الحصاد المُـر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ظهرت بشائر الحصاد المر، وبدأت ثمار الترويض والتخويف بعد طول صبر غربي، وحسن تخطيط أمريكي، وبعد أن تمكن الخوارج وتحكم اللصوص وضاع الأمل في المثقفين والشيوخ.

نعيش الآن مرحلة القطف من غير قصف بقيادة العقيد معمر القذافي، والجني من غير ثنى بقيادة الرئيس مبارك، والتركيع من غير ترويع بقيادة ...، والانبطاح من غير إفصاح بقيادة أمراء ورؤساء وملوك....إلخ.

ذهبت سنوات الخيار والحصار، وحلت سنوات الاحتكار والاحتقار.

نمنا طويلاً، وفرطنا كثيراً، وتقاعسنا عن مواجهة الحكام، وعلاج العِلل حتى استفحل الداء، وانتشر الوباء، وسيطر المرض، وخار الجسد، وبات الغرب يجنى ثمار الشرق بتروي وتأني ودون خوف، ولا توجد خلافات بين أفراد العصابة الواحدة - أمريكا وأوربا - فالكل متفق بشأن الضحية، أما الخلافات فإنها شكلية، وتتم من أجل الوصول لأفضل مكاسب عند تقسيم الغنائم.

نمنا في الوقت الذي كان يجب أن نعمل فيه، وصحونا على صوت اللصوص وهم يقتسمون الأرض والثروة!!

كانت إسرائيل مشكلتنا الوحيدة.. كانت قليلة ونحن كثر.. صارت مشاكلنا على امتداد العالم كله فأصبحنا قِلة وهم كثر.. صرنا غنائم حرب غير معلنة، وسبايا معارك لا ندرى متى بدأت ولا متى وضعت أوزارها.

نحن كشعب لا نعرف ما الذي حدث على وجه التحديد.. لا نعرف أي شيء عن أي شيء، ولا نفعل شيء إلا الفرجة!!

كل ما نذكره أننا صحونا ذات يوم لنشاهد في ميدان الفردوس ما هو أقرب للخيال من الواقع، وأقرب للحلم من العلم.. شاهدنا الجميع يصفق لسقوط بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية.. شاهدنا وسائل الإعلام تنقل الخبر بفرحة.. شاهدنا وجوه الخونة واللصوص وقد غمرتها السعادة والنشوة...

نظر كل منا حوله وتحسس موضع قدمه وحجرة نومه.. وجدنا السقوط في كل مكان وفي كل شئ.. وجدنا السقوط في الشيوخ والعلماء، ووجدنا السقوط في البناء والأبناء، ووجدنا السقوط في الفكر والهدف، وشاهدنا السقوط في كل عواصمنا العربية.. في القاهرة والرياض.. في طرابلس والخرطوم.. في عدن وعُمان.. في تونس والأردن.. في قطر والمغرب... وجدنا السقوط من البحر إلى النهر، ومن الشرق إلى الغرب... صحونا لنجد أنفسنا على نفس الحركة التي نمنا عليها.. مقيدون على كراسي الفرجة.. نشاهد الأحداث ولا نصنعها.. نبكى.. ولكن نشرب اللبن وننام!!

نتألم.. ولكن نروح ونأتي ونلعب ونغنى.. نعيش حياتنا التي اعتدناها، ونرشى ضمائرنا بدموع ألفناها...

سأل كل منا الآخر: متى بدأت الحرب؟!!

بعضنا كذَّب الخبر وقال: أبداً الحرب لم تبدأ، وأقسم الآخر: أنها بدأت منذ فترة طويلة ولكن دون إعلان.. يقول الدكتور جمال حمدان: ( هناك من يؤكد أن الحرب العالمية الثالثة بدأت دون إعلان ودون أن نشعر، وقد مارستها أمريكا علينا بالتدرج، وبطريقة حرب عالمية بالقطاعي ).

إن أشد المعارك ضراوة هي تلك التي لا نعرف لها إعلان.. إنها معارك خفية تبدأ باحتلال المواقع الفاعلة في الدولة حتى لا يصبح للحاكم قيمة ولا وزن ولا حتى مساحة للمناورة وتصحيح الأخطاء.. معارك تبدأ بالتمكن من جسد الأمة عن طريق المثقفين والمشايخ والعلماء وحتى الأدباء والفنانين.. إنه التغلغل الخفي الذي يتمكن من كل ما يصيغ وعى الأمة ويحرك إدراكها، ولذلك لم يكن غريباً أن نجد في هذا الزمان شيخاً مثل شيخ الأزهر الحالي - الشيخ سيد طنطاوي - الذي رفض أن يُجير مسلمات فرنسا في أمر إلهي يستند إلى نص قرآني، لكنه خذلهن وهو يدعى إلى الإسلام ويقرأ قوله تعالى: (( وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون )) الآية 6 سورة التوبة... فما بالنا والمستجيرات مسلمات قانتات راكعات ساجدات يُراد لهن الفتنة ونزع الحجاب عن رؤوسهن!!

ولم يكن غريباً أيضاً أن نجد في مصر وزير شاذ مثل فاروق حسنى، وممثل داعر مثل عادل إمام الذي يُسخر كل مواهبه الفنية في النيل من الإسلام, وأذكر أن الأستاذ عادل حسين - رحمه الله - قد كتب له منذ أمد بعيد ناصحاً وموضحاً ثم دعا له قائلاً: أسأل الله أن يُعز بك الإسلام, وعلى الرغم من ذلك مازال الرجل في ضلال بعيد - في مجاورة أسامه أنور عكاشة الذي لا يخلو له مسلسل من غير طعن الإسلام -, ولا مجال لحصر الساقطين فالقائمة قد بلغت - مثلما أوضح لنا الدكتور محمد عباس في إحدى مقالاته القريبة - حوالي ثلاثة ملايين داخل مصر وحدها من عملاء أمريكا وأعداء الإسلام, ولن يكون آخرهم هذا المعتوه الكهل الذي يدعى محسن سعيد لطفي السيد - 78 عاماً - والذي تقدم منذ أيام إلى لجنة الأحزاب مطالباً موافقتها على تأسيس حزب علماني في البلاد باسم "مصر الأم" - مثلما نشرت جريدة المساء الأسبوعية في 14/2/2004 - مطالباً بنزع الصبغة الإسلامية والعربية عن مصر، ومطالباً بإلغاء نصوص الدستور المصري التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع الأساسي وأن مصر دولة إسلامية... المعتوه يطالب باعتبار الفتح الإسلامي لمصر احتلال يجب التخلص منه، ويطالب بترجمة القرآن الكريم إلى اللهجة العامية المصرية، وإخراج مصر من الدائرة العربية الإسلامية!!

استفسرت عن الخبر ووجدته صحيحاً.. اتصل بي أستاذ جامعي - صديق - وقال لى: ( إن هذا الحزب سيجمع تحت أهدافه أغلب طوائف الشعب المصري وسيصبح بين يوم وليلة من أكبر الأحزاب المصرية ).. تعجبت من قوله فهو رجل ملتزم وعلى خلق، وأعرفه جيداً... لم يمهلني طويلاً وأتى إلى وأكمل الحديث معي وقال: ( إن هذا الحزب يمثل حزب المستقبل بعيون الغرب.. إنه الحزب الذي أسسته أمريكا في مصر على يد السادات وقد آن الأوان للإعلان عنه.. ستوفر له أمريكا والدول الأوربية كل أسباب التميز والنجاح.. سيمدونه بكل الإمكانيات والموارد حتى يتمكن من استثمار حالة الإحباط والبطالة التي تعيشها البلاد.. سيخلق فرص عمل جديدة لكل أتباعه، وسينضم إليه فريق الانتهازيين وصفوة المجتمع، وكثير من الوزراء والكتاب والمثقفين، وستكون له الغلبة في أي انتخابات قادمة, وبمجرد أن يضرب جذوره في البلاد سيقوم بتشكيل حكومة توافق على تعديل الدستور، وإزالة الفقرات التي تعوق حركته, وسوف يحمى علمانيته بالقوة مثلما تحميها تركيا بالقضاء والقوات المسلحة... يا سيدي إنه ليس فكرة.. إنه مشروع متكامل حان وقت تنفيذه )..

صرخت: ومن سيسمح لهم بذلك؟!!

قال: ومن سيمنعهم؟!!

قلت: الشعب.

قال في سخرية: أرجو أن تبلغ سلامي للشعب.

انصرف الدكتور وتركني في حيرة.. فعلاً.. ما الذي يمنعهم؟!!

لقد كتب الدكتور محمد عباس في ذلك منذ ما يقرب العام, ونشرت الجرائد ذلك، وتناقلته وكالات الأنباء وأذاعته قناة "الجزيرة" فهل تحرك أحد؟!!... أين الشعب وقد بلغت الروح الحلقوم؟!!

الحرب لم تضع أوزارها بعد.. مازال أمامهم الكثير.

نمنا طويلاً طويلاً.. وفرطنا كثيراً كثيراً حتى أصبح في كل بيت مريض وعاطل.. نمنا حتى صار في كل شارع عميل، وفي كل حارة دليل، وفي كل مدينة وكيل، وطابور طويل من العملاء ممن يخونون عن يأس وليس عن عمد.. وممن يخونون عن قهر وليس عن قناعة... الناس في مصر يخونون الأمانة طبقـاً لمتطلبات الوظيفة.. وسأضرب على ذلك مثال لما يحدث في التربية والتعليم حيث يتم تدريس الجهل وليس العلم, وفي ذلك خيانة ولكن لا يستطيع المدرس منعها.. فهناك منهج دراسي ومقرر ومتابعة.. في التربية والتعليم أيضاً يقتلون الحياء عن عمد وبتعليمات واضحة, وفي ذلك خيانة ولكن من يستطيع منعها؟!!.. يستغلون براءة الأطفال، وفساد المناهج في بث بذور الشرك, وسأضرب على ذلك عدة أمثلة في مجال التعليم وحده:

* يتم تحويل كل معلم ينتمي للتيار الإسلامي إلى عمل إداري بعيداً عن التدريس، وينقل إلى خارج المحافظة، ويستدعى بين الحين والحين لمباحث أمن الدولة.

* محاربة الحجاب محاربة لا هوادة فيها, ومحاربة أصحاب اللحى والتبليغ عنهم, وآخر ما وصلني في ذلك نشرة وزعت على المديريات والإدارات التعليمية وجميع مدارس الجمهورية نصها كالآتي: (... رابعاً: على السادة مديرو المدارس إرسال خطاب سرى في مظروف مغلق ومختوم يُرسل مع مخصوص بداخله الاسم الرباعي لكل ملتحي أو منقبة واسم الزوج ووظيفته, وغير مسموح بالتأخير, وفي حالة عدم وجود حالات من هذا القبيل في المدرسة يُكتب " لا يوجد " واعتبار هذا الأمر هام وعاجل جداً، ولا يتم التأخير عن يوم الأحد 21/12/2003م ).

* نشرة من قطاع التعليم العام - الإدارة العامة للتربية السكانية - موزعة على كل المديريات التعليمية في 20/9/2003 مفادها: ( برجاء طرح المسابقة الآتية على طلاب جميع مراحل التعليم ( إبتدائي ـ إعدادي ـ ثانوي ) والخاصة بعمل "بوستر" يعبر عن رؤية التلاميذ حول قضايا الشباب بعنوان ( الصحة الإنجابية للمراهقين ) على أن ترسل الأعمال في موعد أقصاه 31 أكتوبر 2003 إلى العنوان التالي: مكتب صندوق الأمم المتحدة ـ برج شيراتون 93 ش الجيزة بالدقي الدور الثالث, وسيتم التحكيم في مقر الصندوق بالقاهرة ثم ترسل الأعمال الفائزة إلى مقر صندوق الأمم المتحدة للسكان في نيويورك للدخول في المسابقة الدولية.. وتفضلوا بقبول وافر الاحترام - المدير العام أ: زينب محمد قطب ).

* قصت لى تلميذة صغيرة في الصف الخامس الابتدائي قصة مدرسة الاقتصاد المنزلي معها وقالت: كانت تعلمنا إحدى طرق الطهي البسيطة, وكان الدرس طريقة عمل "المكرونة بالصلصة"، وطريقة عمل "الكفته"، وبعد الانتهاء من الدرس قامت المعلمة بتوزيع ما تم طهيه على التلميذات - تقول التلميذة عددنا كان كثيراً والأكل كان قليلاً.. كل مجموعة مكونة من ست تلميذات كانوا يلتفون حول طبق واحد من المكرونة، وقطعة واحدة من صباع الكفته, ولأن المدرسة في حي فقير فقد تعاركنا على الفوز بأكبر قدر من الوليمة, وأثناء تهافتنا على الأكل قالت لنا المعلمة: ما رأيكم يا بنات لو وزع كل طبق على ثلاثة.. قلنا جميعاً: باليت يا أبله.. قالت: وماذا لو وزع على اثنين.. قلنا بفرحة أكبر: ياليت يا أبله.. قالت: وماذا لو كان لواحدة... سعدنا كثيراً وقلنا: يا سلام يا أبله يكون شئ جميل.. قالت: لابد أن تخبر كل واحدة منكن أمها بأن الأسرة الصغيرة تكون أسرة سعيدة، وأن الزيادة السكانية هي أساس كل بلاء، ولو كنت وحدك في الأسرة لأكلت أفضل مما تأكلين مع إخوتك!!.... توجهت إلى المعلمة وسألتها عن صحة هذه الواقعة - قالت لى باللهجة العامية: يتنيلوا بنيله.. دي لحمة مستوردة، وسمن صناعي.. قلت: هذا لا يهمني.. أنا أسأل عن حكاية أسرة صغيرة وأسرة سعيدة؟!! قالت: لكل درس هدف، وهذا هو الهدف من الدرس.!!

هذه بعض النماذج السيئة التي تزخر بها مدارسنا.. يقوم بها أناس أجبرتهم وظائفهم على اقترافها.. يظهر ذلك بوضوح في محاربة الفضيلة وكل مظهر إسلامي يتمثل في الحجاب واللحى، وفي تشريد الأتقياء والملتزمون ممن تصح على أياديهم التربية ويثمر التعليم، فيُبعد هذا عن التعليم، ويحول إلى عمل إداري, وينقل هذا إلى محافظة أخرى دون ذنب أو جريرة.. وما بين مسابقات بعنوان "الصحة الإنجابية للمراهقين" لتلميذات الابتدائي والاعدادي والثانوي.. وبين استغلال الطعام في المدارس لتحديد نسل الأسرة.. كل هذا يحدث في قطاع واحد من قطاعات الدولة, فما بالنا بباقي مؤسسات الدولة!!

يقول "شكسبير" في مسرحية يوليوس قيصر: يا لها من سقطة أيها المواطنون شملتنا جميعاً أنا وأنتم بينما كانت الخيانة تترعرع فوق رؤوسنا.

ويصرخ "نهرو" قائلاً: أيها السادة أنتم تثيرون فزعي إلى درجة الموت.. إنكم لا ترون ما هو أبعد من موقع أقدامكم، تشغلون أنفسكم باللحظة التي مضت وليس باللحظة القادمة.. إن مستعمريكم السابقين رتبوا أنفسهم قبل أن يوافقوا على استقلالكم، وأقاموا أوضاعاً جديدة تستبدل أعلامهم القديمة بأعلامكم الجديدة.

وهذا ما يحدث بالفعل ويحدث في مجال التعليم على وجه الخصوص.. ما فشل فيه "زويمر" نجح فيه فتحى سرور وحسين كامل بهاء الدين.

في كتاب "الغارة على العالم الإسلامي" يقول الأستاذ محب الدين الخطيب: ( في مؤتمر المبشرين الذي عقد بالقاهرة عام 1906 وقف الخطباء يقولون: ( لقد فشلنا.. فتحنا المدارس والمستشفيات والملاجئ، وأعطينا الأموال، وقدمنا الخدمات, ثم لا يدخل النصرانية بعد ذلك غير طفل صغير خطفناه من أهله قبل أن يعرف عقيدته، أو رجل كبير جاء إلينا من أجل المال ولا نضمن عقيدته.. فوقف الأب "زويمر" وهو بالمناسبة مبشر بروستانتى كان له نشاط تبشيرى كبير في العالم الإسلامي, وقد أوصى قبل موته بأن يُدفن في مقابر اليهود.. قال "زويمر" وكان مقرر المؤتمر: لقد استمعت إلى إخواني الخطباء ولست موافقـاً على ما يقولون, فليست مهمتنا تنصير المسلمين, فهذا شرف ليسوا جديرين به, ولكن مهمتنا هي صرفهم عن التمسك بالإسلام وفي ذلك نجحنا نجاحاً باهراً بفضل مدارسنا التبشيرية والسياسة التعليمية التي وضعناها في البلاد الإسلامية )... كان ذلك عام 1906 وقال: لقد نجحنا نجاحاً كبيراً فأي تسمية تصلح لهذا العهد الذي نعيشه وكل شئ أصبح فيه مشوهاً وملوثاً وكما يريد الغرب وأكثر..

أمامي الآن ثلاثة أوراق إجابة لاختبار شهري أجرته إحدى المدارس في مادة الدراسات الاجتماعية الصف الرابع الإبتدائي ، السؤال يقول ضع خطـاً تحت الإجابة الصحيحة من بين الأقواس:

أ ـ مصر جزء من العالم ( العربى ـ الأوربى ـ الأمريكى )... تلميذة تدعى رانيا وضعت خطـاً تحت ( الأمريكي )، وأسماء وضعت خطـاً تحت ( الأوروبي )، بينما وضع أحمد خطـاً تحت ( العربي )، وخطـاً تحت ( الأمريكي )!!

هذا هو التشوه الحقيقي ونزع الانتماء، والدخول في مراحل سريعة من فقد الثقة وضياع الانتماء.. ولا أحد يتحرك!!

منذ فترة بسيطة أذاعت إحدى القنوات الفضائية المصرية برنامجاً أوضح فيه انتشار الأمية بين تلاميذ المرحلة الإعدادية, حيث وجد بينهم أميون لا يقرؤون ولا يكتبون, وتم مواجهة الوزير بذلك لكنه تهرب كعادته من الإجابة، وناور بعيداً بأسلوب رخيص وكلمات جوفاء، ولم يقل لنا: إن ذلك كان حصاد إلغاء الصف السادس أيام فتحي سرور، وإدخال تدريس اللغة الإنجليزية في الصف الرابع والخامس في عهده, وفي هذا العام زاد الطين بله بقراره تدريس اللغة الإنجليزية في الصف الأول الابتدائي.. نحن لا نعارض تدريس اللغة الإنجليزية، وإنما نعارض تدريسها في تلك المرحلة السِنية، ومزاحمة اللغة الأم بلغة أجنبية في سنوات التعليم الأولى, وليس هذا اجتهاد منا وإنما يحدث في كل الدول المتقدمة والتي تحافظ على هويتها ولغتها.. في فرنسا قانون يحظر تعليم أي لغة غير الفرنسية في جميع مدارس الدولة قبل سن الحادية عشر حتى يتمكن التلميذ من هضم واستيعاب اللغة الأم.

إننا نعيش الكارثة بكل أبعادها وتفاصيلها وتوابعها.. ولا أحد يتحرك!!

عندما جاء "كرومر" إلى مصر كأول معتمد بريطاني فيها قال: ( إن مهمة الرجل الأبيض الذي وضعته العناية الإلهية في هذه البلاد - مصر - هو تثبيت دعائم الحضارة المسيحية إلى أقصى حد ممكن )، واختار للتعليم الذي هو وسيلة كل شئ شاب يدعى "دنلوب".. كان دنلوب هذا قسيساً على درجة عالية من الذكاء، وولاه كرومر منصب "مستشار وزارة المعارف المصرية"، وجعل في يده كل السلطات الفعلية لوزارة المعارف.. وضع دنلوب عينه على الأستاذ والتلميذ... يقول الأستاذ محمد قطب في كتاب واقعنا المعاصر: ( كانت عيون المراقبة التي وضعها "دنلوب" تنتقل من المدرس العادي إلى المدرس الممتاز لترى أثره في تطبيق أهداف التغريب فيكافأ على ذلك بإرساله إلى إنجلترا ليزداد صقله، وليُصاغ من جديد صياغة أدق وأشمل، ليستفاد منه على نطاق أخطر فإذا ما عادوا يوضعون في مراكز التوجيه ليكون أثرهم في الإفساد أشمل وأوسع، حتى إذا صار أحدهم في نهاية المطاف وزيراً للمعارف حطم من مقدسات قومه ما لم يكن يجرؤ "دنلوب" على فعله ) وهذا ما يحدث بالفعل, ونفس الأمر يكرره حسين كامل بهاء الدين وبصورة تكاد تتطابق.. إنه يتفاخر بإرسال آلاف المعلمين للتدريب في بريطانيا وأمريكا, ولا يستطيع أن ينكر أن ذلك محظور على كل من ينتمي لجماعة إسلامية أو معروف عنه التمسك بالفضائل!!

إنه جهد قديم لكنه متواصل ومستمر, وفي الثلث الأخير من القرن التاسع عشر قال القس "زويمر": ( لقد قبضنا أيها الإخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية المستقلة أو التي تخضع لنفوذ مسيحي.. لقد أعددنا بوسائلنا جميع العقول إلى قبول السير في الطريق الذي مهدنا له كل التمهيد - أعددنا نشئـاً لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها، وأخرجنا المسلم من الإسلام ولم ندخله المسيحية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي لا يهتم بعظائم الأمور وحب الراحة والكسل, وإذا تعلم تعلم الشهوات, وإذا جمع فللشهوات, وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شئ ).

هذا ما فعله الغرب فينا، وهذا هديه الذي نسير عليه.. يقول ابن حزم في كتابه مداواة النفوس: ( مُـقرب أعدائه قاتل نفسه )، ويقول الدكتور محمد محمد حسين في كتاب "الإسلام والحضارة الغربية": ( لقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم بالطابع الغربي في العالم الإسلامي ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين وقليل من الزعماء الدينيين )، ويقول الدكتور مصطفي محمود: للأسف حطموا القديم ولم يبنوا بديلاً... هل بنى أحد التعليم المصري بعد هدمه؟!! أبداً.. لقد أصبح التعليم في أي مدرسة مصرية أغلى من "هارفارد" بسبب الدروس الخصوصية التي جعلت التعليم هنا أغلى من جامعة "أوكسفورد" ).

أخذنا التعليم كثيراً في هذا المقال, لكنه كان أوضح مثال على ما آلت إليه أحوال البلاد, حيث انعكس أثره على سلبية المواطن، وعدم محاولته التغيير، حيث فسدت التربية، وانتشرت علل مدمرة لم تكن موجودة في الأساس مثل انتشار التدخين بين الطلبة والطالبات، وتناول المخدرات، والزواج العرفي.

يكتب الأستاذ عطية النعماني في "آفاق عربية": ( وصلتني هذا الأسبوع رسالة حزينة من طلاب الحركة الإسلامية بجامعة الزقازيق يقولون فيها: تم ضبط ثلاث حالات مخلة بالآداب في دورات المياه داخل كلية الزراعة, وكان رد فعل الإدارة عمل محضر، وتزويج هذه الحالات داخل قسم الشرطة, وفي كلية التجارة قامت إحدى الأسر الطلابية بتغطية حوائط الكلية بإعلانات عن حفل ماجن بأحد النوادي بالشرقية، وكانت مفاجأة الحفل الذي حضره جمع كبير من طلاب الكلية هو تنظيم مسابقة لاختيار ملكة جمال الحفل، وأخرى لاختيار أجمل عيون، وثالثة لاختيار أجمل رقصة شرقي وغربي من بين طالبات الكلية, ورغم حالة الاستياء التي شهدتها الكلية احتجاجاً على هذا الحفل الماجن الذي لا يخرج عن القيم الإسلامية فحسب بل يخرج عن الأعراف في محافظة تشتهر بحفاظها على التقاليد والعادات, وفي الوقت الذي تتجاهل فيه إدارة الجامعة التصدي إلى الانحلال الأخلاقي نجد أحد أعضاء هيئة التدريس بكلية التربية النوعية بنفس الجامعة ينزعج من كتابة حديث شريف على السبورة ويطلب من أحد العمال محوه بقوله: "امسح الزفت ده" ).

ويكتب الأستاذ سعيد إسماعيل في "الأخبار": ( زمان كانت العوالم والغوازي يرقصن في الأفراح والليالي الملاح وبطونهن عارية، ثم أجبرتهن شرطة الآداب على ستر أجسادهن فامتثلن.. الآن.. اللهم احفظنا واحفظ ذوينا من كل الذي يحدث الآن.. أفلتت الأمور وخرجت البطون العارية من شرائط الفيديو كليب إلى الشوارع.. الفتيات المصريات في عمر الزهور تتسكعن في شوارع المهندسين ومصر الجديدة ومدينة نصر حيث توجد الكافتريات، ومطاعم البيتزا والهامبورجر.. الشعر مبعثر، والسجاير بين الأصابع، والمحمول على الأذن، والضحكات تجلجل، والبنطلونات محزقة، والبطون عارية ).

وتنشر الأهرام في 3 مارس 2000 تحت عنوان المؤبد للمدرس المتهم بهتك عرض 5 تلميذات: ( أسدلت محكمة جنايات القاهرة أمس الستار على قضية مدرس الرياضات المتهم بهتك عرض تلميذاته في الدروس الخصوصية، حيث قضت بمعاقبته بالأشغال الشاقة المؤبدة، ودقت المحكمة في حيثيات الحكم ناقوس الخطر لما انحدرت إليه الأخلاق، وطالبت الجميع بوقفة صريحة، وشجاعة مع النفس قبل أن ننحدر إلى الأسوأ وتكون الكارثة، قبل النطق بالحكم تحدث رئيس المحكمة إلى المتهم قائلاً: ( يا عصام حاولنا مساعدتك إلا انك اعترفت في تحقيقات النيابة بجريمتك )، وقالت المحكمة إنها بعد أن قضت بحكمها فإنه ثبت لها في النهاية كلمة وهى: أنه إذا كانت المحكمة قد عاشت ذلك الزمان الغابر الذي كان الجميع فيه يربطهم حب وإخاء تحت مظلة من القيم الروحية التي نادت بها شرائع السماءº فإنها تأسف لأنها أدركت هذا الزمان الذي رأت فيه الزوجة تقتل زوجها أمام الصغار، والذئاب البشرية يهتكون الأعراض في وضح النهار، فضلاً عن الحقد والحسد والأنانية وحب الذات والجري وراء الشهوات، وسرقة المال العام والخاص، وعدم اعتراف البعض بالخطوط الفاصلة بين الحلال والحرام, ولذا فإن المحكمة تطالب الجميع بوقفة صريحة وشجاعة مع النفس قبل أن تنحدر الأخلاق إلى الأسوأ فتكون الكارثة ).

ألم أقل في البداية إنه موسم الحصاد المر، هذا ما زرعه دنلوب وزويمر, وهذا ما سار عليه فتحي سرور وحسين كامل بهاء الدين, وليت الأمر قد اقتصر على التعليم - فبعد التعليم الفاسد تتسلمك وزارة فاسدة تسمى وزارة الثقافة حيث تبيح الشذوذ، وتصدر المطبوعات التي تسب الله ورسوله على نفقة الدولة, وكذلك الأمر بالنسبة لوزارة الأوقاف التي أرسلت أخيراً المئات من الأئمة والدعاة لأخذ دورة تدريبية في أمريكا عن الخطابة في المساجد, والأمر يبدو أكثر وضوحاً إذا لاحظنا الانحطاط الأخلاقي في الإعلام المصري.. إنها الكارثة التي ليس لها من دون الله كاشفة.

والمضحك أنه منذ أيام قلائل احتفلت مصر - مثل غيرها - بعيد يسمى "عيد الحب"... قلت في نفسى: ما أحوجنا لعيد يسمى "عيد الكـُره" نتعلم فيه كيف نكره وننتقم ممن أفسدوا علينا كل شيء.. عيد نتعلم فيه كره الغاصب والمحتل والعميل والدخيل والمثقف الخسيس.. تعجبت أي حب يقصدون.. هل المقصود بهذا الحب حب من سرقونا وخذلونا ونقلونا من خير أمة أخرجت للناس لأضعف أمة يلعب بها الأنجاس؟!!

هل المقصود هو حب إسرائيل وحب أمريكا؟!!

قد يناسبهم في الغرب عيد مثل عيد الحب يتقاسموا فيه الغنائم، ويقارعوا فيه الكؤوس التي تشرب على شرف أمتنا، وروح عروبتنا، وضياع كرامتنا, ولكن كيف نقلدهم ونحن مازلنا نمد لهم اليد لتلقى المعونات، ومناولة الحذاء الذي يضربوننا به؟!!

كيف نقلدهم ودماء الفلسطينيين دين في أعناقنا، فلا هم يستحقون منا القطيعة، ولا اليهود يستحقون منا الشفقه!!

كيف نقلدهم والعراق يُشوى لحمه، ويُكسر عظمه، واحتلاله وضع مرارة في الفم لا تفارقنا أبداً؟!!

لقد بات العراق لكل مسلم كالدَّين ـ همُّ بالليل، وذل بالنهار.

يا قوم..

كيف يعرف الحب من يريد الانتقام؟!!

وكيف يعرف الحب مَن مِن الكره لا ينام؟!!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply