من لم يشاهد مظاهر احتفالية تصاحب حالات الوفاةº عليه أن يتمعّن جيداً في " حفل" التوقيع على الاتفاق بين الحكومة السودانية والتجمع الوطني الديمقراطي المعارض الذي جرى بالقاهرة يوم السبت الماضي 18/6/2005م.
والتجمع الوطني الديمقراطي العلماني المعارض كيان يحمل بذور فنائه داخله منذ ميلاده قبل حوالي ستة عشر عاما. والذين تابعوا تكوين هذا الكيان ومسيرته الماضية يدركون ذلك جيدا، ولولا أن بعض الجهات الإقليمية والعالمية حاولت نفخ الروح فيه عبر السنوات الماضيةº لانهار لوحده وأفلس وتبدد، لكن مثل هذه القوى المعارضة لحكوماتها في المنطقة، اتضح جليا أنها تمثل مصالح القوى الكبرى التي تدعمها أكثر مما ترعى مصالح شعوبها كما تدّعي.
من ناحية التكوين ضم التجمع الوطني كل الكيانات التي كانت في السلطة عشية انقلاب يونيو 1989م في السودان، وتضم أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي وبعض القوى السياسية الجنوبية والنقابات، وشارك في التجمع أيضا قوى يسارية لم تكن في السلطة حينها كالحزب الشيوعي وحزب البعث، وعسكريون يدعون أنهم يمثلون القيادة الشرعية للقوات المسلحة السودانية، ثم أضيف إليه لاحقا الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق في أكبر خطأ دفع ثمنه التجمع نفسه لأن قرنق لأن قرنق لم يشرك التجمع في مفاوضاته مع الحكومة، ثم التحق بالتجمع أيضا الكيانات الجهوية مثل مؤتمر البجا في الشرق، وأخيرا حركات التمرد في دارفور. والذي ينظر في هذا الخليط المتنافر في أهدافه واتجاهاته وارتباطاتهº يتضح له جليا أن هذه الخلطة لن تصمد للنهاية، وقد كانº فقد فاوض الأمين العام للتجمع الحكومة منفردافي عام 1999م وانسلخ هو وحزبه ـ حزب الأمة ـ من التجمع بعد اتفاق " نداء الوطن " في جيبوتي، ومهندس الاتفاق مبارك الفاضل انسلخ من حزبه أيضا لاحقا والتحق بالحكومة ثم أُخرج منها بعدها!! وأيضا جون قرنق المسئول العسكري في التجمع الوطني فاوض الحكومة منفردا وتقاسم معها السلطة والثروة في اتفاقية نيفاشا في يناير 2005م.
وهكذا بعد أن فقد التجمع أكبر قوة عسكرية بانسحاب حزب الأمة، ثم انفلتت منه أكبر قوة عسكرية بقيادة جون قرنق، لم يعد هناك مبرر لوجوده، فجاء اتفاق القاهرة يوم السبت الماضي ليوفر غطاءً سياسيا لعودة قادة التجمع الوطني إلى الخرطوم بعد انتفاء مبررات وجودهم في الخارج.
أما علاقات التجمع الوطني الخارجية، فقد كانت أبرزها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا كان حزب الأمة والحزب الاتحادي لايريان بأسا في إقامة تعاون مع الولايات المتحدة، فقد استغرب المراقبون أن يصمت أساطين اليسار السوداني ودهاقنته من أعضاء التجمع الوطني وهم يرون مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة وهي لا تستحي من إعلان دعم التجمع الوطني بملايين الدولارات، ثم تستدعيهم في كل مرة إلى واشنطن لتلقي عليهم نصائح في النضال لإسقاط نظام الخرطوم!! ولكن الجميع: طائفيّهم ويساريّهم لم يستطيعوا الإجابة على السؤال الذي نهض يطاردهم في كل مكان: هل كانوا حقا يرعون مصالح الشعب السوداني وهم يستلمون ملايين الدولارات من مادلين أولبرايت أم المصالح الأمريكية؟؟ ومن هنا كانت الوفاة الحقيقية للتجمع لكن الإعلان كان في القاهرة الأسبوع الماضي.
ووصول قادة التجمع للخرطوم في الفترة القادمة سيريهم جيدا أنهم ينزلون إلى أرض ذات رمال متحركة توشك أن تبتلعهم، فالمؤتمر الوطني والحركة الشعبية أصبحا شريكين في حكومة تمتد لثلاث سنوات على الأقل، والأمة والشعبي وآخرون شكلوا تحالفا للمعارضة في خطوة لمحاولة اللحاق بسلطة ما بعد الانتخابات القادمة، والنسبة التي أعطيت للتجمع في الحكومة القادمة استرضاء زهيد إن قبله حرق نفسه وإن رفضه أضاع نفسه!! لذلك ستشرع بقايا أحزاب التجمع في ترتيب أوراقها كل على حدة، خاصة أن السنوات فعلت في كل حزب ما فعلت، ولأن فترة ما قبل الانتخابات ضئيلة، ومسرح ما بعد الانتخابات ليس فيه مكان للتجمعº فهذا سبب آخر لتلاشي التجمع.
بقيت جبهتا الشرق والغرب اللتان مازالتا تحملان السلاح ضد حكومة الخرطوم مع احتفاظهما بعضويتهما في التجمع الآيل للسقوط، وهاتان الجبهتان يتشبث بهما النظام الإرتري بعد أن فقد دوره كراعٍ, للتجمع الوطني، والرئيس الإرتري يلعب في منطقة شرق ووسط إفريقيا نفس الدور الذي يلعبه شارون في منطقة الشرق الأوسط تمثيلا للمصالح الغربية واستمطارا للدعم والمعونات مقابل إثارة المتاعب في المنطقة. وجبهتا الشرق والغرب تظلان أدوات جديدة برعاية عالمية وإقليمية لاستنزاف شمال السودان بعد أن توقفت الحرب في الجنوب.
من كان يظن خيرا في التجمع الوطني، فإن التجمع الوطني قد مات، ومن لم يكن كذلك فحق له أن يُسر " للاحتفال" الذي أقيم يوم السبت الماضي بالقاهرة...لكن أن يحتفل التجمع نفسه بذلك ففيه دليل على قصور النظر السياسي الذي لا يؤهل لدخول المرحلة القادمة، وكأن شوقي عناهم بقوله:
عادت أغاني العرس رجع نواح *** ونعيت بين معالم الأفراح
مع أن المناسبة التي قال فيها شوقي هذه الأبيات واحتفال القاهرة بينهما بعد المشرقين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد