بسم الله الرحمن الرحيم
عن محنة الثمانينات الرهيبة التي مر بـها الشعب المسلم في سوريا، صدر مؤخراً كتاب "تدمر شاهد ومشهود" يحكي قصة طالب أردني كان يدرس الهندسة في دمشق، حينما تم اعتقاله من أمام كليته، ليختفي عن الأنظار إحدى عشرة سنة كاملة، أمضى معظمها في سجن تدمر العسكري سيئ السمعة، شاهداً على ممارسات من الإرهاب الموتور ضلعت به أجهزة النظام السياسية والأمنية معاً، فطالت أرواح مئات من خيرة أبناء الشعب السوري، قضوا على أعواد المشانق أو تحت سياط الجلادين، ومعهم ألوف لا تكاد تحصى ممن طالت عليهم السنون أسرى القيد والمحنة، حتى نسيهم العالم أو كاد!
"تدمر شاهد ومشهود" سجل يكاد لم يُسبَق، بسعته، وتفاصيله، والكم الهائل من الوقائع والشواهد والأسماء والتواريخ التي عاشها "محمد سليم حماد" بين الأعوام 1980 و1991 وتذوق مع عدة آلاف من السجناء مرارتـها، وفظاعتها، وتنقل بين فصولها الرعيبة، وحلقاتـها المفجعة، فكان العمل بحق "شاهداً" على صفحات دامية من محنة سوريا المسلمة، وكان كل حدث "مشهود" وثيقة جديدة تدين الأيدي التي انسلخت من آدميتها، وفاقت في ممارستها وحش الغاب فظاعة، وقسوة، وتعطشاً للدماء!
يتعرض الكتاب في فصوله الأولى إلى مشاهدات صاحبه في قيادة فرع مخابرات "العدوي" حيث كانت بداية الاعتقال، والذي سرعان ما تحول فيه إلى مجرد رقم، لا اسم ينادى به غيره، ولا إشارة تدل من غيره عليه، ثم بدأت مراحل التحقيق، حيث عُري "محمد" كيوم ولدته أمه، وتم تخصيص وجبتين من العذاب اليومي لازمتاه طوال أسبوع كامل، كاد خلالهن أن يقضي نحبه غير مرة، وأصيب من جرائها بما يشبه الشلل في معصميه من اثر القيود دام معه لعدة شهور تلت، وقدّر أن وزنه انخفض خلال ذاك الأسبوع وحده خمسة عشر كيلوا غراماً!
إلى "فرع مخابرات التحقيق العسكري" تم نقل "محمد سليم" كخطوة تالية، تتابع فيها التعذيب وتنوعت مشاهد الرعب، ففي مهجع لا تزيد مساحته عن مساحة غرفة عادية، حشر السجانون قرابة المائة معتقل، كانوا ينامون بالتناوب، تقاسمهم المكان أسراب القمل الفتاكة وعدد لا يحصى من الجرذان التي يقسم أن واحدها بلغ حجم القط! فلما انتهت تلك المرحلة كانت الرحلة التي أنست هذا الشاب والذي ارتحلوا معه عذاب الأيام الأول، حينما تم نقلهم في ليلة كئيبة بالغة البرودة إلى سجن تدمر الصحراوي، حيث أمضى "محمد سليم" سنوات حياته العشر التاليات، يشهد الإعدامات الجماعية، والقتل المتعمد، والتعذيب المتواصل، والجوع، والأمراض الداهمة من سل ويرقان وجرب وذبحات صدرية وانـهيارات نفسية لم يعد يستطيع أن يعد ضحاياها.
ويتحدث "محمد حماد" فيما تحدث في كتابه عن قوائم الإعدامات الجماعية، وكيف كان الجناة ينتزعون إخوة له من زملاء مهجعه فيسوقونـهم إلى منيتهم، وكيف تمكن غير مرة من أن يراهم من ثقب في الباب يهوون تحت المشانق واحداً تلو الآخر، بينما يقبع هو ومن ينتظرون أن يكون دورهم التالي، فإذا انقضت الوجبة من غيرهم يترقبون الوجبة التالية وكل يحسب أن الدور القادم عليه.
ويطوف الكتاب بنا في مشاهد لا تكاد تصدق من شناعات التعذيب، وصفاقة الجلادين، ودموية الحرس، لا يكادون يفوتون فرصة من غير أن يريقوا الدماء أو يفجروا صراخات العذاب والألم. وكان أسهل ما على هؤلاء الوحوش أن يتلقوا خبر وفاة أحد السجناء فلا يزيدون عن أن ينادوا مسؤولي النظافة داخل السجن ليرموه في القمامة وينتهي الأمر! ولقد أحصى الكاتب في ختام الكتاب قرابة السبعين اسماً ممن تأكد من إعدامهم وتيقن من وفاتـهم، ومعتذراً عن ذكر المزيد ممن فاته أسماؤهم أو مسحته من الذاكرة يد النسيان.
كذلك لم يفت صاحب هذا العمل أن يرصد حالة الصف الإسلامي الذي أتى المعتقلون منه، ويبصر من خلال المحنة مواقع السلب في هذا الجسد الذي استهدفته حرب شرسة ما استعد لها حق الاستعداد. لكن ما لا يصدق بحق أن "محمداً" وكثيراً من هؤلاء الشباب العامرة قلوبـهم بالإيمان لم تحل فظاعة محنتهم بينهم وبين كتاب الله الكريم، فكانوا يتناقلونه مشافهة فيما بينهم، ويحفظونه واحداً عن واحد بالهمس والإشارات، وحتى أتم هو حفظ القرآن الكريم عام 1982 فكان وأخ آخر معه أول الحفاظ في مهجهم، ثم تتالى من بعدهم حفظة كثيرون.
"تدمر شاهد ومشهود" كتاب وثيقة يسلط الضوء على أحداث سورية المسلمة، وعلى تجربة إسلامية معاصرة تـهم كل عامل في حقل الدعوة ومهتم بمسيرة التغيير، لكن القضية بمجملها تظل بحاجة إلى مزيد من الأعمال، ومزيد من الأضواء، لتنكشف حقيقة الفاجعة، ويرتفع عن الجلادين رداء الزيف، وترفع عن سجل الضحايا الحجب، وليأخذ الفصل الجديد من صراع الحق والباطل مكانه في سجل التاريخ.
شاهد ومشهود:
في عام 1980 توجه الشاب "محمد سليم حماد" من بلده في الأردن إلى سوريا لغرض الدراسة في جامعة دمشق، وكأي شاب طموح كان "محمد" يأمل أن يحوز على شهادة علمية تسعد أسرته، وتعود عليه بالفائدة في حياته العملية..
لم يكن الشاب "محمد" قد أتم العقد الثاني من عمره عندما وجد نفسه محاطاً بأجواء مشحونة بالمواجهة في بلد ينتفض فيه شعبه من أجل نيل حرياته الإنسانية الأساسية، ولم يسبق لهذا الشاب أن خاض تجربة العمل السياسي، كما أنه لم يمارس أي نوع من الأنشطة المناوئة للحكومة السورية، غير أن الأخيرة وجدت أن علاقة "محمد" بمحيطه الطلابي ومعظم أفراده من الفتيان السوريين المناوئين للحكم الشمولي المغلق كافية لاعتقاله وإلقائه في غياهب سجن تدمر الصحراوي مدة 11 عاماً دون محاكمة.
وفى كتاب أصدره عام 1998 تحت عنوان"تدمر.. شاهد مشهود" يروي "محمد سليم حماد" تجربته القاسية في السجون السورية، وهي معاناة تلخص ما يواجهه آلاف المعتقلين السوريين والعرب (من لبنان وفلسطين والأردن والعراق...)، والذين يرفض الحكم السوري الإقرار بوجودهم في معتقلاته، كما لم يستجب لأي مناشدات للإفراج عنهم، لغرض التخفيف عن أسرهم وعائلاتـهم المنكوبة بفقدانـهم منذ سنوات طويلة.
يقول "محمد" في كتابه الذي يقع في 245 صفحة من القطع المتوسط إن تعرضه للتعذيب العنيف بدأ مع اعتقاله فى فرع قيادة المخابرات في منطقة العدوي بدمشق، حيث حل رقم (13) محل اسمه، ونزعت عنه ملابسه، وأمره المحققون بأن يجثو على ركبتيه مطأطئ الرأس ليجيب على أسئلتهم وسط ضرب مبرح، وتـهديدات بالقضاء عليه.
ويضيف "محمد" الذي لم يكن بوسعه الإقرار بما يطلب منه أنه نقل بعد ذلك إلى غرفة مخصصة للتعذيب أسفل قبو مظلم، حيث علق بالحبال في سقف الغرفة وهو مجرد الثياب، ثم انـهال عليه الجلادون بالضرب بأسياخ النار وكبلات الكهرباء والعصي، واندفع هؤلاء إلى استخدام اللسعات الكهربائية في مناطق حساسة من جسمه مهددين إياه بالموت ما لم يعترف بما يطلب منه.
وبعد تلك الجولة من العذاب التي تعرف بلغة الجلادين "الشبح "، نقل "محمد" إلى تعذيب من نوع آخر يدعى "بساط الريح "، وهو لوح من الخشب يشد المعتقل إليه بواسطة قطع حديدية، ثم يرفع نصفه، حيث يبدأ الضرب على القدمين بكبلات معدنية، وأسلوب آخر يعرف بـ " الكرسي الألماني " وهو كرسى ذو أجزاء متحركة يوثق المعتقل إليه من ذراعيه وساقيه ثم يسحب مسنده الخلفي إلى الوراء، ساحباً بذلك الجذع الأعلى معه، فيما تظل قدماه مثبتتان من الجهة الأخرى، فيتركز الضغط على الصدر والعمود الفقري، مما يؤدي إلى تـهتك العمود الفقري، والإصابة بالشلل لاحقاً.
ويروي الشاب الأردني "محمد سليم حماد" في كتابه أن جولة التعذيب التي تعرض لها أثناء اعتقاله لم تكن سوى مرحلة أولى ضمن طريق مضن يسلكه المعتقلون السياسيون في سوريا، فقد نقل "محمد" بعد ذلك إلى فرع التحقيق العسكري بدمشق، حيث أخضع لجولات جديدة من التعذيب القاسي الذي يشمل الصعق بالكهرباء، والكي بالنار، والجلد والشبح.
ويعتبر سجن تدمر الذي أقيم زمن الاستعمار الفرنسي لتعذيب المجاهدين ضد الاحتلال الأسوأ سمعة بين السجون والمعتقلات السورية، ويعتبر التعذيب جزءا من منهجية الاعتقال، حيث يبدأ منذ اللحظات الأولى لوصول المعتقل وهو معصوب العينين، ويختتم بوفاته، أو الإفراج عنه وهو أمر نادر كما تشير الوقائع. ويعدد المعتقل الأردني " محمد سليم حماد" أساليب التعذيب التي تعرض لها أو شاهدها في سجن تدمر، على النحو الآتي:
1- التعليم: وهو انتقاء واحد من المعتقلين بشكل عشوائي، حيث يتم تعريضه لوجبات قاسية من العذاب إلى أن يقضي نحبه، وبذلك يكون عبرة لغيره من المعتقلين.
2- الدولاب: حيث يوضع المعتقل داخل دولاب مطاطي، وترفع قدماه في الهواء، بحيث ينهال عليه الجلادون بالسياط، وبعد ذلك تربط القدمان بسلسلة من الحديد تمنعهما من التحرك، ويلي ذلك انقضاض على المعتقل بالضرب والركل، إلى أن تسيل الدماء منه.
3- المراقبة الدورية: في المهجع الذي يكتظ بالمعتقلين، وهو عبارة عن غرفة مستطيلة تحتوي دورة مياه وحمامين، وفي السقف فتحتان مغطاتان بقضبان حديدية، ويقوم عناصر المخابرات والشرطة العسكرية بالتعرض للمعتقلين كافة أو انتقاء واحد منهم، كلما طلب بدء جولة جديدة من ا لتعذيب.
4- التفقد: وهو عملية الإحصاء اليومي للمعتقلين، حيث تصاحبه على الدوام عمليات ضرب وسب وجلد، ولا يسمح للمعتقلين بالنوم إلا على بطانيات بالية، لا تتيح لهم الوقاية من برد الصحراء القارس.
5- التنفس: حيث يعمد الجلادون إلى استغلال اللحظات التي يخرج فيها المعتقلون إلى باحة السجن، للانقضاض عليهم بالضرب بواسطة العصي والكبلات، ومنعهم من التحدث إلى بعضهم، ويعتبر الطعام المقدم إلى المعتقلين جزءاً من عملية الإساءة التي تتميز بـها المعتقلات السورية، وخاصة سجن تدمر الصحراوي، وتتميز الأطعمة في غالب الأحيان بأنـها فاسدة، وتسبب الأمراض المعوية للسجناء، وفي بعض الأحيان يؤمر المعتقلون بأكل الذباب والصراصير والفئران الميتة تحت التهديد والوعيد.
6- الحلاقة: يؤمر المعتقل بالجلوس جاثياً أمام الحلاق وهو أحد جلادي السجن، حيث يقوم " الحلاق " باستخدام موسى جارحة مع الضرب والشتم، وغالباً ما يتسبب العمل بإصابة المعتقل بجروح غائرة في الرأس والوجه.
7- الحمام: حيث يخرج المعتقلون إلى باحة السجن، وينهال عليهم الجلادون بالضرب والجلد، ثم يساقون إلى مقصورات ضمن مجموعات تضم كل واحدة نحو ستة معتقلين، ويوضع هؤلاء تحت رشاش يطلق ماءً بارداً، وهم ينـزعون عنهم ملابسهم.
ويصف "محمد" في كتابه الأجواء الرعيبة التي تخيم على معتقل تدمر، وعملية الإعدام المتواصلة للسجناء السياسيين، إلى جانب وفاة عدد منهم نتيجة إصابتهم بأمراض خطيرة، لم تتخذ السلطات لهم فرصة الحصول على العلاج في المشفى، والمحاكمات الصورية التي يقوم بـها ضباط الأمن والمخابرات، حيث تصدر أحكام عشوائية تتصف بالقسوة استناداً إلى اعترافات تم انتزاعها تحت التعذيب، ورغم هذه الصورة المقيتة، فقد أرغم الجلاوزة السجناء وغالبيتهم من طلبة الجامعات على التصويت بـ "نعم" خلال حملة إعادة انتخاب الرئيس حافظ الأسد لولاية جديدة في الحكم عام 1991، ويقول "محمد" إن الجلادين أجبروا المعتقلين على كتابة كلمة "نعم" بدمهم إمعاناً في القسوة.
ويسلط الكتاب/ الوثيقة مشاهدات عدد من المعتقلين أثناء مجزرة سجن تدمر فى 27 مايو 1980 عندما أقدمت سرايا الدفاع بقيادة شقيق الرئيس "العقيد رفعت الأسد" على قتل ما يربو على 600 معتقل ودفنهم في مقابر جماعية شرق بلدة تدمر.
إن محمد الذي ما زال يعاني من آثار سنوات اعتقاله الطويلة، يتقدم بالمناشدة إلى هيئات حقوق الإنسان ومناصري الحريات العامة لبذل كل ما يستطيعونه من الضغط على الحكومة السورية للإفراج عن المعتقلين السياسيين لديها سواء كانوا سوريين أو غير سوريين، وإرسال لجنة لتقصي الحقائق إلى سجن تدمر، للوقوف على عمليات التعذيب التي تتم داخله، ومطالبة الحكومة بالكشف عن أسماء الذين توفوا تحت التعذيب، ومحاكمة الأفراد والمسؤولين الذين تسببوا في تلك الحوادث، ووقف كافة أشكال انتهاك حقوق الإنسان في سورية...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد