بسم الله الرحمن الرحيم
انشغل العالم العربي مؤخراً بكليته في مناقشة المبادرة الأمريكية المسماة « الشرق الأوسط الكبير »، والتي تدعي أمريكا أنها أعلنت عنها بهدف إجراء إصلاحات ديمقراطية وسياسية ومجتمعية واقتصادية في دول الشرق الأوسط (العربية ودول جنوب شرق آسيا) أي الدول الإسلامية.
ومن أبرز المحاور التي تركز عليها المبادرة الأمريكية حسبما ذكرت صحيفة الأهرام المصرية:
- بناء مجتمعات واعية ومؤسسات غير حكومية، وتكثيف التعاون مع منظمات شعبية تكرس جهودها للإصلاح الاقتصادي، ودعم الحريات العامة، وفي هذا السياق تعد أمريكا هذه المنظمات بالمساعدات اللازمة.
- توفير الدعم والتمويل اللازمين لعمل المنظمات غير الحكومية.
- حث حكومات المنطقة على السماح بعمل المؤسسات المستقلة، وتجنب فرض قيود عليها، أو التدخل في شؤونها.
هذا إلى جانب المحاور الأخرى التي تتحدث عن الديمقراطية والحريات والإصلاحات السياسية والاقتصادية.
الذي يلاحظ البنود أعلاه يكتشف أن المبادرة الأمريكية تسعى إلى نقل مقاليد السلطة في دول الشرق الأوسط إلى المنظمات الشعبية والأهلية التي تتعهد أمريكا بتوفير الدعم والإمكانيات اللازمة لها، وإذا علمنا أن أمريكا ومجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى - التي ستكون شريكاً في هذه المبادرة، حيث من المتوقع أن تتبنى هي وأمريكا القمة التعليمية التي اقترحتها أمريكا للشرق الأوسط، والتي تهدف إلى بحث إدخال إصلاح للعملية التعليمية في الدول الإسلامية والعربية، بمعنى تغيير المناهج الإسلامية -، إذا علمنا أن هذه الدول تشترط أن تتبنى المؤسسات والجمعيات الأهلية والشعبية سياستها المجتمعية والاقتصادية فسوف نعلم أن مجموعات حملة الشهادات العليا الذين تربوا في أمريكا ضمن بعثات تعليمية أمريكية وأوروبية مجانية هم الذين سيقودون هذه المؤسسات والجمعيات التي ستقود المجتمع العربي وفق المنظور الأوروبي والأمريكي، ووفق مفاهيمهم التي تتناقض كلياً ومفاهيم العالمين العربي والإسلامي.
فإذا كانت مصر قد تجرأت على محاكمة مثيلي الجنس وعبدة الشيطان في مرحلة سابقة ثم عدلت عن ذلك، فإنها حسب المفاهيم الجديدة التي تطلق الحريات على علاتها لن تقدم على ذلك (ومصر نموذج لمجموعة الدول العربية والإسلامية)، وإذا كانت مصر قد تجرأت على محاكمة سعد الدين إبراهيم - مدير مركز ابن خلدون للأبحاث بتهمة التجسس لإسرائيل ولأمريكا ثم عدلت عن ذلك بعد الضغوط من الطرفين المذكورينº فإنها لن تقدم على مثل هذه الخطوة مستقبلاً لأن أمثال سعد الدين وأمثال مثيلي الجنس هم الذين سيقودون العالم العربي والإسلامي مستقبلاً حسب الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط العربي، وستصبح الموارد المالية بأيدي هؤلاء المدعومين أمريكياً بكل الإمكانيات المالية والفنية، وستصبح الحكومات العربية مقاولاً فرعياً لدى هذه الجمعيات والمؤسسات.
وواضح جداً أن الديمقراطية التي تسعى أمريكا إلى إنزالها على دول الشرق الأوسط من المفروض أن تفرز أنظمة تتوافق مع الرؤية الأمريكية للمنطقة وليس على رؤية شعوب المنطقة لطبيعة الأنظمة التي تود تلك الشعوب أن تحكمها، فماذا لو أفرزت الانتخابات الحركات الإسلامية لقيادة الدول العربية كما حصل في الجزائر عام 1989 أين ستقف أمريكا وأوروبا في هذه الحالة؟ أليس في الجانب الذي وقفت فيه لما انقلب العسكر في الجزائر على إرادة الشعب؟ وفي تونس لما كاد يصبح المفكر الإسلامي الأستاذ راشد الغنوشي رئيساً للدولة فانقلب عليه وعلى حركته ربيب (السي آي إي) زين العابدين بن علي هو وزمرة العسكر فنفوه حيث يعيش اليوم لاجئاً سياسياً في لندن، وشردوا جماعته، وسجنوا من بقي منهم، وماذا لو أفرزت الانتخابات أغلبية إسلامية في مجلس النواب فقام النظام بتغيير نظام الانتخاب لتحجيم التمثيل الإسلامي في المجلس كما حصل في الأردن؟ وماذا مع استمرار منع الحكومة المصرية لجماعة الإخوان المسلمين من المشاركة السياسية، واعتبارها خارجة عن القانون رغم مبادرات المصالحة العديدة والمتكررة التي أعلنتها الجماعة مع النظام؟.
وبالإجمال فإن أمريكا تسعى أن تفرز الديمقراطية التي تريد تفصيلها لدول الشرق الأوسط أحزاباً وقادة يعملون وفق رؤيتها المجتمعية والقيمية والسياسية، ولأجل هذا الغرض عملت أمريكا خلال السنوات الماضية على تدريب وتدريس أعداد لا بأس بها من المثقفين العرب ضمن بعثات تعليمية مجانية في جامعاتها حيث لقنتهم أسلوب الحياة الأمريكية، ومجموعة القيم الأمريكية التي تتنافى كلياً مع مجموعة القيم العربية والإسلامية، وهؤلاء هم المعوّل عليهم أمريكياً لقيادة المنطقة العربية والشرق أوسطية في المرحلة القادمة، ولهم يتم تمهيد السبيل والطرق لاستلام زمام الأمور في الدول العربية والإسلامية تحديداً.
والمفارقة العجيبة في هذا الشأن أن المجتمع الأمريكي حسب غالبية الدراسات واستطلاعات الرأي هو مجتمع متدين، وليس سراً أن الرئيس الأمريكي وإدارته هم من المتدينين المتشددين، وعليه فقد أعلن مؤخراً عن نيته إلغاء قانون زواج مثيلي الجنس المعمول به في أمريكا (زواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة) فلماذا يضغط على مصر لوقف محاكمة مثيلي الجنس عندها بينما يسعى الرئيس الأمريكي إلى إخفاء هذه الظاهرة من مجتمعه (وهي خطوة محمودة)، أم أن الديمقراطية و « الحريات » التي يراد إنزالها على رأس العالم العربي تختلف عن تلك التي تطبق في أمريكا؟، ولماذا تكون الإدارة الأمريكية إدارة متدينة بل الأكثر تديناً، وتشارك الأحزاب التي تخوض الانتخابات (كما في ألمانيا) تحت مسمى (المسيحيون الديمقراطيون) بكل صراحة بينما تمنع الأحزاب والحركات الإسلامية في الدول الأوروبية من هذا الحق؟
والذي نخلص إليه أن مشروع « الشرق الأوسط الكبير » الذي يحمل لافتة الديمقراطية والحريات والإصلاحات ليس إلا مشروعاً استعمارياً بل قل استخرابياً بثوب إصلاحي، مع تأكيدنا أن هناك حاجة ماسة بل وماسة جداً إلى أحداث إصلاحات جذرية في الأنظمة العربية تراعي نبض الشارع العربي، وقبل ذلك تراعي دينه وعقيدته الإسلامية السمحاء.
إصلاحات منذ هدى شعراوي!!!
وما يؤكد صدق ما ذهبت إليه هو تأكيد الرئيس المصري حسني مبارك أن الإصلاحات التي تقوم بها الحكومة المصرية تعود إلى سنوات طويلة ترجع إلى عهد « الزعيمة النسائية هدى شعراوي في أوائل القرن العشرين »!!
وهدى شعراوي هي تلك الزعيمة!! النسائية المتحررة من الدين والقيم الإسلامية والعربية، والتي عبرت عن ذلك ودعت النساء إلى إتباعها يوم أن وقفت في ميدان التحرير في وسط القاهرة، وخلعت عنها حجابها وداسته بقدمها خلال مظاهرة نسائية في إشارة منها إلى التحلل من القيم الإسلامية، ومنذ ذلك اليوم أطلق على ذلك الميدان ميدان التحرير، ومن المؤسف أن رئيس أكبر دولة عربية - مصر الكنانة - التي يعتبر شعبها شعباً مؤمناً بالفطرة، ولديه أكبر تيار إسلامي أن يعتبر خطوة هدى شعراوي الانفصالية عن الخلق والأدب الإسلامي - بل قل العربي - خطوة إصلاحية، وواضح جداً أن الرئيس المصري - على جانب آخر - قد فهم مرمى «الإصلاحات» التي تريدها أمريكا للدول العربية ودول جنوب شرق آسيا (أي الإسلامية).
وليس سراً أننا مع رفضنا للمبادرة الأمريكية المسماة « الشرق الأوسط الكبير » نرفض الرفض العربي للإصلاحات التي يجب أن تنبع من صميم عقيدتنا الإسلامية، ومن حاجات مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فالأنظمة العربية التي ترفض المبادرة الأمريكية ترفضها لأنها تعلم أن تاريخ صلاحيتها قد انتهى، وأن هناك مجموعات غير صغيرة ممن دربتهم وعلمتهم وأعدتهم أمريكياً جاهزون للانقضاض على عروشهم وكراسيهم خاصة وأن تبعية الأنظمة العربية الحالية بعد الذي حصل للعراق أصبحت أوضح من قرص الشمس.
ولذلك هناك حاجة ماسة أن تكون الإصلاحات والحريات المنتظرة في العالم العربي والإسلامي نابعة من صميم إرادة الشعوب العربية، ومحكومة لعقيدتها الإسلامية، وليس للإرادة الأمريكية الاستخرابية.
« صناع الحياة »
وما دمنا نتحدث عن الإصلاحات والنهوض بالأمة، ونطلق مبادرة مقابل مبادرة أخرى، فإنّا كأمة إسلامية نملك أجود المقومات وأحسنها، وباستطاعتنا أن نوفر كافة الإمكانيات للنهوض بالأمة الإسلامية من رقدتها، فنحن نملك نظاماً إسلامياً حكم الكون فأبدع قروناً طويلة، ونتمتع بإيمان عال أن تحلينا به فهو كفيل بأن يعيدنا إلى دور الريادة، ولا ينقصنا سوى الإرادة الصلبة والإيمان القوي لتحقيق ذلك، وكما قال صاحب برنامج صناع الحياة الأستاذ عمرو خالد: فإن الألمان لا يتفوقون علينا بشيء سوى الإرادة الكبيرة، والإيمان بالفكرة، وأن اليابانيين لا يتفوقون علينا بشيء سوى الإرادة الكبيرة والإيمان بالفكرة، فهؤلاء الشعبان استطاعا خلال ثلاثين عاماً بعد أن دكت قوات التحالف دولهم دكاً، ودمرتها شر تدمير، وألقت على مدينتي هيروشيما وناكازاكي القنابل الذرية، وسوت المدن الألمانية بالأرض، بعد كل ذلك استطاع الشعبان أن ينهضا خلال ثلاثين عاماً لتصبح دولهم من أكثر الدول تطوراً صناعياً واقتصادياً إن لم تكن أكثرها.
فلماذا لا نكون نحن المسلمين، ونحن الذين نملك كل المقومات اليوم مثلهم، وننهض كما نهض بنا في أزمان سلفت صلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس، والعز بن عبد السلام، ومحمد الفاتح وغيرهم؟! هل ذلك مستحيل؟! أقول لا إذا توفرت الإرادة القوية والإيمان الكبير بالفكرة مع تجديد الدين في حياتنا.
وهي دعوة لنا جميعاً أن نراقب ونتابع «صناع الحياة » أيام الثلاثاء والجمعة للأستاذ عمرو خالد - حفظه الله -.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد