بسم الله الرحمن الرحيم
لم تكن الدكتاتوريات في يوم ما إلاعصابات استطاعت أن تستولي على الحكم لتستبيح مقدرات الشعوب وأموالها ودماءها، مهمتها الأساسية كأي عصابة النهب والتخويف والترويع، ولهذا يستغرب الإنسان لأمرين قد يحار في فهمهما البعض، الأول: طلب الإصلاح أو ظنه من دكتاتوريات قميئة عقلها في شهوتها "فمها وفرجها".
الثاني: استنواق الشعوب واستكانتها لهذا الظلم والبغي، بل دفاع البعض عنه، وعدٌّه الخروج عنه خروجاً على الشرعية، وهذا ما جعل شوقي في بعض قصصه الرمزية يلمح إلى تلك الحالة الغريبة بقوله:
انظر الشعب "ديو " كيف يوحون إليه
ملأ الجو صياحاً بحياتي قاتليه
يا له من ببغاء عقله في أذنيه
وهذا في الحقيقة نتيجة القهر والظلم الذي مارسه الاستعمار الأجنبي، والاستعمار العربي على حد سواء، ومحصلة طبيعية لما ركز في التراث الشعبي في الأحياء القديمة من إبراز فتوات الحتة، الذين كانت لهم إمبراطوريات في تلك الأحياء، يفرضون على الناس إتاوات ويستغلون خضوعهم وطاعتهم في التسلط عليهم وإهدار حقوقهم من قبل هذه الطغمة التي تسمى بالفتوات، وويل ثم ويل لمن يحاول الشذوذ أو الخروج عن أوامرهم أو عصيانهم، وكانت الحكومات عاجزة عن حماية شعبها في مواجهة هؤلاء الفتوات ومقاومة تسلطهم.
واليوم يستمر مسلسل التسلط ولكن بطريقة أنكى وأضل، وهي (فتونة) الدولة، وبلطجة السلطة التي تشرع ذلك وتقننه، وتجعل من يخرج عنه خارجاً عن الشرعية والقانون، وتستعين على قمع معارضيها بجيش وشرطة. والحقيقة أن امتداد تلك الدكتاتوريات لأزمنة طوال قد كرس العبودية التي لم يستطع معها الشعب أن يدفع عدواً أو يمنع معتدياً، أو يردّ عن حماه غازياً.
ولقد تحملت ريادات الإصلاح الكثير الكثير في السجون وعلى أعواد المشانق وفي دهاليز زنازين التعذيب ما يشيب لهوله الولدان، وللحق لقد صبرت هذه الريادات في معارك الإصلاح مع هذه العصابات صبر الدارعين الأبطال في مواجهة الإبادة القذرة، لهؤلاء العمالقة.
ولقد تصفحت مذكرات أحدهم وهو الأستاذ عبد الحليم خفاجة، وهو يحكي في كتابه (عندما غابت الشمس) بعض ما تعرضوا له من تعذيبٍ, وقهرٍ, وإذلالٍ, طوال 25 عاماً، من سجنٍ, وتعذيب نفسيّ وجسديّ وحشيّ وغير آدمي، كانت تقوم به فرق تقودها قيادات حربية ورتب عسكرية بخطط للإبادة والترويع ويعجز البيان عن وصفه، وكانت بعد كل فترة من فترات القهر والتعذيب النفسي والجسدي تلجأ إلى الصلاة، يقول عبد الحليم : ما أحلى الصلاة في مواجهة الأقدار، إنها شعاع من نور السماء الذي يبدد الظلمات، وهي أشد ما تكون حلاوةً في الصلاة الجهرية، حيث قرأ الإمام في الجهرية قوله تعالى: ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) (آل عمران: 186) كان لهذه الآيات وقع السحر في قلوبنا وكأنني لم أسمع بها من قبل، وقد جاءت بعد جولة من الاضطهاد النفسي والجسدي كانت أشق على الأحرار من تجرع الموت، وكان الصبر عليها حقاً وصدقاً من عزم الأمور.
ولكننا ما كدنا نستريح قليلاً، حتى سمعنا جلبةً فجأةً حيث قامت القيامة مرة أخرى، وكان ذلك في زنزانة يسكنها إخواننا لأن مجلس حرب السلطة قد عثر على شيء فيها لا ندري ما هو، وساقوهم ضرباً وصعقاً خارج العنبر وحلقوا رؤوسهم، ثم ساقوهم بالعصي الغليظة دوراناً مع التعذيب حول العنبر ساعةً بلا توقف، وكنا في حيرة لا ندري ما هو الشيء الذي عثروا عليه، أهو سلاح، أم قنابل أم ماذا؟!
فعلمنا أن أحد الإخوة كان قد فرغ من توه من كتابة زجلية يفرج بها عن إخوانه، فضبطت وهي لا تتعرض للسياسة أو للسلطة أبداً، ولكنها أطارت صواب الطغمة العسكرية، وكانت هذه الزجلية هي:
محلاها واللّه الزنزانه
مزنوقة ولكن سيعانه
والقعدة فيها عجبانه
وقلوبنا سعيدة وفرحانه
محلاها واللّه الزنزانة
النومة على الأبراش حلوه
وبقينا مع اللّه في الخلوه
وكتاب اللّه أحسن سلوه
وآياته تنور دنيانا
محلاها واللّه الزنزانه
النسمة تمر وتنعشنا
والكلمة الحلوة تفرفشنا
وكفاية معانا رغيف عشنا
من غيرما نغمس يكفانا
محلاها واللّه الزنزانه
قفلينها علينا حابسينا
فاكرين آل يعني مضايقنا
لو كانت نار تصبح جنه
طول ما احنا بنعبد مولانا
محلاها واللّه الزنزانة
قفلوها ولاّ فتحوها
أجسامنا الفانية يأخدوها
وقلوبنا مش راح يطولوها
وهتفضل دايماً ويّانا
محلاهاو اللّه الزنزانه
ولقد كان هؤلاء الرجال الرواد أبطالاً حقيقيين يقهرون الحبس والتعذيب الجنوني فعلاً بالصبر العظيم والتسرية عن النفس، ولكن مجالس الحرب القذرة لا تريد ذلك وإنما تريد لهم أن يموتوا كمداً وقهراً، وكان المفروض أن المسجون ما دام قد حكم عليه بمدة معينة له حقوق، ولا يتعرض لأي مضايقات، ولكن أن يظل متعرضاً للتعذيب مدة 25 عاماً، فهذا ما لا تتحمله الجبال الرواسي، كما أنه شيء غير مسبوق في العصر الحديث.
وللأسف فقد استمرت البلطجة إلى اليوم بتشجيع خارجي، بل هناك من يتوعد المعارضة المطالبة بالديمقراطية، بالانتقام والاعتقالات الجماعية وتصفية حسابات كبيرة قد تصل إلى بعض السناريوهات المرعبة، وفعلاً قد كونت لذلك مجالس حرب يتصدرها جنرالات، مما ينذر بصدام واسع بين النظام الدكتاتوري وبين معارضيه السياسيين، قد يصل إلى بلطجة دولة، أو إلى عنفٍ, منظمٍ, واغتيالات واعتقالات سياسية، وفوضى لايعرف مداها إلا اللّه.
ولا نظن أن ذلك سينفع السلطات خصوصاً إذا كان خصومها من العيار الثقيل المسلح بالإيمان والذين لم تنفع معهم هذه الأساليب طوال نصف قرنٍ, من الزمان، وخصوصاً إذا كانت تلك القيادات القديمة قد اهترأت وفقدت سطوتها وانكشفت عورتها وارتمت في أحضان أعداء الأمة، ولم يصبح عندها ما تقدمه لها وقد أكل عليها الزمان ولفظها المكان، وأصبحت جنرالاتها فئران تجارب للسطلة المهزوزمة، وما يظن أحد أنها فعلت شيئاً، إلا كالنار التي تحرق أصحابها واللاعبين بها، ولا نستطيع إلا أن نقول إن غداً لناظره قريب والله غالب على" أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون (يوسف: 21).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد