طريق التحرير يبدأ من الشعوب وينتهي عبر الأنظمة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مرت قبل أيام ذكرى أبشع هزيمة عسكرية تعرض لها العرب على مدار تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي الممتد على مدى أكثر من نصف قرن منذ قيام الكيان الصهيوني المسمى دولة إسرائيل على أرض فلسطين المغتصبة وهي الهزيمة التي باتت تعرف اختصارًا في القاموس السياسي والإعلامي العربي بنكسة 1967م.

هذه الحرب الخاطفة التي هزمت فيها جيوش عدة دول عربية مجتمعة في ساعات واستولى فيها الكيان الصهيوني على أجزاء من أراضي تلك الدول وهي سيناء المصرية والجولان السورية والضفة الغربية وقطاع غزة اللتان كانتا تحت السيادة الأردنية ثم أخيرًا وأولاً القدس الشرقية لم تكن نتائجها مجرد هزيمة عسكرية مدوية لجيوش عربية وإنما كانت هزيمة وسقوط لنظام سياسي وأيدولوجيات وشعارات ظلت تقتات لنحو عقدين من الزمن على تلك الشعارات وتغذي وجودها وفي المقابل تخدر عبرها الجماهير العربية من المحيط الثائر إلى الخليج الهادر.

سقطت الشعارات والأيدلوجياتت المستوردة من الشرق والغرب بعد أدلجتها وإعادة تأطيرها وخلعها من رحمها الذي نشأت فيه وهو الشيوعية تارة والماركسية تارة أخرى وإعادة تسميتها بالاشتراكية الديمقراطية أحيانًا أخرى هذا الخلع أو الخُلع جاء بهدف التمويه على الجماهير العريضة قليلة الخبرة والوعي في ذلك الوقت بالأيدلوجيات والتي كان يجمعها ويثوّرها بيان عبر إذاعة صوت العرب ويفرقها عصًا بحيث لا تتناقض هذه الشعارات مع عقائدها وثوابتها التي استقرت في وجدانها والمستمدة من شريعة الإسلام بل إن منظري هذا العصر ذهبوا في سياق التمويه والخداع إلى حد اعتبار أن الرسول الأعظم هو إمام الاشتراكيين!! هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كان هدف تلك الشعارات إيجاد سند وشرعية لهذه الأنظمة الثورية العسكرية للاستمرار في الحكم الذي استولت عليه ومن أنها لم تأت فقط للقيام بثورة وإنما جاءت لتطبق مشروع تنموي تعبوي وبناء وطن قادر على مناهضة الاستعمار الغربي ومحاولته فرض الهيمنة وتحرير أمة من نير الاحتلال الصهيوني الذي اغتصب أرض فلسطين، لا بل بناء وحدة عربية من المحيط إلى الخليج ومشروع إقليمي وحركة عالمية سميت آنذاك حركة عدم الانحياز.

وتحت هذه الشعارات والأيدلوجيات المؤدلجة جاءت ثورة يوليو وقام حكم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر الذي رفع لواء الوحدة العربية والتحرر القومي ومناهضة الاستعمار. وللإنصاف فإن ثورة يوليو بقيادة الرئيس محمد نجيب حررت الشعب المصري من الاستعمار البريطاني وقضت على حكم ملكي فاسد وكان هذا هو الهدف الأساسي من الثورة التي قام بها تنظيم الضباط الأحرار بقيادة نجيب وبعد أن تحقق الهدف جاء وقت تسليم السلطة للشعب الذي تعود خلال العهد الملكي وتحت الاستعمار البريطاني على الممارسة الديمقراطية وطالب نجيب بعودة الجيش إلى ثكناته وتسليم السلطة للشعب بعد أن انتهى دوره إلا أن بعض الضباط بقيادة عبد الناصر أقنعوا نجيب كما روى هو في مذكراته بضرورة تهيئة الأمور أولاً وتولي الرئاسة لفترة انتقالية ريثما يتم ترتيب الأوضاع وكان الترتيب الذي أعد هو إبعاد نجيب ووضعه تحت الإقامة الجبرية في نهاية عام 1954م لتبدأ مصر منذ ذلك الحين حكمًا عسكريًا بقيادة مجموعة من الضباط صغار السن (كان عمر عبد الناصر 34 عامًا حينما استولى على الحكم) لا تملك أي مشروع سياسي أو تنموي أو تعبوي وما حدث من هزيمة مدوية في 1967م كان الدليل الدامغ على ذلك على الرغم من كل التحليلات والاجتهادات والتبريرات لمنظري ذلك العهد وتغليب منطلق المؤامرة الخارجية والتغاضي عن الأسباب الداخلية التي أدت إلى الهزيمة.

لقد امتدت اهتمامات العهد الناصري خارج نطاق الوطن شرقًا وغربًا لمناصرة حركات التحرر والاستقلال من اليمن إلى إفريقيا إلى نيكاراجوا ونسي الناصريون أو تناسوا بناء الوطن القادر على المواجهة وأولى لبنات هذا البناء بناء المواطن الكفء القادر على التفكير والفعل وليس المسلوب الإرادة والعقل والفعل أيضًا وجعله ترسًا في آله كما هي مبادئ الشيوعية التي تمت أدلجتها عبر أجهزة إعلام وتوجيه سياسي جندت لها إمكانات جبارة استنزفت معظم موارد البلد رويدًا رويدًا واستنزفت الموارد الأخرى الأجهزة الأمنية لمحاربة أعداء النظام في الداخل إضافة إلى دعم حركات التحرر والاستقلال في الخارج.

 

ساعة الامتحان للناصرية

وحينما جاءت ساعة الامتحان في 5 يونيو 1967م سقطت كل الأيدلوجيات والشعارات التي خدرت بها الجماهير طويلاً خلال العهد الناصري. لقد أثبتت هزيمة يونيو على المستوى الداخلي أهمية بناء الوطن والمواطن الوطن القادر على الصمود اقتصاديًا واجتماعيًا وبتماسك أبنائه وليس الممزق إلى شرائح وانتماءات سياسية، والمواطن الحر الذي يملك القدرة على المشاركة الحقيقية في بناء الوطن وليس في بناء الأجهزة والتنظيمات، المواطن الذي يملك حقوقه الدستورية والديمقراطية في أنظمة تتيح له الخيارات السياسية لكي يختار وليس قولبته في إطار سياسي واحد وسلب حريته تحت غطاء تأمين النظام والثورة ومن يخالف فهو من أعداء الثورة والمتآمرين على النظام.

لقد كشفت هزيمة يونيو عن مدى الخلل في النظام الناصري الذي صرف جل اهتمامه على بناء الأجهزة والمؤسسات التي تحمي النظام وليس الأجهزة والمؤسسات التي تمثل الأعمدة التي تقوم عليها الدولة لتقوى وتصبح قادرة على مواجهة الأعداء كما كشفت عن مدى الصراع الذي كان يعتمل في داخل النظام بين القيادات العسكرية والسياسية فكل منها مشغول بتجييش الأتباع والمناصرين للسيطرة على الوضع وتثبيت الأركان أما تجييش الجيوش لمحاربة الأعداء فهذا كان آخر الاهتمام ومن هنا سقط الجميع في امتحان 5 يونيو 1967م.

 

آثار يونيو على المنطقة:

لقد تهاوت مع 5 يونيو الشعارات وتراجعت من تحرير فلسطين من النهر إلى البحر إلى مجرد إزالة آثار العدوان الإسرائيلي والسعي إلى تحرير الأراضي التي خسرتها الدول العربية إثر الهزيمة البشعة. لقد أحدثت الهزيمة تحولاً جذريًا في الخطاب السياسي العربي وجرت نكسات وهزائم لا تزال تداعياتها حاضرة حتى يومنا هذا فالأراضي لازالت محتلة أو تحت السيطرة كما في سيناء وآثار العدوان على الرغم من حرب 1973م التي سماها السادات (حرب تحريك) وليس تحرير لازالت باقية؟

إلا أن أهم درس وعته الشعوب العربية وفي مقدمها الشعب الفلسطيني أن الاعتماد على الحكومات لا يجدي نفعًا وأنها يجب أن تتولى مهمة التحرير ومحاربة المحتل الغاصب بنفسها ومن هنا انتفاضة الشعب الفلسطيني الأولى من 1987م ـ 1993م والتي أجهضت عبر دهاليز السياسة بإعادة قطعة من الأراضي المغتصبة من خلال غزة وأريحا أولاً والسماح بإقامة كيان فلسطيني مصطنع بقيادة فلسطينية لإسكات هذا الشعب الثائر.

الدرس الثاني الذي وعته الشعوب العربية وفي مقدمها أيضًا الشعب الفلسطيني أن الجهاد والمقاومة من منطلقات عقدية تقوم على ثوابت الأمة المستمدة من الإسلام وليس من أي أيدلوجيات أخرى هو الطريق الوحيد إلى التحرير والنصر ومن هنا انتفاضته الثانية المستمرة منذ أكثر من ثمانية أشهر وسر استمرارها وهي الانتفاضة التي تغذيها وتقود لواءها حركات إسلامية بالأساس مثل حماس والجهاد.

إن ذكرى حرب يونيو 1967م كانت ولا تزال تحظى بمحاولة إعادة قراءتها بأبعاد جديدة في ظل ظروفها الخاصة حينها ومستجدات الساحة السياسية من يومها إلى اللحظة، ليس بوصفها هزيمة أو نكسة كما سميت وحسب بل على أساس أن طبيعة النكسة قد شكلت نقطة تحول جذرية في مسار الحدث السياسي وذلك من خلال ما ترتب عليه من قطيعة علنية أو مضمرة بين الأنظمة السياسية التي ولدت تلك الحرب في كنفها وتحت مسئوليتها وبين الشعوب العربية التي صدمت بنتائجها وهذا شكل أرضية جديدة لخلق شرعية شعبية مع نهاية الستينات ومطلع السبعينات تعاد على يديها ولادة حركة وطنية عربية جديدة تتجاوز بتوجهها الأيدلوجي وتركيبتها السياسية والاجتماعية وأهدافها وخياراتها وآلية عملها تلك الأطر السابقة للعمل الوطني كما كانت تقتضيها مرحلة مقاومة الاستعمار الغربي المباشر في الخمسينات، ومع ذلك لا زال مناصر والعهد الناصري يبررون خطاياه التي قادت للنكسة بنفس تبريرات الشيوعيين « الخطأ في التطبيق وليس النظرية».

ويرى الدكتور محمد الرميحي أن الهزيمة كانت بالفعل نهاية مرحلة عربية وبداية لمرحلة أخرى جديدة ويضيف لم يكن التغير الذي طرأ على الوضع العربي تغيرًا جزئيًا أو فرعيًا بل جذري شامل سواء في الخطاب السياسي أو على المستوى الميداني وهو أمر لا يزال يفرز تناقضاته حتى وصلنا إلى الدائرة التي نراوح فيها الآن والتي يستعصي بعض تفاصيلها على التصديق فحتى السلطة الفلسطينية نفسها تغير خطابها تجاه العدو وإن كان خطابها لم يتغير بالدرجة نفسها تجاه جماهيرها من الفلسطينيين أو تجاه الجماهير العربية بعامة.

أما محيي الدين اللاذقاني فيرى أننا منذ ذلك اليوم ونحن نصرخ ونبحث عن وسيلة لإزالة آثار النكسة على الأراضي، ناهيك عن آثارها على النفوس. ويضيف «ومما حز في أنفسنا لاحقًا حجم الخديعة فقد رحل القادة الذين طرحوا شعارات إزالة آثار العدوان وتركوا لنا العدوان وآثاره وذيوله بعد أن فرخت النكسة الكبرى عشرات النكسات الصغيرة والكبيرة وأهمها نكسة حرب الخليج التي لم نجد لها إلى اليوم توصيفًا واسمًا يليق بالدمار الذي أحدثته في عقليات الشعوب العربية.

ويشير اللاذقاني إلى مسئولية الأنظمة قائلاً «إن المسئولية الأساسية في النكبة والنكسة وما قبلهما وبعدهما من نكبات ونكسات تقع بالدرجة الأولي على عاتق أنظمة لم تسمح لأحد بأن يفتح فمه ويعبر عن أي رأي أو يشارك في أي قرار وهذا لا ينطبق على أزمنة الحرب. ويرى أن الشعب العربي لم ينهزم لأنه لم يحارب أصلاً وإذا كان هناك وبعد هذا العمر من النكسات والنكبات من يبحث عن اندمال الجراح وإزالة آثار العدوان فإن أول خطوة على ذلك الطريق الطويل تبدأ بمحاولات إعادة الثقة إلى الناس بأوطانهم وأنفسهم وقدراتهم ومستقبلهم. ويُحمّل الإعلام مسؤولية خاصة بالمساهمة بالتضليل والخداع حتى للنخب المثقفة ويشير لو سئلنا ذلك الوقت هل كنا نتوقع أن يستمر الصراع كل هذه السنين؟ كنا سنقول: لا نظرًا لأننا كنا مستشربين آنذاك حتى النخاع بإعلام تلك المرحلة الذي أوحى لنا أن القضاء على الصهاينة نزهة مريحة لن نحتاج خلالها إلا إلى استخدام ربع قواتنا. لقد خدعتنا أنظمتنا وإعلامنا أكثر مما خدعنا العدو ومن الآن وإلى أن يتم إصلاح الجسور بين الأنظمة والشعوب ستظل الجراح تنزف وسنظل معرضين للرسوب في امتحان المواجهة الداخلية والخارجية لأن قرارنا السياسي يفتقر إلى المصداقية وخطابنا الإعلامي لم يتحرر من آفات التهويل والكذب والنفاق.

هذه شهادة اثنين من كبار المثقفين ممن عاشوا تلك الفترة ختمنا بها للتأكيد والتأييد فقط.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply