بسم الله الرحمن الرحيم
عندما تهبط بك الطائرة في مطار سراييفو هذه الأيام سوف يتبادر إلى ذهنك أن الأحوال قد تبدلت بعد خمس سنوات فقط من توقف الحرب الإجرامية التي شنها الصرب والكروات ضد المسلمين.. ولكن من الأفضل أن يتريث المرء كثيرًا قبل أن يطلق لخياله العنان ويتوهم أن البوسنة والهرسك تجاوزت أهوال تلك السنوات العجاف فما تراه العينان ليس أكثر من طلاء زائف لواجهة منزل يعاني أهله ويلات مشاكل طاحنة..
فالواقع أن نزيف الدماء قد توقف ـ إلى حين ـ لكن الجراح الغائرة لم تتماثل بعد للشفاء.. وقد كان هذا هو الانطباع الأول الذي تأكدت منه خلال ساعات فقط من دخولي العاصمة البوسنوية في زيارة قصيرة أواخر شهر أغسطس الماضي.
لقد صار للقوم مطار دولي صغير تستخدمه طائرات قوات حفظ السلام الدولية مع طائرتين صغيرتين هما كل ما تملكه الخطوط الجوية البوسنية فضلاً عن رحلات منتظمة لعدد محدود من الخطوط الدولية للبلاد المجاورة والقريبة من البوسنة والهرسك.. وتم بناء صالتين صغيرتين إحداهما للوصول والأخرى للسفر.. ومهما كان الأمر فالوضع أفضل بكثير من أيام الحرب عندما كانت البوسنة والهرسك محاصرة من جميع الجهات.. ولم يكن مطار سراييفو ـ في ذلك الوقت ـ إلا أطلالاً تنعى من بناها.. وبالكاد كانت طائرات الأمم المتحدة تستخدم ممر الهبوط والإقلاع ـ اليتيم ـ بلا أية تجهيزات أخرى من تلك المتعارف عليها.
وتخرج من المطار فتجد عددًا من سيارات التاكسي ـ كانت نادرة أيام الحرب ـ كما تلاحظ أن آثار الخراب ما زالت تعلو عشرات المنازل القريبة في منطقة المطار، وإن كان القوم قد أعادوا رصف الشوارع الرئيسية وأقاموا الكثير من المنشآت العامة عوضًا عن تلك التي محتها قنابل الصرب من الوجود.. كما أعيد بناء عشرات من المدارس والمساجد أو ترميمها وهذا كله دليل على تحسن ملحوظ في أحوال العاصمة وباقي المناطق ولكن عندما تدخل بيوت عامة المواطنين سوف تطالعك حقائق أخرى لا سبيل إلى تجاهلها.. مثلاً البطالة التي تطحن الكثيرين من مسلمي البوسنة، فهي تأتي على رأس المشاكل التي تحتاج أعوامًا من العمل الشاق والكثير من الإمكانيات ـ المفتقدة حاليًا ـ لتخفيف حدتها..
فمعظم المصانع تم تدميرها خلال الحرب وهذه كانت تستوعب عشرات الآلاف من العمال.. وما لم يدمره الصرب من آلات الصناعة الثقيلة قاموا بسرقته وتفكيكه ونقله إلى المناطق الصربية.. ومن أشد الأمور إيلامًا للنفس أن ترى شبابًا في عمر الزهور أبلوا بلاءً حسنًا في الحرب الإجرامية التي فُرضت على المسلمين، وهم يجلسون في مساحات المساجد أو على المقاهي أو يضربون في الشوارع على غير هدى لمجرد قتل الوقت الثقيل بعد أن عجزوا عن الحصول على عمل ـ أي عمل ـ وأغلبهم يعول أسرًا بحاجة إلى الطعام والدواء والكساء.. إلخ.
وهناك أعداد كبيرة من العجائز والمسنين الفقراء الذين فقدوا الأبناء والأحفاد في أتون الحرب، ولا عائل لهم الآن في هذه الفترة الصعبة من العمر التي يعجزون فيها عن الكسب، فلا يصرف لهم أية معاشات من خزينة الدولة الخاوية وحتى أطفال الشهداء والأرامل يتقاضون مبالغ زهيدة لا تكفي للنفقات الضرورية، ولولا المساعدات التي تقدمها هيئات الإغاثة لهلك هؤلاء المساكين جوعًا في وسط الأطلال..
ويكفي أن نذكر بعض الأرقام لكي تتضح الصورة أكثر.. فابن الشهيد يتقاضى شهريًا خمسين ماركًا (المارك الألماني يساوي المارك البوسنوي الآن في القيمة تقريبًا) وهو مبلغ زهيد يكفي بالكاد لشراء لبن للطفل طوال الشهر!! المصاب الذي تركت له الحرب عاهة مستديمة يحصل على مساعدة شهرية قدرها مائة مارك فقط وهي لا تكفي لمجرد إطعامه فضلاً عن آية نفقات أخرى للمسكن والملبس وفاتورة الغاز والكهرباء والمياه الملتهبة مثل أسعار معظم السلع الضرورية. ولهذا ليس غريبًا أن تسود الأسواق حالة من الكساد لا تخطئها العين.
وحتى أولئك الذين أسعدهم القدر بالحصول على عمل يضجون بالشكوى من تواضع المرتبات بالمقارنة مع تكاليف الحياة الغالية في هذا الجزء من قارة أوروبا.. عامل بأحد المساجد ـ على سبيل المثال ـ يتقاضى مائتين وثلاثين ماركًا فقط شهريًا وهو يعول أسرة مكونة من أربعة أفراد..
عامل النظافة في شوارع سراييفو يحصل على مائتي مارك فقط كل شهر.
راتب الطبيب حديث التخرج ثلاثمائة وخمسون ماركًا شهريًا، أما القاضي فهو أفضل نسبيًا إذ يحصل على حوالي ثمانمائة مارك شهريًا، وكذلك ضابط الجيش من ذوي الرتب المتوسطة إذ يتقاضى سبعمائة وخمسين ماركًا شهريًا..
وهناك عدد محدود من العائلات أسعد حالاً، وهي تلك التي يعمل أحد أبنائها في إحدى الدول الأوروبية الغربية فهؤلاء يتلقون تحويلات مالية لا بأس بها من ذويهم بالخارج تكفيهم مئونة العيش وذل الحاجة..
ومما يضاعف المعاناة أن المساعدات الخارجية قد انكمشت إلى حد كبير بعد توقف القتال وبدء تطبيق اتفاق دايتون منذ خمس سنوات..
هذه لقطات سريعة عن الأحوال الاقتصادية في البوسنة والهرسك.. وهي أحوال متوقعة وتحدث عادة في كل الدول التي تخوض حربًا طاحنة مسعورة مثل تلك التي اندلعت في البلقان..
وإذا كنا لا ننكر جهود لجان الإغاثة العربية والإسلامية، إلا أنها ليست كافية، ونرجو أن يوفق الله إخواننا القادرين من المسلمين والعرب إلى مضاعفة تلك الجهود والمساعدات المشكورة والمأجورة بإذنه - تعالى -: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}..
ورغم صعوبة المشاكل والتحديات الاقتصادية إلا أنها ليست كل ما يعانيه أهل البوسنة والهرسك.. ولعل المولى يأذن لنا بتناول الأحوال السياسية والاجتماعية هناك في مقال قادم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد