بسم الله الرحمن الرحيم
بعد مرور أكثر من شهر على المشهد المأساوي الرهيب الذي ضرب جزيرة سومطرة الإندونيسية وما تلاه من مدٍّ, بحريٍّ, عاتٍ, خلّف وراءه أكثر من (300) ألف قتيل ومفقود، ما زالت خسائر (تسونامي) تطالعنا يومياً، وتزداد حدّتها يوماً بعد يوم، ومما يزيد الأمر صعوبة أن المسلمين في جنوب شرق آسيا كانوا الأكثر تضرّراً من كارثة العصر التي خلّفت وراءها في إقليم (أتشيه) المسلم في إندونيسيا أكثر من (156) ألف قتيل 98 % منهم مسلمون، وكذلك دفع المسلمون في الجنوب التايلاندي "فطاني" ثمناً باهظاً لهذا المد البحري الرهيب الذي دمر منازلهم والبنى التحتية لمناطقهم الفقيرة، في ظل المساعي الحكومية الشديدة لمحاصرتهم سياسياً واقتصادياً واجتماعياًº حيث أوقعت الكارثة أكثر من (6) آلاف قتيل في مناطق الجنوب التايلاندي المسلم الذي تقطنه أغلبية مسلمة فقيرة ومعدمة، ولم يختلف الأمر كثيراً في سيريلانكا حيث لقي أكثر من (35) ألفاً في المناطق الشرقية والجنوبية التي يقتسم فيها المسلمون ونمور التأميل التعداد السكاني، أكثر من (20) ألفاً منهم مسلمون حسب الإحصاءات الحكومية.
الكارثة أخرت خطط التنمية:
في المالديف كانت الكارثة ذات بعد اقتصادي نسبي حيث لقي (83) مواطناً مصرعهم في هذه الجزر التي يقطنها أغلبية مسلمة كاسحة، ورغم أن نصف عدد الضحايا من السياح الأجانب إلا أن المد البحري قضى تماماً على البنية السياحية للجزر التي تُعد العمود الفقري للاقتصاد المالديفي المتداعي أصلاً.
الخسائر الفادحة على المستوى البشري لم تختلف كثيراً عن الكارثة الاقتصادية التي أصابت اقتصاديات هذه الدول، ويأتي على رأسها إندونيسيا التي قُدّرت فيها الخسائر بما يتجاوز (13) مليار دولار لإصلاح البنية التحية التي دمّرها الزلزال، ناهيك عن فقد جاكرتا 13 % من ناتجها المحلي،. وشهدت إندونيسيا تراجعاً كبيراً في الاحتياطي النقديº إذ يسعى الرئيس إلى محاصرة آثار الكارثة خصوصاً في إقليم (أتشيه) المضطرب حتى لا يستغل المتمردون هذه الكارثة لتنفيذ مخطّطاتهم، وتكرار سيناريو تيمور الشرقية في (أتشيه)، كما أن هذه الكارثة -ولا شك- قد أعاقت الخطط التنموية التي كانت الحكومة الإندونيسية تعتزم تنفيذها بسبب الزيادة في دخلها القومي بسبب زيادة أسعار النفط، ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفنº إذ ينبغي على حكومة جاكرتا أن تنفق أكثر من 25 % من مداخيلها النفطية لإصلاح ما أفسده الزلزال.
خسائر فادحة:
أما المتضرر الأكبر من الكارثة فكانت على الترتيب سيريلانكا التي قُدّرت خسائرها من المد البحري بأكثر من (7) مليارات دولار تمثل أكثر من 75 % من ميزانية الدولة لمواجهة آثار الكارثةº ولكن هذا الأمر شديد الصعوبةº إذ تعاني الدولة من حرب أهلية بين الحكومة التي يسيطر عليها السيراليون ونمور التأميل، وهي الحرب التي أحرقت الأخضر واليابس في البلاد حيث وقعت البلاد بين فكي الكماشة، زلزال مدمر وحرب أهلية طاحنة يدفع ثمنها مسلمو سيريلانكا الذين يسددون الفاتورة الباهظة لهاº إذ لم يكونوا بحاجة إلى هذه الكارثة لتزيد آلامهم حيث أصبحوا هدفاً دائماً لمذابح التأميل ضدهم وضد مساجدهم ومؤسساتهم انتقاماً منهم لتأييدهم للحكومة ومشاركتهم في الحكومة الائتلافية التي تحكم البلاد، وجاءت كارثة الزلزال لتزيد الأعباء الاقتصادية على أكثر من(1. 8) مليون مسلم يعانون البطالة والكساد في سيريلانكا التي تحتاج لوقت طويل جداً لمواجهة آثار هذه الكارثة عليها.
تنازلات وتسهيلات:
وقد أفرزت هذه الكارثة العديد من النقاط أهمها أن إمكانيات أغلب الدول المتضررة من هذه الكارثة قاصرة، ولن تستطيع مواجهة تداعياتها وحدها، وهو ما أجبرها على مناشدة المجتمع الدولي تقديم مساعدات ضخمة لها، وهذا ما سيفتح الباب أمام تقديم هذه الدول وخصوصاً إندونيسيا وسيريلانكا تنازلات للقوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة تتمثل في تقديم تسهيلات عسكرية في الأراضي الإندونيسية والسواحل السيرلانكية للقوات الأمريكية، وهو ما يفتح الباب أمام واشنطن ليحقق حلمها القديم في السيطرة على المنطقة، أما الأمر الثاني فهو إبداء أكبر قدر من التعاون في الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، وهو الأمر الخطيرº إذ إن هذه المنطقة تضم قدراً كبيراً من القوى المعادية لواشنطن مثل جماعة أبو سياف في الفلبين، وحركة فطاني في تايلاند، والجماعة الإسلامية في إندونيسياº ناهيك عن حركة نمور التأميل التي وضعتها واشنطن منذ مدة طويلة في قوائم الإرهاب. وهذا ما يعني ببساطة أن ذراع واشنطن الطويلة امتدت للسيطرة على المنطقة لتنفيذ أجندتها الخفيّة، وكذلك إمكانية استغلال تسهيلات عسكرية تقدمها دول مسلمة تضرب حركات إسلامية وراديكالية تعادي المشروع الأمريكي.
حضور منظمات التنصير:
الأمر الأهم أن هذه الكارثة قد أدّت إلى استمرار الغياب العربي والإسلامي عن إغاثة منكوبي الكارثة على أثر الضغوط الأمريكية المتتالية والاتهام بالإرهاب، وهو ما حدا بالجمعيات الخيرية الإسلامية لترك الساحة لمنظمات التنصير الدولية لتحقيق أغراضها في هذه المنطقة التي تضم أغلبية إسلامية، وعلى رأس هذه المنظمات التنصيرية(عين الحيا)، و(أوكسفام)، وجماعة (الخيامون)، ومجلس الكنائس العالمي الذي خصص أكثر من (340) مليون دولار لدعم الأنشطة التنصيرية في آسيا، وهذا ما يزيد حجم الكارثة ويعظم الخطر على الهُويّة الإسلامية لهذه البلدان.
اختراق صهيوني:
وقد نبهت الكارثة أيضاً على المساعي الصهيونية لاختراق هذه المنطقة الحيوية حيث تسعى المخابرات الصهيونية لإيجاد مواطئ قدم لها في سيريلانكا وإندونيسيا والمالديف، وهي الدول التي استعصت كثيراً على الطموحات الصهيونية. ورغم الصفعة التي تلقتها إسرائيل برفض سيريلانكا السماح لوفد طبي إسرائيلي بدخول البلاد إلا أن إسرائيل لم تيأس وتواصل جهودها المستميتة لتحقيق مآربها، ورغم أن الكثيرين قد امتدحوا الخطوة السيرلانكية الرافضة للتطبيع مع إسرائيل إلا أن العالمين ببواطن الأمور يدركون أن دعم الصهاينة لنمور التأميل وإنشاء معسكرات لتدريبهم في الهند والتآمر على النظام في سيريلانكا كان السبب الرئيس في هذه الخطوة وليس تعاطفاً مع القضايا العربية ومأساة الشعب الفلسطيني، وعلى أية حال فإن العالم العربي قد غاب تماماً عن هذه الكارثة إلا مساعدات رمزية لا تسمن ولا تغني من جوع.
حصار العمل الخيري:
الغياب العربي والإسلامي عن مساعدة هذه الدول المتضررة من كارثة العصر يضرب الأمن القومي العربي في مقتل حيث إن هذه الدول تُعد الفضاء الخلفي المهم لعالمنا العربي، وهذا ما يحذر منه السفير علي حجازي مساعد وزير الخارجية السابق للشؤون الآسيوية الذي أوضح أن هذا الغياب يعطي فرصة ذهبية للصهاينة والأمريكان للسيطرة التامة على هذه البقعة الحيوية من العالم، وهو أمر كان يسعى إليه الطرفان منذ عقود عديدة، مشيراً إلى تنامي خسائرنا الاستراتيجية في هذه المنطقةº فالأمس خسرنا الصين فالهند واليوم تتوالى الكوارث على أمننا القومي حتى إننا نرفض التعاطي مع أي إشارات إيجابية مثل الخطوة السيرلانكية ونتعامل معها بأسلوب قاصر يجعل هذه الدول تندم على أي خطوة مؤيّدة لحقوقنا ولا تفتأ تفتح أبوابها لأجهزة الدول المعادية لنا..
وشدّد "حجازي" على أن الدول العربية حاصرت العمل الخيري العربي والإسلامي تنفيذاً لتعليمات واشنطن، وكان يمكن لهذه الدول أن تقدم دعماً حكومياً يلزم الجمعيات الخيرية باتباع أساليب تتمتع بالشفافية والانضباط لتلافي الاتهامات الأمريكية.. أمر مهم حذّر منه السفير حجازي ألا وهو أن هذا الغياب العربي يفتح الباب واسعاً أمام منظمات التنصير لاختراق هذه المجتمعات المسلمة في آسيا، ويعطي هذه المنظمات الفرصة لتنفيذ أجندتها الساعية لتنصير أكثر من 50% من مواطني هذه الدول، وهي المخططات التي فشلت رغم رصد ملايين الدولارات لتنفيذها، ولكن أعتقد أن الغياب العربي والإسلامي في (تسونامي) سيعيد ضخّ الدماء في عروق المنظمات التنصيريّة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد