مودة تسمو على الألم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

طلع النهار شاحباً موشحاً بسواد الدخان الذي غطى أرجاء المخيم المنكوب بعد أيام المحنة العمياء، التي خلفتها آلة الحرب العسكرية الصهيونية البغيضة.

كان الدمار الهائل مروعاً، يثير كوامن المعاناة والألم، ويحرك مشاعر الرغبة في الانتقام.

تناثرت الجثث في الطرقات في مشهد مأساوي يعبر عن حالة الحرب غير المتكافئة.. ظلت أنات الجرحى تنبعث من بين الركام هنا هناك.

بدا الذهول على وجوه أولئك الذين نجوا من الموت، وخرجوا من تحت الأنقاض، وانتشروا في الطرقات يبحثون عن أقاربهم بين الضحايا عنهم ينقذون البعض من الموت والهلاك.

جلست سناء واجمة في زاوية بعيدة عن منزلها المدمر وهي تحدق في أعمدة الدخان المتصاعدة من بقاياه المتناثرة.

جعلت تتأمل ما حولها من الدمار الذي أحدثته غارات الطائرات الحربية التي أطلقت ثلاثمائة صاروخ في ليلة واحدة لتحيل المخيم إلى حطام، تتخلله الأشلاء الممزقة وتصبغه الدماء الزكية بحمرتها القانية.

لم تفق سناء من ذهولها إلا على صوت انفجار مدوٍ, وقع أمام ناظريها وسط أنقاض منزلها المدمر.

شهقت بفزع وقد تملكتها الدهشة..

صرخت بشدة..

ويلاه.. عبد الحكيم

تركت أقاربها وهرعت نحو موقع الانفجار

جعلت تهرول وقلبها يخفق خوفاً على خطيبها الذي كان يبحث بين الأنقاض عن ضحايا، أو بقايا أثاث وأمتعة صالحة يمكن الاستفادة منها.

وصلت إلى المكان بعد جهد، وجعلت تبكي بلوعة..

نظرت إلى جمع من الشبان تحلقوا حول مكان الانفجار..

حاولت التقدم أكثر لمعرفة المصاب..

رآها بعض الشبان فطلبوا منها الابتعاد..

أرجوكم.. أريد أن أراه.. إنه خطيبي..

وبعد إلحاح منها وإصرار على رؤيته سمحوا لها بنظرة سريعة

شعرت بألم يمزق جسدها، ويقطع نياط قلبها.

كان المشهد مروعاً

الدماء تغطي جسده المسجى على الأرض.. والأنين متواصل لا ينقطع.. والحشرجة تثير كوامن الحزن والأسى.

تذكرت كم كانت فرحتها عظيمة يوم علمت بنجاته من القصف الذي دمر أرجاء المخيم، وخلف عشرات القتلى ومئات الجرحى.

ثم ها هي تفجع به

حادث انفجار لغم خلفه اليهود العتاة

لم تملك إلا أن تلهج بالدعاء

لا حول ولا قوة إلا بالله

وتصل سيارة الإسعاف إلى المكان لتنقل عبد الحكيم بسرعة إلى المستشفى لتلقي العلاج.

ويقف الأطباء مذهولين أمام جسده

ينظر بعضهم إلى بعض بأسى

لا بد من بتر ساقه اليسرى ويده اليمنى و أصبعين من يده اليسرى

إذًا لا نستطيع علاجه هنا

لا بد من نقله إلى مستشفى آخر

يصل الخبر إلى سناء التي ظلت تعتصر الألم، ولم تعرف للنوم طعماً

تتنهد بحرقة

حسبنا الله ونعم الوكيل

وينتقل عبد الحكيم إلى مستشفى آخر ليتم فيه بتر ساقه ويده وأصبعيه

ويمكث أياماً عصيبة يصحو بعدها ليفاجأ بحالته

ينظر إلى جراحه وما خلفه انفجار اللغم في جسده

يتذكر صور القتلى والجرحى في المخيم

يلتفت إلى ذويه الذين وقفوا عند رأسه، وتحلقوا حوله، وجعلوا يذرفون الدموع

ما بالكم تبكون؟! ما أنا إلا واحد من أبناء المخيم.. أصابني بعض ما أصابهم..

الحمد لله

يعانقه والده، ويطبع قبلة على رأسه

عافاك الله يا ولدي

ينتبه لخطيبته سناء

يرحب بها

ترسل الدموع حزناً على حالته

سلمك الله يا عبد الحكيم

يبتسم لها

لا تحزني يا سناء.. فلن أكون سبباً لتعاستك وشقائك بعد اليوم.. وأنت بالخيار

تنظر إليه بنظرات لوم وعتاب

ما هذا الذي تقوله؟!

لا تتعجلي يا سناء.. فكري بالأمر جيداً.. فأنا كما ترين عاجز ومعاق وأنت بحاجة إلى رجل سليم ومعافى لتسعدي معه في حياة هنيئة.

تبكي وتشيح بوجهها عنه

يشعر بأنه سبب الأذى لها

معذرة يا سناء.. ما أردت إلا سعادتك..!!

تلتفت إليه وتغمره بنظرات الإشفاق والرحمة

تهرع نحو الباب وتولي مبتعدة عنه

ويخرج عبد الحكيم من المستشفى بساق واحد ويد واحدة

يخرج على كرسي متحرك يدفعه أخوه

يصل إلى بيت أحد أقاربه في مدينة جنين فيفاجأ بعدد كبير من أهله يقطنون فيه بعدما دمرت منازلهم في المخيم.

يتذكر صور القصف والدمار.. يطاطئ برأسه

لا حول ولا قوة إلا بالله.. لا بد من الصبر والثبات

تهمس أخته في أذنه

لقد حضرت سناء

تبرق أساريره ويشعر بالسرور

يتلفت ناحية الباب فيراها تتقدم نحوه

حمداً لله على السلامة يا عبد الحكيم

جزاك الله خيراً يا سناء

تنظر إليه بمودة وألفة

عانيت كثيراً يا عبد الحكيم

إنها إرادة الله.. ولا بد من الصبر والتحمل.. فلست وحدي الذي أصابه مثل هذا المصاب.. ولكن..

ولكن ماذا؟

هل فكرت في أمر زواجنا؟

نعم.. ولذلك جئت إليك

أنت بالخيار يا سناء

أنا لن أختار سواك يا عبد الحكيم.. وأنا راضية بقضاء الله - تعالى - وقدره..

حتى وأنا على هذه الحالة..

ما أنت إلا واحد من أهل المخيم.. وما أصابك فإنما هو بقدر الله - تعالى -.. ولا بد أن أشاركك الأجر والثواب.. فهذا جهاد ومصابرة.. أم أنك تضن عليّ بمثل هذه الفرصة التي أتاحها الله - تعالى - لي..؟!

يشعر بالفرح يغمر قلبه.. تكبر خطيبته في عينيه

أنت رائعة يا سناء.. هكذا فلتكن النساء

إذًا عليك أن تحدد موعد الزواج.. وبأقرب وقت ممكن.. فأنت بحاجة إلى من يرعاك.. أليس كذلك..؟!

ولم العجلة يا سناء؟

حتى لا أغير رأيي!!

يضحك بسرور

وهل يمكن ذلك؟

تنظر إليه باطمئنان

أنا لن أختار سواك، فأنت نصيبي إن شاء الله.. ومهما حاول الأعداء أن يزرعوا اليأس والحزن في قلوبنا، فسيظل هناك مكان للفرح.. فنحن إن تألمنا فثواب وأجر وطهارة.. وهم إن تألموا فحسرة في قلوبهم وندامة.. وشتان بيننا وبينهم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply