التطبيع مع إسرائيل مُنتجاً


بسم الله الرحمن الرحيم

ليس ثمة خلاف على أن ثقافة العولمة تعتمد أساساً على "فكرة النسبية" بمعنى نسبية الأخلاق، القيم، العقيدة، ونسبية الثوابت الوطنية كذلك، فنحن إذ نناقش مخاطر التطبيع ونجرمه ونحرمه، ونبحث سبل مقاومتهº فإنه في المقابل يوجد من يحله، ويعتبره الحضانة لتأمين مشاريع التسوية في الشرق الوسط، أي باتت المسألة بشأنه "مسألة نسبية" وليس ثمة إجماع على اعتباره "حراماً وطنياً".

قس على ذلك الأخلاق والقيم، ولنأخذ مثلاً مسألة الشواذ، نحن المسلمين نجرم ونحرم، ولكن هناك في العالم من يحل، ويسن التشريعات في أوروبا التي تجيز زواج الشواذ، وتبني الأطفال، وحفظ حقوقهم في الميراث، وذهبت إلى ذلك كنائس غربية.

والمقصود من الاحتكام إلى معيار "النسبية" في تقدير أمور تتعلق بمنظومة القيم التي يعتنقها الإنسان هو هز ثقته في ما استقر في وجدانه الخاص، ومن ثم في الضمير الجمعي بأنه "ثوابت" دينية، أو عقدية، أو وطنية، وما شابه، أي ليس هنالك ثمة ثوابت، ويظل الإنسان محايداً إزاء منظومة القيم الثابتة في ثقافته، أي يتحول إلى فسيفساء واسعة فضفاضة وفارغة، وبمعنى آخر إلغاء "الإنسان الايدولوجيا" ليحل محله "الإنسان الهلامي".

ومع انتشار هذا المفهوم تراجعت الصرامة في قداسة "الحدود السياسية" و"السيادة الوطنية" للدول، لصالح مفهوم "العالم - القرية"، والتسليم بالعولمة ( أمركة العالم) ليس باعتبارها حالة طارئة فرضها منطق القوة والتفوق التقني، وإنما باعتبارها وعلى نحو ما ذهب إليه "فوكوياما" المحطة الأخيرة والنهائية في مسيرة التطور الإنساني.

ورجل الأعمال بطبيعته ينتمي إلى "شريحة اجتماعية" محايدة عادة ما يكون ولائها لـ"السوق"، أو على أقل تقدير تخضع عملية ترتيب الأولويات عنده لمعايير المكسب أو الخسارة، أي أنه أكثر القوى الاجتماعية قابلية لقبول قيم "العولمة" لأنها ستبرر له "حيدته القيمية".

والمشكلة الآن أن رجل الأعمال لم يعد طموحه محكوماً بأطر تجارية محضة، إذ لو كان هذا الطموح عند هذه الحدود فحسب لهان أمره، غير أن المشكلة في أن طبقة رجال الأعمال الآن تتهيأ لتحل محل النخبة السياسية، في إدارة الدولة ورسم سياساتها العامة، وهي ظاهرة كوكبية كونية أصابت مناطق عدة في العالم - بما فيها العالم العربي -، ففي مصر مثلاً شكل الحزب الوطني الحاكم أمانة السياسات، وهي هيئة استحدثها الحزب، في إطار تهيئة نجل الرئيس مبارك "جمال" ليتصدر الصفوف في العمل السياسي العام، وهو رجل اقتصاد عمل في أحد البنوك البريطانية، ويتردد أنه يحمل الجنسية البريطانية، وعضو في الوقت ذاته بحزب العمال البريطاني.

أمانة السياسات تحولت بمضي الوقت إلى أقوى هيئات الحزب، والمهيمنة على اتجاهات الرأي العام فيه، وتحولت أيضاً إلى ناد لرجال الأعمال من الذين يحتكرون تقريباً السوق المصري، ويرسمون من خلاله السياسات العامة للدولة، وشكلت ما يقرب من 70 % من الحقائب الوزارية في الحكومة الحالية برئاسة د. أحمد نظيف، فضلاً عن أنها - أي أمانة السياسات بأعضائها من رجال الأعمال المصريين - ترتبط مصلحياً بالمشروع الأمريكي في المنطقة العربية، والذي ينطلق أساساً من إستراتيجية أمريكية ثابتة، ولها الأولوية القصوى لصانع القرار الأمريكي، وهي لي عنق الأنظمة العربية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، لحملها على قبول الكيان الصهيوني كـ"دولة" طبيعية في المنطقة.

ومثال آخر من فلسطين: حيث تتشكل الحكومات الفلسطينية المتعاقبة من "طبقة رجال الأعمال"، فجميل العطيفي كان وزيراً في حكومة أحمد قريع، ونجله "يوسف" أصحاب شركة العطيفي، ويتزعمان أكبر شبكة لتهريب الأسمنت والأسلحة والسكر.

محمد دحلان يعتبر رجل أعمال، إذ تقدر بعض المصادر ثروته بـ 53 مليون دولار، ويمتلك فندق الواحة بغزة والذي يعتبر الفندق رقم واحد بين فنادق الـ 5 نجوم في الشرق الأوسط.

محمد رشيد المستشار المالي للوزير الفلسطيني الراحل عرفات، له اسم آخر "خالد إسلام"، يحتكر الوقود بالسلطة الفلسطينية، وكذلك نبيل شعث، وأحمد قريع (أبو العلاء): يمتلك الأول "الشركة المصرية لاستيراد الحواسب"، فيما يملك الثاني شركة "رنتل كار" لسيارات الأجرة.

وكما أشير سلفاً فإن الظاهرة عامة، ولا تختصر في العالم العربي وحسب، ففي الولايات المتحدة الأمريكية فإن بوش ومن قبله أبوه وجده، وديك تشيني، ورامسفيلد، وكونداليزا رايس جميعهم يرتبطون بشكل أو بآخر بإمبراطورية النفط في بلادهم والمكونة من شركات ضخمة لها استثمارات بمليارات الدولارات في العالم، وفي إيطاليا يرأس الحكومة الحالية الملياردير ورجل الأعمال بيرلسكوني.

وفي هذا السياق فإنه من الأهمية الإشارة إلى أنه ليس ثمة ما يمنع رجل الأعمال من الاشتغال بالسياسة كأن يكون فاعلاً سياسياً في الأطر السياسية التي تنشط خارج دائرة السلطة، مثل: الأحزاب، النقابات، الجمعيات الأهلية بتنوعها. إذ إن انتقاله من هذه الدائرة إلى دائرة "الفعل السياسي" بأن يتبوأ مركز صناعة القرار في مؤسسات الدولة الرسمية: البرلمان، المجالس الشورية، الوزارة، رئاسة الدولة، ليس ثمة ضمانة تعصمه من استغلال وجوده في هذا المركز لإدارة شؤون الدولة على النحو الذي يجعلها عند نقاط التقاء مع مصالحه وأعماله ومشاريعه وشركاته الخاصة.

وعلى أقل تقدير فإن هذه المكانة السياسية الرسمية هي في نهاية الأمر "حصانة" يعتصم بها من الملاحقات القضائية والأمنية، تيسر له مساحة كبيرة من الحركة والمناورة: ففي مصر على سبيل المثال اكتشف المصريون أن 12 عضواً بالبرلمان - دخلوه باعتبارهم رجال أعمال - كانوا مدرجين في قوائم الإدارة العامة لمكافحة المخدرات بالقاهرة باعتبارهم من كبار تجار المخدرات في مصر، ورغم أن صحيفة الوفد المصرية نشرت في عهد الراحل مصطفى شردي تلك القوائم مختومة بخاتم وزارة الداخليةº فإن البرلمان المصري لم يستطع إلغاء إلا عضوية اثنين فقط، فيما ظلت البقية منهم يتمتعون بحمايته وعضويته، رغم أنه كان من بينهم من محترفي تهريب "الحشيش الإسرائيلي"، وفي السياق ذاته عرف البرلمان المصري "نواب التجنيد" الذين تهربوا من أداء الخدمة العسكرية، و"نواب القروض" الذين استغلوا مناصبهم البرلمانية في نهب أموال المودعين بالبنوك.

ومؤخراً: بعدما أبرمت مصر اتفاقية "المناطق الصناعية المؤهلة" - الكويز - تم استبعاد بعض المناطق من الدخول في هذه الاتفاقية مثل: "المحلة الكبرى" و"الإسماعيلية"، ثار رجال الأعمال على هذا الاستبعاد، واعتبروه انحيازاً لرجال أعمال آخرين ضدهم، وطالبوا بضرورة مساواتهم بغيرهم ممن شملتهم الاتفاقية، يعني أنهم لا يرون في الأمر تطبيعاً ولكن اعتبروه "مؤامرة" عليهم باستبعادهم من "كعكة الكويز".

وفي هذا السياق فإن الذين يتعجلون ويضغطون على الحكومة السورية وحثها على سرعة الدخول في تسوية سياسية مع الكيان الصهيونيº هم طبقة رجال الأعمال السوريين، وهو شعور كما بينا في ما تقدم يتسق و"الحيدة القيمية" التي تشكل أسس "الوجدان الوطني" عند رجل الأعمال عادة.

وفي فلسطين أيضاً فإن الوزير "جميل العطيفي" تورط في نقل أسمنت مصري مع "رجال أعمال مصريين" إلى رجل أعمال إسرائيليي يدعى "زيفي بيليكسي"، استخدم في بناء المستوطنات، والجدار العنصري العازل، ولم تتمكن المؤسسات الرقابية والأمنية الفلسطينية من معاقبته، بل لا يزال نجماً إعلامياً، وضيفاً على قنوات التلفزة العربية يتحدث باسم الشعب الفلسطيني وكأنه واحد من قيادات حماس، أو الجهاد، أو كتائب شهداء الأقصى!!

وكذلك أبو العلاء "أحمد قريع" باعت شركاته مواد بناء لإسرائيل، استخدمت في بناء مستوطنات إسرائيلية في "جبل أبو غنيم"، والطريف في هذا الأمر أن متحدثاً باسمه برر هذا "التطبيع بالباطن"، والذي يعد في الأعراف والتقاليد الوطنية "خيانة"، برره بأن المستوطنات التي بنيت بمواد البناء التي وردتها شركاته للكيان الصهيوني إنما تقع في المناطق التي من المتوقع مستقبلاً أن تستعيدها السلطة الفلسطينية في التسويات المنتظرة مع الكيان الصهيوني!!

والحال فإن هذه الظاهرة متواترة كونياً، مما يجعلها أصلاً تبنى عليه المواقف وربما التشريعات مستقبلاً لتنظيم علاقة رجل الأعمال بالسياسة، فما حدث في مصر وفلسطين كمثلين لا حصراً نجده مكرراً في دول أخرى بعيدة عن العالم العربي، ففي أمريكا أدارت الإدارة الأمريكية الحالية الحرب في العراق على النحو الذي يخدم تطلعات أباطرة النفط بها في "جنات العراق" النفطية، وهي تطلعات لم تعد سراً بعد أن كشف المرشح الأمريكي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة "جون كيري" عن أن نائب الرئيس ديك تشيني حصل على عمولة قدرها 2 مليون دولار نظير السماح للمجموعة النفطية "هاليبرتون" الحصول على عقود بالعراق تقدر 6 مليارات دولار من دون استدراج عروض، وفي إيطاليا أقدم رئيس الوزراء بيرلسكوني على تقديم رشاوى للقضاء الإيطالي لتمرير محاولة اقتناصه شركة "إس إم إي" للأغذية المملوكة للدولة، وحاول في الوقت ذاته تمرير مشروع قانون لا يجيز إحالة رئيس الوزراء إلى المحاكمة في قضية فساد طالما ظل في منصبه، صحيح أن القانون جرى تعطيل إجراءات تمريره، إلا أن بيرلسكوني استطاع الإفلات من الحبس مستنداً على وجوده في منصبه، فيما سجن شركائه في القضية لعدم تمتعهم بحصانة مماثلة.

إن "الحيدة القيمية" عند رجل الأعمال على وجه الإجمال سواء أكان سياسياً أم خارج أية أطر سياسية عادة ما تؤسس عنده شكل العلاقة مع الوطن وقضاياه وهمومه، وربما تفصل في مسألة "معنى الوطن" في وجدانه، ولعل ذلك ما يتضح في مسألة ما يسمون بـ"سماسرة المدن"، وهم ينتمون إلى فئة "رجال الأعمال"، في العراق، وفي الأردن: ففي الأولى لا يتورعون عن التوسط للإسرائيليين في عمليات شراء واسعة النطاق للأراضي في كل من كردستان، والكفل (جنوب الحلة)، والعزيز ( شمال العمارة)، والتي يتكالب عليها الإسرائيليون لأسباب دينية، وفي الأردن تنشط مكاتب لرجال أعمال أردنيين بالمدن الصناعية لتسهيل عمليات شراء واسعة للأراضي يقوم بها إسرائيليون في كل من العقبة، مادبا، ومنطقة جلعاد والشمال.

إن ممارسة من هم خارج دائرة الفعل السياسي تعكس مدلول ومعنى الوطن عند رجل الأعمال عموماً، فما بالنا بمن بات منهم "سلطة سياسية" داخل بلده، له قوة القسر والإلزام القانونيين؟! لعل ذلك من شأنه أن يفتح نقاشاً عاماً حول علاقة رجال الأعمال بالسياسة، وتبني دعوة ربما تكون مشروعة تستهدف إرساء قواعد وأعرافاً جديدة لهذه العلاقة، ربما تنتهي بالدعوة إلى ضرورة الفصل بين "البزنس والسياسة".

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply