هكذا هم الأبطال يعيشون حياةً عجيبة تضيق بها الأجساد الضعيفة وذلك لما لأرواحهم من سمو إلى العلياء وتعلق بالجوزاء، وهم أيضاً حين يموتون فإنهم يموتون ميتةً عجيبة لا ككل الميتات..
إنهم يموتون بطريقة تبعث من ورائهم أمماً وتحيي من ورائهم مشاعل الضياء التي توقد من دمائهم الزكية الطاهرة لتكون نوراً وناراً، نوراً يبدد ظلمات الليل الدامس بفعل الظلم والتغطرس والكبر والعجرفة، وناراً تحرق بلهيبها هشيم الباطل الجاثم على صدور الضعفاء والمظلومين في كل بقعة من بقاع الأرض..
يقال هذا الكلام ونحن نتجلد لكي نبتلع مرارة فراق رجل لا كالرجال، رجل أتته الرجولة مرغمة حبواً لتدين له بالولاء والحب والتقدير بعد أن ألبسته من تيجانها أبهاها وأعلاها في صورة من صور الزهو التي اكتنفت معنى الرجولة حين تشرفت بالدكتور عبد العزيز الرنتيسي علماً عليها ومعرفاً بها وبمعناها ومدلولها ومغزاها.
الدكتور عبد العزيز الرنتيسي كشيخه أحمد ياسين لم يكن شخصاً عادياً ولهذا لم يأت موته بشكل عادي، بل جاء كصورة رائعة من أجمل صور البذل والتضحية في ذات الله - عز وجل – ويا لها من صورة مؤلمة تلك الصورة التي شاهدنا فيها ذلك الجسد الطاهر وقد تكانفته الجراح وأعملت أسنتها في كل بقعة من جسده معطياً بذلك أبلغ الأدلة على معاني الثبات على الدين والمنهج إلى آخر لحظة وحتى لو كان ثمن ذلك أن يدفع حياته ودمائه في سبيل الهم الذي يحمله والذي عاش مناضلاً من أجله وهو رفع راية الإسلام على ربى فلسطين الطاهرة ولسان حاله يترنم قائلاً:
إذا صح منك الود فالكل هينٌ....... وكل الذي فوق الترابِ ترابُ
فليتك تحلو والحياة مريـــرةٌ........ وليتك ترضى والأنـام غضابُ
الرنتيسي أسد فلسطين وبيت المقدس الذي اغتالته يد الغدر الصهيونية الأمريكية كما اغتالت شيخه من قبل.
لقد أراد هذا الأسد الجسور أن يعطي لأمته درساً في معنى التضحية من أجل العقيدة وأراد أن يعطيها درساً راسخاً في معنى الإيمان والتوكل على الله - عز وجل -، وأراد أن يعطيها درساً بليغاً في أنه لا معنى للحياة إذا لم يعش فيها المرء عزيزاً كريماً، وأراد أن يعلمها أن الحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة وأن ما يجب على المسلم الحق أن يبحث عنه هو رضى الله - عز وجل - قبل كل شيء، وأراد أن يعلمنا سبيل الجهاد الصحيح القائم على رؤية شرعية واضحة.
رجل كالرنتيسي لا يموت في قلوب أبناء الأمة وذلك لأن الشهادة في سبيل الله حياةٌ حقيقية لأصحابها، ونحن حين نستمع لأم محمد زوج هذا البطل - رحمه الله - ندرك أن الأبطال لا يترنمون إلا بمثل ما نقلته لنا أم محمد عن أبي محمد في آخر لحظاته التي كان يناجي فيها حبيبه مترنماً مشتاقاً:
أن تدخلني ربي الجنة***هذا أقصى ما أتمنى
إن من الدروس التي تعلمناها من مقتل الرنتيسي والشيخ أحمد ياسين ومن الأحداث التي تعصف بالأمة هو خطورة النفاق والمنافقين وكيف أنهم يمثلون الخنجر المهموز في خاصرة هذه الأمة، فأحمد ياسين والرنتيسي قتلا واستهدفا عن طريق دلالة عملاء من الأرض ممن يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.
وأخيراً فإن من دروس مصرع هذا البطل هو أن نهاية إسرائيل قد اقتربت وأن تصرفاتها هذه تدل على قمة الإفلاس والعجز والخور وقلة الحيلة، وتدل أيضاً على أن النصر قريب من أهل الإيمان وما عليهم إلا أن يبذلوا مزيداً من الصبر والمصابرة والجهد والمجاهدة والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد