه حَمَلة الشرع، فصلبه السلطان الظاهر في حلب - بأمر من والده السلطان صلاح الدين - بعد أن شهَّر به(15).
تمجيد جودت سعيد لعدد من الزنادقة أيضاً:
كان الشيخ جودت معجباً بابن المقفع والجاحظ أشد الإعجاب وذلك لكثرة قراءاتهما، حسب مفهوم الشيخ للقراءة.
يقول جودت سعيد: «إن الإنسان يتصاغر أمام من هو أقرأ منه.. أجل إن من يقرأ أكثر يَنَل أكثر، إنه قانون الله «من يعمل سوءاً يجز به».
ثم يقول: «وإن تجرد إلقاء نظرة على تاريخ العلماء في العالم بيبن لك أن القراءة الدائمة هي دأب العلماء».
«انظر مثلاً كتاب كليلة ودمنة، وما وضع في مقدمته من الجهود التي بذلت في تحصيل هذا الكتابº ففيه معلومات عالمية محجوزة لا يفرج عنها إلا بعد سنوات تطول أو تقصر حسب رؤى أصحابها»(16).
ثم يقول: «وإذا كان لي من نصيحة أثيرة أقدمها للشباب الذي تعلِّق الأمة عليهم آمالها، فهي أن يتطلعوا إلى مصادر للعلم غير المصادر التي كنا نستقي منها»(17).
ثم يقول أيضاً: «ويزداد الإنسان إعجاباً بأقوال ابن المقفع حول المُلك «السياسية» وأنه إما مُلك دين، أو مُلك عقل، أو ملك هوى» ويقول: «هذا هو النظر التاريخي العلمي الأخلاقي»(18).
فكثرة القراءة لا تجيز للشيخ جودت أن يمجد الملاحدة كفلاسفة الملاحدة اليونان، ولا الزنادقة كابن المقفع وأضرابه.
قال ابن عبد الهادي: «ما رأيت كتاباً في زندقة إلا وابن المقفع أصله»(19).
وقد أسهم ابن المقفع بنشر الثقافة الفارسية، ويقول عنه ابن النديم في الفهرست - وكان معاصراً له -: «كان ابن المقفع يعتني بكتاب المانوية، ونقل إلى العربية منها كتباً أخص بالذكر منها كتابه «ديانة مزدك».
وقال الخليفة العباسي «المهدي»: «وما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع»(20).
ويشيد جودت سعيد بالجاحظ أيضاً:
فيقول: «والجاحظ له مقام في الحضارة الإسلامية، يتألق نجمه على مر الزمن.. كان يتذوق مع آيات الله: آيات الآفاق والأنفس، وهو وإن كان إماماً في الأدب، إلا أنه صاحب مذهب في العقيدة أيضاً»(21).
ويقول: «كانت وفاته تحت ركام الكتب التي تهدمت عليه، إنه شهيد الكتاب والقراءة، لقد كان قارئاً بمستوى حضاري إنساني عالمي، ولكتبه طعم خاص وذوق معين، وذلك لعلميته في القراءة، ولإنسانيته في الثقافة(22).
أخي القارئ: إليك أقوال أهل العلم بالجاحظ الذي أتخذه جودت سعيد أسوة له، وزعم أنه صاحب عقيدة:
قال ابن حجر العسقلاني: «كان الجاحظ من أئمة البدع».
ويقول أبو العيناء: «كان الجاحظ قدرياً».
وقال الخطابي: «كان الجاحظ يُرمى بالزندقة».
وقال ابن حزم عنه: «كان أحد المُجَّان الضٌّلاَّل، غلب عليه الهزل»(23).
وقال الإمام الذهبي: «العلامة المتبحر المعتزلي، أخذ عن النظَّام، وأنه كـان يختلق»(24).
يلاحظ هنا أن هنالك ارتباطاً كبيراً بين أفكار الجاحظ وأفكار جودت سعيد، وخاصة فيما يتعلق بأفكار القدر والاعتزال المبثوثة في كتبهما.
تمجيد العصرانيين الجدد للمعتزلة ورؤوس الاعتزال:
يقول الدكتور خالص جلبي: «وعندما استقر الأمر للعقل الكسيح، وطُحن التيار العقلاني من المعتزلة وسواهم، أصبح التشكيك في عقيدة أي إنسان جاهزاً وحتى اليوم، وبقيت الساحة عقلاً من دون مراجعة، ونقلاً من دون عقل»(25).
والمعتزلة قوم فُتنوا بالفلسفة اليونانية، فأوَّلوا القرآن الكريم، وكذَّبوا الأحاديث التي تتعارض مع العقلية الوثنية اليونانية (26)، وحكَّموا العقل وقدَّموه على الشرع، فكَّذبوا ما لا يوافق العقل من الأحاديث الشريفة - وإن صحَّت - وأوَّلوا ما لا يوافقه من الآيات الكريمة(27).
والمعتزلة تطاولوا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -º لأن الأحاديث التي ينقلونها تخالف أصولهم، ومن هؤلاء: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، والنَّظَّام.
وقد أُعجب العصرانيون بآراء المعتزلة، ومجَّدوا النظَّام أحد رؤوسهم الذي يقول فيه البغدادي: «دخل الفساد على عقيدة النظَّام ممن خالطهم من الزنادقة والفلاسفة وغيرهم»(28).
واتخذ المعتزلة ومن شايعهم الجدل والمراء وسيلة للبحث في الدينº وذلك مخالف لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -º إذ يقول: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه، إلا أتُوا الجدل»، ثم تلا - عليه الصلاة والسلام -: «ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون»(29).
تناقضات عجيبة:
بينما كان خالص جلبي يدافع عن الزنادقة والمرتدين، ويحزن لإعدامهم، نراه يشيد بما سماه «المحاكمة العادلة» التي حوكم فيها سليمان الحلبي الطالب الأزهري الذي اغتال خليفة نابليون بمصر الجنرال كليبر، وقد حكمت عليه بالإعدامº فقد أشاد بالمحكمة الظالمة التي تواطأت مع المستعمر الفرنسي آنذاك، فقال: «انظر إلى النظام القضائي البديع، واستيفاء الوقائع، وجمع الأدلة قبل إصدار الحكم، كل ذلك في غياب مطبق لأي صورة من صور العدالة الحديثة، والقضاء الجديد، واستغلال القضاء ونزاهته»(30).
ومن الغرائب أن الطبيب خالص يحزن لمقتل الزنادقة، بينما نراه يهاجم الدعاة والعلماء، ويفرح لإعدامهم، يقول في مقال له بعنوان: «كيف تنشأ الأساطير» معرِّضاً بسيد قطب: «أفضل طريق لدخول عالم الأساطير أن يختفي صاحبها إما على حبل المشنقة كما حصل مع سيد قطب، أو غابات بوليفيا كما حصل مع غيفارا»(31).
ويتشفى جلبي بسجن ابن تيمية لأنه لم يتجنب العنف في خصوماته، وقد تحدثنا عن هجومه على السلطان الفاتح والقائد المجاهد صلاح الدين الأيوبيº لأنهم جاهدوا في سبيل الله وقاتلوا أعداء الإسلام (في ساحات المعارك) الروم والصليبيين، وخالفوا منهج الاستسلام واللاعنف كما يفهمه (جلبي وشيخه: جودت سعيد).
هذا وإن الولاء والبراء من أوثق عرى الإيمان، قال - عليه الصلاة والسلام -: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله»(32)، وقال - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاءَ تُلقُونَ إلَيهِم بِالـمَوَدَّةِ وَقَد كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ} [الممتحنة: 1].
___________________________
(1) انظر كتابنا: العصرانيون، ص 292 ـ 293.
(2) يمثل هذا الاتجاه، الشيخ جودت سعيد، والطبيب خالص جلبي مع فتنة بالتغريب وتعطيل للنصوص.
(3) الشرق الأوسط، عدد (8324) من مقال له بعنوان: (باسم الشعب)، في 12/9/2001م.
(4) سيكولوجية العنف، خالص جلبي، ص 36.
(5) الشرق الأوسط، العدد (8324) في 12/9/2001م.
(6) تتمة الأعلام للزركلي، محمد خير رمضان يوسف، مجلد 2، ص 169 ـ 170، دار ابن حزم، بيروت، 1418هـ.
(7) مجلة المجتمع في العدد (703) 15/5/1405هـ، والعدد: (705) في 29/5/1405هـ، وتتمة الأعلام، 2/169 ـ 170.
(8) الشرق الأوسط، في 12/9/2001م.
(9) موقف الجمهوريين من السنة النبوية، شوقي بشير، طبعها في مكة المكرمة، رابطة العالم الإسلامي، 1408هـ.
(10) الردة ومحاكمة محمود طه، تأليف المكاشفي الكباشي، دار الفكر بالخرطوم، 1408هـ.
(11) البداية والنهاية، لابن كثير، 11/132 ـ 134، مطبعة دار الفكر، بيروت.
(12) مجموع فتاوى ابن تيمية، 35/108.
(13) جريدة الشرق الأوسط، العدد (8324)، 12/9/2001م.
(14) جريدة الرياض، عدد (1110500) في 19/11/1998م.
(15) البداية والنهاية، 13/5، لابن كثير ـ رحمه الله ـ.
(16) اقرأ وربك الأكرم، جودت سعيد، ص 26 ـ 29.
(17، 18) اقرأ وربك الأكرم، ص 29، 144.
(19) لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، 3/ 449.
(20) وفيات الأعيان، لابن خلكان، 2/125، طبعة (وستنفلد).
(21) اقرأ وربك الأكرم، جودت سعيد، ص 30 ـ 31.
(22) المرجع السابق، ص 31.
(23) لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، 4/409.
(24) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 11/526.
(25) من مقال لخالص جبلي في الشرق الأوسط.
(26) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، الدكتور مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، بيروت.
(27) التفسير والمفسرون، الشيخ محمد حسين الذهبي، ص 372، 373، الجزء الأول، دار الكتب الحديثة، 1381هـ.
(28) الفرق بين الفرق، للبغدادي، ص 43، ص 127، مطبعة المدني، القاهرة.
(29) الحديث أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(30) جريدة الرياض، العدد (10489) في 4/11/1417هـ.
(31) مقتطفات من مقال لخالص جلبي في الشرق الأوسط في 20/2/2002م.
(32) سلسلة الأحاديث الصحيحة: الشيخ ناصر الدين الألباني، حديث رقم (1728).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد