بسم الله الرحمن الرحيم
الحديث عن الديمقراطية وأنواعها، والليبرالية واتجاهاتها، والمجتمعات المدنية وخصائصها أصبح علامة فارقة في شبا أقلام أبناء الأمة المفتونين بالغرب وما يأتي به، ولكأن المعركة التي دارت رحاها بين الجديد والقديم قبل عشرات السنين تعود اليوم بثياب أخرى زاهية تسحر النفوس، وتخلب الألباب، وتأسر القلوب حتى إذا بحثت عن حقيقتها وجدت السم الزعاف يسري في بدن الأمة فيقطع شرايينها، ويفتك في عصبها ويهري لحمها، وما أجمل ما قاله الرافعي في رواد تلك المعركة وفي أضرابهم ممن كانوا أجنة في ضمير الغيب وهم اليوم حقائق في عالمنا: (وهم يريدون بآرائهم الأمة ومصالحها ومراشدها، ويقولون في ذلك بما يسعه طغيانهم على القول، واتساعهم في الكلام، واقتدارهم على الثرثرة حتى إذا فتشت وحققت لم تجد في أقوالهم إلاّ ذواتهم وأغراضهم وأهواءهم يريدون أن يبتلوا بها الناس في دينهم وأخلاقهم ولغتهم، كالمسلول يصافحك ليبلغك تحيته وسلامه فلا يبلغك إلاّ مرضه وأسباب موته..!).
وعندما يدب مرض خطير بين الناس فيستولي على حياتهم، ويفتك في أرواحهم، ويتعادون به فإننا لا ننظر إلى فلان وعلان ممن أصابه المرض، وأصبح ناقلاً له نظر بحث وتقصٍ, بل يكون وكدنا وهمنا في تتبع هذا المرض ومعرفة سره، وكيف بدأ، وكيف ينتشر حتى يتسنى لنا أن نجد له علاجاً يكافحه ويقضي عليه، وأما فلان وعلان فيقع عليهم الحجر الصحي حتى يتشافوا أو يتوفاهم ملك الموت الذي وُكّل بهم حماية للأمة ورعاية لمصالحها: (والفكرة لا تُسمّى بأسماء الناس، وقد تكون لألف سنة خلت، ثم تعود بعد ألف سنة تأتي، فما توصف من بعد إلاّ كما وُصفت من قبل ما دام موقعها في النفس لم يتغير، ولا نظنه سيأتي يوم يذكر فيه إبليس فيُقال: رضي الله عنه).
ومع ذلك فإننا لا نرفض ما يأتينا من الآخر حتى ننظر في حقيقته ونفتش عن خباياه لنعلم كنهه، فإذا وجدناه لا يخالف ديننا، ولا يهدد أعرافنا الصالحة، ولا يناكف طبيعتنا الإسلامية، ورأينا فيه حماية لمصالح الأمة، ورعاية لحال الناس، وحراسة لثروات المجتمع أخذنا به وانتفعنا بتجربته، وأفدنا من علمهº لأن التجربة الإنسانية ليست حكراً على أحد بعينه، وإنما هي خلاصة تجارب مرت عليها أحوال هاصرة، وأزمنة عاصفة، وفتن مطوحة أثبتت جدواها ونفعها للناس والحياة، والديموقراطية الغربية لها حقيقة يجب أن نعرفها كي نتمكن من الحكم عليها، وهي ولا شك تجربة إنسانية قامت بسبب الظلم الواقع على الناس، والاستبداد المتسلط على إنسانيتهم، والدكتاتورية الماحقة لمدخراتهم، وقد عانت الأمة الغربية الويلات وذاقت طعم الحروب، وتلفعت بوشاح المآسي قبل أن تصل إلى الديموقراطية بصورتها النهائية اليوم، وهي من هذا المنطلق روح يجب أن تحترم، ومبدأ ينبغي أن يُراعى، إلاّ أن الديموقراطية وهي حكم الشعب بمعناه السياسي لا الاجتماعي، أو حكم الأغلبية قد وقعت في مغالطات وتسربت إليها بعض الفيروسات القاتلةº فالعدد مهم جداً في العملية الانتخابية ليصل حزب ما إلى الرئاسة كيفما كان هذا العدد والمتابع لأحوال الغرب، وخاصة أمريكا يجد أن المتحكم في العملية الانتخابية هم أرباب المال وحيثما يكن ثقلهم يكن النصر، وهذا ما مكن أناساً لا يستحقون الرئاسة من هذا المنصب الخطير على الرغم من ماضيهم الأسود، وحياتهم البائسة، وكما أن الديموقراطية قد أسقطت الدين من حسابها، ولم تلتفت إليه في حياتها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية ولم تلجأ إليه إلاّ وقت الأزمات لشحن النفوس وتغييب العقل، كما حصل بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، على أننا لا نلوم الغرب بسبب موقفهم المتشنج ضد الدينº لأنه يرتبط عندهم بتاريخ من العنف والقهر والاستبداد ومصادرة الحريات والتفريق بين الناس حسب ما يعتقدون تفريقاً يوجب القتل والوقوف أمام العلم موقفاً إقصائياً استوجب قتل كثير من العلماء، وإرهاب آخرين، والحجر على أضعافهم...
وهذا مالا نجده في تاريخنا الإسلامي في الزمن نفسه الذي تعيشه أوروبا حيث عمت روح التسامح والمحبة والألفة والإخاء والعدل والمساواة، وانتشرت في جميع أصقاع البلاد الإسلامية، وبلغ العلم في تلك العصور مبلغاً لم يسبق إليه، وأصبح منطلقاً للحضارة التي نعيش اليوم تحت كنفها، وقد شهد بذلك الأعداء قبل الأصدقاء كما تجد ذلك في كتاب (بناء الإنسانية لـ بريفولت) وكتاب (الله ليس كذلك لـ هونكه) وكتاب (حضارة الإسلام لـ جرونيباوم) وغيرها من الكتب الكثيرة.
كما أن الخير الموجود في الديموقراطية والمبادئ التي حاربت من أجلها قد دعا إليها الإسلام منذ مئات السنين، بل أمر بها وشدد في اعتبارها، وقرر كثيراً من القواعد العامة مراعاة لها، فالعدل والمساواة والحرية والإخاء وغيرها من المثل العليا التي تكفل للإنسان أياً كان هذا الإنسان حياة كريمة هي من مطالب الإسلام ذات الأولوية في خطابه..
إن الديموقراطية في العالم الغربي بدأت تتحول إلى مسرحية هزلية تضحك المجتمع السادر في ملذاته، بينما الحزب الحاكم كما في أمريكا- وهي الغرب- يسعى وراء مصالحه الخاصة، ويطمح بإنشاء إمبراطورية قوية تتحكم بالعالم وخيراته، وتمده بأسباب بقائها من حروب طائفية، وأهلية وخلافات حزبية، ومعارك دينية مع ما يفرضه من رقابة صارمة على الصحف والإذاعات، والقنوات بحجة الحفاظ على الأمن القومي، وكم من الفضائح العسكرية والسياسية مما حدث في أفغانستان والعراق قد دُفن في داخل أسوار البنتاغون، وما تسرب ووصل إلى الناس من خلال الجرأة عند بعض المراسلين أو المسؤولين لا يعدّ شيئاً مذكوراً في جانب الكم الهائل من الأسرار المدفونة!
فأي ديموقراطية هذه التي يسعون لتطبيقها في المجتمعات العربية بقوة السلاح وعبر أقلام عميلة قد تم شراؤها أو استغفالها؟ وأي حرية يريدون نشرها وتحمل تبعاتها في الدول العربية؟ إنها -ولا شك- ديموقراطية الحمقى والمغفلين من جهة، وديكتاتورية الأذكياء والأقوياء من جهة... !
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد