" آلم أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنَّ الله الذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين، أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون، من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت، وهو السميع العليم ".
هل يظن الناس أنهم سيُتركون في هذه الحياة، دون اختبار وابتلاء لمجرد أنهم قالوا بلسانهم آمناّ؟ لا، ليس الأمر كذلك، بل لا بد من امتحانهم، ليتميّز الصادق من المنافق.. نزلت هذه الآيات في قوم من المؤمنين، كان المشركون يؤذونهم ويعذبونهم، فضاقت صدورهم واستبطأوا النصر، فواساهم الله بهذه الآيات، وأعلمهم أن تلك سنته في عباده، يسلّط الكفار على المؤمنين، ليمحِّصهم ويرفع درجاتهم، ويظهر الصادق من المنافق، ولهذا قال بعدها " ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنَّ الله الذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين " أي ولقد اختبرنا من سبقهم، بأنواع المحن والمصائب، فالابتلاءُ سنةّ إلهية، مبنية على الحِكم والمصالح، وقد كان في الأمم السابقة من يُنشر بالمنشار ويُمشط بأمشاط الحديد ليرجع عن دينه، فيصبر ويتحمل الأذى والبلاء، ما يصدٌّه ذلك عن دينه، كما ورد ذلك في صحيح البخاري!!، فليميزنَّ الله بين الصادقين في دعوى الإيمان وبين الكاذبين فيه: " أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون " أي هل يظن المفسدون في الأرض أنهم يعجزوننا ويتخلّصون من عقابنا؟ ليس الأمر كما يظنون ويتوهمون، وبئس ما يظنون!! فإن سنة الله كما تكون في تمحيص المؤمنين، تكون أيضاً في تدمير المفسدين وإهلاكهم " مَن كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ". (1)
نعم، إنها سنة الله - تعالى - في تمحيصه لعباده، ففي ظاهرها بلاء وفي باطنها خير عظيم.
واليوم تودع أمتنا الإسلامية علماً من أعلام الدعوة والجهاد، إنه الدكتور عبد العزيز الرنتيسي - رحمه الله -، ذلك الرجل الذي إن ذُكر ذكر معه الصبر والتضحية والبذل والعطاء والجرأة في قول الحق في وجه كل الأعداء بدءاً بالصهاينة وانتهاء بمن حالفهم وعاونهم.
لا أستطيع أن أصور المشهد بعد هذه الفاجعة الكبيرة إلا بالرد القرآني، قال الله - تعالى -: " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً " (الأحزاب: الآية 23).
إن هذه النفوس أمثال د. عبد العزيز والشيخ أحمد ياسين ود. المقادمة وغيرهم هم عطاء في حياتهم ومدادٌ لا ينقطع بعد رحيلهم.
وفي أمثالهم قال القائل:
غَلتِ الحياةُ فإن تُرِدها حـُرَّةً *** كن مِن أُبَاةِ الضيمِ والشجعانِ
واقحم وزاحم واتخذ لك حيِّزاً *** تحميهِ يَومَ كَريهةٍ, وطِعــانِ
لقد سطع نجم الدكتور عبد العزيز في زمن عز فيه القادة وفي حال خيم فيه الظلم وطغى، وسادت الفرقة بين المسلمين حين بلغ السيل الزبا، فقام حينها كوثبة خالدٍ, لنجدة أهل اليرموك، وهبة صلاح الدين يوم حطين، وصيحة قطز يوم عين جالوت.
فما وقف أمام الصهاينة لوقف مخططهم إلا هذه الثلة المؤمنة الصادقة، نحسبها كذلك، ليجعلوهم في رعب مستمر وخوف دائم " يحسبون كل صيحة عليهم ".
ولكن هل باستشهاد قائد مثل د. الرنتيسي تتوقف الدعوة في مسيرتها؟ لا، بل دعوة الله باقية ومحفوظة إلى يوم القيامة. فقد توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستمرّت المسيرة كما وعد الله بحفظها، وكم مرَّت الأمة الإسلامية بمواقف عصيبة فقدت فيها قادة عِظام ولكن يبعث الله من وراءهم من يحمل الراية من جديد.
وكما قال أحمد شوقي:
وما شهداءُ الحربِ إلاَ عِمادُها *** وإن شيِّد الأحياءُ فيها وطنَّبوا
والله - تعالى - يخاطبنا قائلاً: " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ".
ولا بد لنا من التأمل في سيرة المجاهد د. عبد العزيز الذي كان بوسعه أن يعيش حياة الدّعة لا سيما وأنه طبيب وأخصائي منذ زمن طويل، إن الذي دفعه لهذا النهج هو حبُ الدعوة إلى الله - تعالى -. لقد تحدث الناس عنه في اللقاءات التي أجريت معهم بعد إغتياله كيف عرفوا د. عبد العزيز الرنتيسي؟ قالوا: كان منذ عاد إلى الوطن بعد تخرجه من الجامعة وهو يطوف بيوت الناس ليقوم بختان أبنائهم ودون مقابل، وكان يقول للمرضى في عيادته لمن لم يستطع أن يدفع ثمن الكشفية أن يذهب دون أي شيء.
هنيئاً له ولجميع المجاهدين بالشهادة التي يتمناها كل مسلم مخلص يبتغي وجه الله - تعالى -، وما هذه الشهادة إلا بادئة خير لاستيقاظ الأمة من غفوتها لكي تحمل الراية من جديد، " ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفوراً رحيماً ". (الأحزاب: الآية 24).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد