همجية التعذيب لا تنتهي عند أبو غريب


بسم الله الرحمن الرحيم

 

 في مقال له نشرته صحيفة (ليبراسيون) الفرنسية الشهيرة بتاريخ 13 مايو 2004 كتب عالم الاجتماع الفرنسي ميتشل ويفيوركا تحت عنوان "الاستراتيجية العسكرية العقلانية لا تبرر التعذيب" طرح خلاله عددًا من التساؤلات الاستنكارية بشأن ما يمكن أن يبرر به الاحتلال الأمريكي ممارسات جنوده الشنيعة ضد سجناء أبي غريب بالعراق، وينتقل الكاتب ليفسر الدوافع النفسية التي قد يرتكب الجنود على أساسها تلك الوحشية، والتي لازمت الأمريكيين في فيتنام والصومال وإفريقيا وأخيرًا في "أبو غريب" العراق بما كشف عن الوجه القبيح لحرب سوقت على أنها "معركة الخيرين ضد الشر" على حد تعبير ويفيوركا.

 

الوحشية وتساؤلات حائرة:

يقول الكاتب الفرنسي: "هكذا كان الاحتلال الأمريكي والبريطاني للعراق مصدرًا لفضائح هائلة، تغطي فيها الأدلة الجنود وقادة الاحتلال.. فقد جاء التعذيب ليضيف إلى الورطة السياسية والعسكرية سمعة أخلاقية سيئة لحرب قدّمت في البداية على أنها معركة الخيرين ضدّ الشرّ، فكيف سيتم تبرير الاستعانة الواضحة بهذه الأعمال الوحشية؟!

قد تعتمد التبريرات عامة على توظيف أشخاص للتعذيب مع التمهل في تحديد مستوى المسؤوليات، فهل تظهر الوحشية عفويًا كوسيلة بين مجموعة من الوسائل لإنهاء بعض المهام، كالحصول على معلومات- على سبيل المثال- لن يتم الحصول عليها بطرق أخرى؟ ألم يقننونها من خلال استراتيجية معينة؟ أم كانت في الحسبان لكن لم يرد لها القادة العسكريون أن تأتي مبكرًا لحين أن يكون استخدامها حتمي ومفيد؟.. قد يستطيع أحدهم أن يفند الأمور منطقيًا- بهذه الطريقة، لكن تلك الحسابات لا توضح كل شيء.

فلماذا هو ضروري إيجاد مكان في هذه الأعمال الوحشية، لحسابات العنف مقابل العنف؟ فلماذا يطلق هكذا عندما يأخذ التعذيب أبعادًا غير دوره الفعّال ليصبح سادية، وعندما يكون الاستمتاع ملازمًا للقسوة بشكل واضح، وعندما تكون المسألة تدمير سلامة البشر، إن لم يكن جسديًا فعلى الأقل أخلاقيًا من أجل المتعة؟

ولماذا إضافة لكل ذلك- يتم تصوير تلك اللحظات الأكثر قبحًا، حيث يُحَط من شموخ الضحية، متى يصبح الإذلال جنسيًا، ويقلد أحدهم الجريمة، ولماذا كانت ضرورية تلك المسرحيات التي هي بمثابة وثائق تبين من المذنب، وأيضًا تبين متعته بالتعذيب؟ وتاريخيًا حدث ذلك أن سعى الضحايا لتوثيق عملياتهم الاستشهادية بالصور ومن ثم نشرها فهم يجتهدون جدًا في ذلك، إلا أننا هنا وفي واحدة من تجارب السادية المتقنة نجد مرتكبي التعذيب هم المصدر الأصلي للصور.

 

همجية أمريكية:

إنّ الحرب "الوقائية" ملائمة لمثل هذه التجاوزات التي لا تتجنبها الجيوش، حتّى لو انتسبت لبلدان الديمقراطية. وعلى هذا، تم تكريس القوّات الأمريكية في التاريخ المعاصر باستمرار لانتزاع الأشياء عنوة والابتزاز في أوقات الحرب.

ومثلما يبين جون دبليو دوير في كتاب رائع عن الحرب العالمية الثانية في المحيط الهادي كيف أن الجنود الأمريكان اغتنموا آذان، وأسنان وفروات رؤوس وجماجم من أجساد ضحايا الحرب، يقول أيضًا الطيار الأمريكي الشهير تشارلز ليندبرج في شهادته مع آخرين، أنه أثناء بضعة أشهر، مكثتها القوّات الأمريكية في غينيا الجديدة كمراقب مدني، كتب في الصحف الأعمال الوحشية التي ارتكبها الجنود، وأشار إلى أنه عند عودة الجنود في هاواي، سألهم موظفو الجمارك إن كانت القوات أعادت أعضاء إنسانية في أمتعتها؟!! وأخبره أحدهم بأنه "سؤال روتيني".

وفي حادث ينسب للقوات الأمريكية وقعت في مارس من عام 1968 مذبحة ماي لاي في فيتنام، تلك الحادثة الفظيعة التي ارتكبتها وحدة أمريكية بتلك المدينة، وطالت المذبحة الأطفال الرضع، وقد تواجد مصور صحفي في مسرح الأحداث ونقل الأمر بالصور فورًا للرأي العام مما جعل الفضيحة محتومة. وهنا تحضرني صور 1993 من مشاهد الإذلال الذي لحق بالقوّات الأمريكية في الصومال، قبل أن تطرد منها؟

 

دوافع نفسية:

ففي المحيط الهادي وفيتنام والصومال والعراق، نبعت الوحشية من ثلاثة دوافع ولكن بدرجة مختلفة من تجربة إلى أخرى وهي:

أولاً: عقيدة الإفلات من العقاب.. وهي أن الأشخاص في موقع المسؤولية -حيث تقع المذابح- إن لم يشجعوا عليها فهم على الأقل يغمضون أعينهم بما ينتفي معه نظريًا- وجود شاهد على الجريمة.

ثانيًا: التمهيد للتكيف.. وهو إعداد الجنود لحيوَنَة العدو وتجريده من إنسانيته، واستخدام التمييز العنصريº فالصور التي عرضت للتعذيب قدمت شخصًا أقل من إنسان (كحيوان) وفي نفس الوقت قدمت لنا إنسان كامل بطاقة شيطانية متوحشة "جنسية" على سبيل المثال.

هكذا، في العراق، أليست المعركة التي نفّذت ضدّ العرب والمسلمين، تحولت بسرعة لعنصرية؟

ثالثًا وأخيرًا: الخوف.. فمن الملائم أن يكون الخوف طريق لوحشية الجنود، الذين يجدون أنفسهم وضعوا بشكل سيئ في بيئة عدائية، مشؤومة، حيث ينهمك الحزب المعادي في القتال بدون رحمة، حتى ولو من خلال العمليات الاستشهادية، فالقسوة التي ترتكب ضد السجناء تقلل ولو جزئيًا من الورطة ومن ثم تستحوذ الوحشية على مرتكبها.

ومهما وجدت دوافع ملائمة للوحشية إلا أنها لن تكون كافية لتوضيح بعض سماتها، والتي قد تكون غامضة في حد ذاتها بما تشتمله من أبعاد المتعة والسادية.

 

وسقطت الأقنعة:

والآن كيف لنا أن نستجوب أشخاصًا بدوا أحرارًا في عمليات الاغتصاب والوحشيّة، والتي ارتكبت فقط لإذلال وإخزاء الضحيّة؟ هذا ليس مطلب جنون أو هذيانº فهناك حالات تعذيب كثيرة جدًا أخبر عنها وهي متنوعة، فمن الأفضل الاتجاه لنقاش ينضم إليه الجاني والضحيّة، ليسردوا تفاصيل تلك الانتهاكات من البداية.

فحول هذه النقطة يتحدث بريمو ليفي في كتابه الأخير محددًا بعض خطوط حاسمة، ومتعجّبًا من وحشيّة حرّاس النازيين، يقول: "أحد العناصر الضرورية للهتلرية تستند على مبدأ يقول: "قبل موت، الضحيّة يجب أن تنهك لكي يشعر القاتل بدرجة أقل من الخطأ"، دعنا نعمّم هذه الفكرة: عنف للعنف، والأمر يتعلّق هنا بآلية تشجع على إنجاز مهمّة لا إنسانية، وإعداد الجنود لكي يعهد إليهم بها.. أن يكونوا قادرين على دعم أنفسهم.. وأن يحتفظوا بصورة ما عن الإنسانية، تجعلهم يعاملون الضحية على أنها ليست آدمية، أو كحيوان أو كشيء جامد، فالسجين طبقًا لوجهة النظر هذه يجب أن يضعف، لانتزاعه من إنسانيته بما يدفعه لمواصلة التفكير في نفسه على أنه مجرد شيء.

فالنتيجة سيئة لحرب أريد لها أن تكون صراعًا أخلاقيًا قبل أن يصبح عسكريًاº فجنود الخيّرين في الأرض "الأمريكان والبريطانيين"!! تحالفوا مع الشر ولم يبقَ لهم أي صلة بالديمقراطية ليكون لهم تأثير في الآخرين.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply