بسم الله الرحمن الرحيم
"الأخذ والعطاء" هما جوهر منطق التفاوض، فكلا طرفي الصراع لا تشتد لديه الحاجة إلى الدخول في مفاوضات مع الطرف الآخر إلا إذا شعر وتأكد أنّ في مقدوره أن "يأخذ"; لأنّ في مقدوره أن "يعطي".
هذا الجوهر من منطق التفاوض هو الآخذ في التلاشي بين إسرائيل والفلسطينيين، فالدولة العبرية في عهد حكومة شارون، وفي هذا المناخ الدولي والإقليمي والعربي، تشعر أنّ في مقدورها الحصول على كل أو جلّ ما تريد من دون "مساعدة فلسطينية"، فليس الرئيس عرفات وإنما الرئيس بوش هو الذي في مقدوره الآن أن يذلل لها العقبات من طريقها إلى العالم العربي، ويكفي في اعتقادها أن يشهر من "حصنه الحصين" في العراق "سيف الإصلاح الديمقراطي" ("الشرق الأوسط الكبير") في وجه الحكومات العربية حتى يدخل "السلام" و"التطبيع" من "البوابة الشارونية"، التي ليس ثمة ما يمنع من أن يُكتب عليها عبارة "مَن يدخل هذه البوابة سيصل حتماً إلى الحل الذي تبشّر به وتَعِد خريطة الطريق"!
جملة صغيرة نريدها حتى نتعاون جميعاً في تنفيذ "خطة شارون" التي نكرهها ونمقتها ونخشاها، وهذه الجملة التي ستجعل "خطة شارون" تنزل علينا برداً وسلاماً هي "هذه الخطة ستكون (مع كل ما تفضي إليه من نتائج عملية) جزءاً من الجهود المبذولة لتنفيذ خريطة الطريق"!
قديماً أي قبل انتهاء "الحرب الباردة" وزوال الاتحاد السوفيتي وزلزال 11 أيلول 2001 وغزو أفغانستان والعراق كان بديهية سياسية وإستراتيجية القول باستحالة "السلام" و"التطبيع" بين إسرائيل والعالم العربي من دون حل المشكلة القومية للشعب الفلسطيني بكل أوجهها وأبعادها، فالفلسطينيون (مع حقوقهم القومية) كانوا هم "المشكلة" و"الحل" في سعي إسرائيل إلى "السلام" و"التطبيع" مع الدول العربية; ذلك لأنّ تخطي هذا "العائق الفلسطيني" كان يمكن أن يزعزع "أمن" و"استقرار" أنظمة الحكم العربية، فضغوط الولايات المتحدة كانت أضعف من أن تُشعِر أنظمة الحكم العربية بضآلة تأثير "الضغط الفلسطيني".
اليوم اختلف كل شيء، وصارت أنظمة الحكم العربية تنظر إلى "الواقع" بعيون مختلفة، فالقول باستحالة السلام من دون الفلسطينيين غدا "خرافة سياسية"; أمّا "التهديد"، الذي تشتد حاجة أنظمة الحكم العربية إلى درأه عنها، فما عاد "التهديد الفلسطيني" وإنما تهديد القوة الإمبريالية العظمى في العالم، والذي لا يمكن درؤه إلا في "الطريقة المختبرة"، وهي "استرضاء إسرائيل" ومؤيديها الأقوياء في داخل الولايات المتحدة.
شارون يدرك أنّ العالم العربي ما عاد "حقيقة سياسية واستراتيجية ثابتة"، فكل شيء فيه دخل، أو يوشك أن يدخل "مرحلة انتقالية"، لا شيء واضح من معالمها، حتى الآن سوى أنّ رياح التغيير فيه تجري بما تشتهي سفينة الولايات المتحدة، ويمكن بالتالي أن تجري بما تشتهي سفينة "إسرائيل العظمى"، فلِمَ العجلة.. ولِمَ "الحل الدائم" مع الفلسطينيين?!
إذا كانت حال العرب هي فعلاً هذه الحال التي تَعِدُ إسرائيل بجعل خرافة "أرض الميعاد" حقيقة نابضة بالحياة، فإنّ "الحكمة اليهودية" تقضي بالسير في طريق "الحل الانتقالي طويل الأجل" مع الفلسطينيين (ومن دونهم) فإسرائيل تشعر الآن أن ليس لدى الفلسطينيين ما يغريها بالتوصل إلى حلول للمشكلات عبر التفاوض معهم.
شارون يقول في نفسه: "إذا تفاوضتُ مع الفلسطينيين، أكان مفاوضهم عرفات أم قريع فإنني سأسمع منهم ما لا يسرّني سماعه من كلام عن حق العودة، والقدس، والمستوطنات، والحدود.. الآن ما عاد بالأمر المهم أن يحدّثني الفلسطينيون عن الأهمية التاريخية لاعترافهم بحق إسرائيل في العيش ضمن حدود آمنة ومعترف بها، أو أن يحدّثوني عن العواقب التاريخية لرجوعهم عن هذا الاعتراف، ما عاد مهماً كل ذلك فالسور الذي أبتنيه هو الحدود الآمنة والذي على صخرته سيتحطم وهم المقاومة العسكرية، وغزو العالم العربي بالسلام وفي السلام صار ممكناً بمعونة عصا الحليف الإستراتيجي، وانتفت الحاجة بالتالي إلى استرضاء الدول العربية عبر استرضاء الفلسطينيين، وكل ما ينبغي لإسرائيل أخذه من الفلسطينيين وأراضيهم في مقدورها الآن أخذه من دون أن تعطيهم شيئاً مما يطلبون، فلديّ السور، ومعه نصف أراضي الضفة الغربية، ولديّ العاصمة الأبدية الموحدة لدولة إسرائيل، والاستيطان اليهودي الأبدي في غوش عتصيون ومعاليه أدوميم وآرييل وفي أحياء القدس، ولديّ سجن كبير للفلسطينيين يقيمون في داخله إذا ما أرادوا دولتهم القومية المستقلة.. ".
ولِمَ يعارض الإسرائيليون هذا "الحل الانتقالي طويل الأجل"?!
لن يظهروا ميلاً إلى معارضته; لأنّه سيُنفَّذ ضمن "اتفاق" على أنّه سيكون "خطوة في الطريق إلى تنفيذ خريطة الطريق"; ولأنّه درأ عنهم مخاطر حق العودة، وأبقى لهم القدس الشرقية وأهم المستوطنات وقسماً كبيراً من أرض الضفة الغربية، من دون أن يتمخض كل ذلك عن تلك العواقب التي كانوا يخشونها كمثل "فقدان الأمن"، والإضرار بالعلاقة مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، ومنع الدول العربية من إقامة السلام مع إسرائيل وتطبيع كل أوجه العلاقة معها.
وليس ثمة ما يمنع شارون من أن يقبل إظهار خطته على أنّها جزء من الجهود المبذولة لتنفيذ "خريطة الطريق"، التي ما زال مصرّاً على إظهار استمساكه بها، فهذه الخريطة نصّت على قيام "دولة فلسطين" بعد "مرحلة انتقالية"، تُقام فيها "دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة"، ويمكن اتخاذ "سور شارون" بعد تعديل الولايات المتحدة لمساره "حدوداً موقتة" لهذه الدولة; كما يمكن إظهار هذا السور ذاته على أنّه "حل أمني موقت" أي أنّ "الحل الدائم" وعندما يأذن به الله يمكن ويجب أن يأتي بما يلغي الحاجة إلى بقاء هذا السور، الذي سيظل قائماً إلى أن يدرك الفلسطينيون أنّ مصلحتهم في الانتقال من "الدولة ذات الحدود الموقتة" إلى "دولة فلسطين" تقضي بقبولهم جوهر الحل الإسرائيلي لمشكلات "حق العودة" و"القدس الشرقية" و"المستوطنات" و"الحدود".
وتعتقد حكومة شارون أنّ تعريض الولايات المتحدة الدول العربية لمزيد من "ضغوط الشرق الأوسط الكبير" سيحمل هذه الدول على "بذل جهود حقيقية" لإقناع الفلسطينيين بضرورة أن يصبحوا جزءاً من الحل الذي تنشده "خطة شارون" حتى يصبح ممكناً، بعد ذلك بوقت لا يعلمه سوى الله السير معاً في الطريق المؤدية إلى تنفيذ "خريطة الطريق"!
وغني عن البيان أنّ في قطاع غزة الذي خرج منه المستوطنون والجنود الإسرائيليون سيكون "الاختبار الثنائي الحاسم"، أي أنّ فيه سيُختبر "أمن إسرائيل"، و"إمكان قيام شيء من السيادة الفلسطينية".
هذا يعني أن لا أسلحة ولا وسائل قتالية ستُهرّب من مصر إلى قطاع غزة، ومن أجل أن تنجح مصر في الوفاء بهذا الالتزام الذي لا ترفضه من حيث المبدأ يسعى المصريون إلى جعل حكومة شارون تبدي من "المرونة" ما يسمح للقاهرة بالتوصل إلى "إجماع فلسطيني" على ضرورة جعل قطاع غزة "منطقة آمنة"، وما يسمح لها أيضاً بمساعدة السلطة الفلسطينية في طريقة تمكّنها من حفظ الأمن والنظام العام.
وعبر هذا "الدور الأمني المصري" الذي يحتاج القيام به على خير وجه وتذليل العقبات "السياسية والقانونية" من طريقه إلى "اتفاق" بين مصر وإسرائيل، يصبح ممكناً قيام "المطار" و"الميناء" بعملهما، وبدء "إعادة البناء".. وبروز مزيد من معالم ومظاهر السيادة الفلسطينية.
بالاتفاق مع مصر (والولايات المتحدة) تشرع إسرائيل في تنفيذ "خطة شارون" في قطاع غزة، أي تشرع في إخراج جنودها ومستوطنيها منه، وبالاتفاق مع السلطة والمنظمات الفلسطينية تشرع مصر في أداء دورها الأمني في طريقة تعطي إسرائيل الأمن، وتمكّن الفلسطينيين من أن يثبتوا للعالم قدرتهم على إدارة دولة لهم.
الفلسطينيون يدركون كل الشرور في "خطة شارون"; ولكنّ الجهود مبذولة الآن لتوضيح أنّ عملهم المقبل انطلاقاً مما ستتمخض عنه من نتائج عملية لا يعني، ويجب ألا يعني أنّهم كانوا جزءاً من هذه الخطة، أو أنّ لهم إرادة في كل هذا الذي حدث، فهم إنما يقومون بكل ما ينبغي لهم القيام به حيث يخرج الجنود والمستوطنون الإسرائيليون، والجهود مبذولة أيضاً لتوضيح أنّ كل هذه الشرور لن تدوم طويلاً; لأنّ "الاتفاق" كان أن تكون "خطة شارون" خطوة في الطريق إلى تنفيذ "خريطة الطريق"، التي عبرها ستبرّ الولايات المتحدة في وعد قيام "دولة فلسطين"!
أمّا "الحقيقة التي لا يشوبها وهم" فهي أنّ "خطة شارون" لا تعدو أن تكون حلاً انتقالياً طويل الأجل، لن يتحول إلى "حل دائم" إلا بعدما تتمخض المرحلة الانتقالية التي يجتازها العالم العربي عن تلك النتائج التي تمكّن إسرائيل من جعل هذا "الحل الدائم" ثمرة قبول فلسطيني لجوهر الحل الإسرائيلي لمشكلات "اللاجئين" و"القدس الشرقية" و"المستوطنات" و"الحدود".
إنّ "خطة شارون" هي "الحقيقة" التي يحاولون الآن إلباسها وهم أنّ الشروع في تنفيذها، والمساعدة في تنفيذها، يمهدّان السبيل إلى تنفيذ "خريطة الطريق"، وقيام "دولة فلسطين" التي لن تتحدد شكلاً ومحتوى إلا بما يتفق و"الحقائق الجديدة" التي ستأتي بها "هراوة الشرق الأوسط الكبير"!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد