مقطع مثير جداً للقراءة: (إلقاء القبض على خمسة أعضاء بالكونجرس الأمريكي - يوم الجمعة الماضية - حاولوا اقتحام السفارة السودانية بواشنطن، خلال تظاهرة في إطار التحضير للمسيرات التي ينظمها ما يسمى بـ "تحالف أنقذوا دارفور" في أنحاء الولايات المتحدة يوم الأحد!!).
مقطع أكثر إثارة: (160جماعة دينية وإنسانية أمريكية تنظم مظاهرات، يشارك فيها نجوم من هوليود، وموسيقيون، وزعماء دينيون، وساسة من مختلف الاتجاهات من أجل وقف الإبادة الوحشية في دارفور!!).
مقطع طبيعي جداً: (برنامج الغذاء العالمي يعلن أنه سيخفض كميات الغذاء المرصودة لإغاثة سكان دارفور إلى النصف، بسبب عدم التزام المانحين بتقديم العون للبرنامج)!!.
إن تناقض العقل الغربي المترف المشحون بابتذال التكوين السينمائي يتضح بجلاء كل يوم، والمتاجرة بقضايا العالم الثالث هي واحدة من أبرز ملامح هذا العقل!!.
وفي الحالة السابقة نحن أمام تكوينين متناقضين عصيين على الفهم البسيط، غير مستنكرين للقراءة وفقاً لنظرية التآمر، فتلك الجموع التي تم تهييجها إلى أبعد مدى بواسطة المنظمات - ذات الأغراض المرسومة مسبقاً -، وبواسطة النسيج السينمائي، واللوحات الجدارية، ومقالات المأساة التي تزخر بها الصحافة الغربية في شأن دارفور لا يتيح لها تكوينها العقلي أن تتساءل:
(كم تبلغ درجة التناقض في مواقف المجتمع الدولي الذي يذرف الدموع على ضحايا الإبادة الجماعية في دارفور، وفي الوقت نفسه لا يرى البشاعة في فقدان أكثر من مليونين من البائسين لنصف غذائهم!! حتى ولو كان هؤلاء البائسين هم نفس أولئك الذين ذرفوا عليهم الدموع، وتشنجوا للدفاع عنهم على أبواب سفارتنا بالخارج)!!.
لقد ظلت الصحافة الغربية (في أوروبا وأمريكا) تكتب بلا انقطاع عن جرائم تطهير عرقي في دارفور رسمتها المخيلة السينمائية لنفر من المتاجرين بالأزمات، في حين عجزت عن إثباتها تقارير لجان الأمم المتحدة وبعثاتها، ومع ذلك ظلت هذه الصحافة تحشد لذلك كل روايات المغامرين المغمورين الذين وفدوا إلى دارفور، وقابلوا شعباً لا يعرفون لغته، ولا يقفون على دلالات المصطلح عنده!.
لقد أصبح إقليم دارفور منطقة خصوبة إعلامية عالية لكل من يريد أن يصنع الإثارة، سواء كان ذلك بالأفلام الملفقة - وقد ضبطت الدولة حالات من هذا القبيل -، أو بالروايات المأساوية على صفحات الجرائد، ولا يتطلب الأمر أكثر من طواف على المعسكرات، وتصوير الأكواخ المهترئة التي يسكنها النازحون، وبعض الصور للقرى المحروقة، وفي ظروف الحرب من الطبيعي أن تجد أرضاً محروقة دون أن تحقق في أيٍ, من الأطراف قام بإحراقها، ثم بعض القصص المنسوجة على ألسنة أشخاص الله أعلم بوجودهم على الحقيقة.
المنظمات هي الأخرى تدافعت إلى دارفور، وأقامت سوقها الذي لا تريد له أن ينفض، وفي خلال عام واحد - على حد تصريح المهندس إبراهيم محمود وزير الشئون الإنسانية السابق - تدفقت إلى دارفور أكثر من 70 منظمة دولية، و900 سيارة، و1700جهاز استقبال، و10000 من العمالة الأجنبية!، واستمر تدفق المنظمات طيلة الأعوام التالية، ولك أن تتصور كمية الأموال المتدفقة مع هذه المنظمات، التي لو ذهبت إلى أغراضها الحقيقية من إغاثة وخدمات لكفت النازحين.
ولكن الواقع يقول: إن أقل من الثلث فقط من المال يذهب إلى المتضررين، بينما يتسرب الباقي في المصروفات الإدارية والسيارات، والرواتب والمساكن، وأشياء أخرى، فهي لم تصنع شيئاً يذكر لحل مشكلة المياه في مناطق اللاجئين الدارفوريين في تشاد، تلك المشكلة التي تتجدد كل عام!!، ولم تفعل شيئاً يذكر في حل مشكلة التعليم لأبناء النازحين والمتضررين، وبل ظلت على الدوام تشكل عائقاً للحيلولة دون رجوع النازحين إلى قراهم التي استتب فيها الأمن، وقامت الحكومة والمنظمات الوطنية والإسلامية بتعميرها!.
وبين عشية وضحاها تشكلت في أوروبا وأمريكا تجمعات لمنظمات يهودية ونصرانية، ونفعية ومراكز بحثية، ونصبت نفسها مدافعة عن حقوق شعب دارفور الذي تعرض لإبادة وتطهير عرقي من العرب المسلمين المدعومين من قبل النظام الحاكم، وهم لا يعرفون عن أهل دارفور أكثر من مصالحهم المرتبطة هناك، ثم مضى التهييج ليستقطب آلافاً من السطحيين المفتونين ببراعة الإخراج السينمائي، يهتفون ويتشنجون على الطرقات وأبواب السفارات، ويحرضون حكوماتهم على فرض العقوبات، واعتقال المجرمين، والدفع بالقوات إلى أرض دارفور، وهم لا يعلمون أنهم جزء من الدعاية التي تسوقها دولهم لتحقيق مصالحها في اقتسام بلد ليس لهم.
كان على هؤلاء الملتفين حول راية التهييج الأعمى أن يتساءلوا: كيف تجتمع دولهم لاستصدار عقوبات على قوائم من تسميهم بمجرمي حرب دارفور بينما لا تكلف نفسها عناء الوفاء بالتزاماتها لصندوق الغذاء العالمي، الذي يفترض أنه صمم من أجل إطعام هؤلاء الجوعى؟!
وبالنسبة لنا فإن القراءة أكثر وضوحاً، فالصراع يدور على الأرض وما تحتها من ثروات ومعادن، ولا علاقة له البتة بمن على ظهرها من بشر أسوياء، لقد تمت المتاجرة بأهلنا على أوسع نطاق، وتدفقت على التجار من خلف صورهم ملايين لم يكن حظهم منها إلا الفتات.
نسيت أن أقول أهلنا هؤلاء قد دخلوا تاريخ العالم الالكتروني كما دخلوا تاريخ المأساة، فأولئك الناعقين باسمهم في الغرب قد أنتجوهم في شكل لعبة فيديو الكترونية يتوقع أن يكون لها رواج واسع، وتدر ملايين الدولارات، لتنتفخ كروش بائعي المأساة، وتجار الحرب الحقيقيين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد