قرأت شيئاً مما كُتب عن مؤتمر البحرين لنصرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومع أني لا أتفق مع بعض الأطروحات التي تناولت المؤتمر، غير أني لا أودّ أن ذلك لم يحصل!
إنني أقدّر أن المؤتمر وما تلاه من مناقشات هو عبارة عن درس جديد يُكتب هذه الآونة في ثقافتنا العملية.ومثل هذه الدروس لا يُكتب لها البقاء والاستمرار والتأثير حتى تأخذ حقها من المداولة والنظر والتفاعل المشترك بين الآراء المختلفة.حتى إذا كُتب هذا الدرس كان مكتوباً بمدادٍ, من الحياة لا تذروه الرياح، ولا تمحوه الليالي والأيام، ناصعاً يتوهج للأجيال الحاضرة والقادمة. والشرط المهم في مداولاتنا هذه التركيز على الرأيِ، والبحثِ عن الحقيقة التي ربما تكتمل بأجزاء من هذا الرأي وذاك. وهنا لا مكان للتعصب لأشخاصناº إذ إنا لا نعلق على حدث سابق بقدر ما نريد أن نشارك في صياغة درس للمستقبل. إن هذا التفاعل الكبير مع نصرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو حدث استثنائي وفرصة كبيرة لأن نستخلص ولو درساً واحداً لمسيرتنا الطويلة نحن -أمة الإسلام -.
أما بعد: فهذا تعليقي على ما جرى في المؤتمر وما تلاه، أرتبه في النقاط التالية:
أولاً: بعد أن أساءت الصحيفة لنفسها، وأساءت لمشاعرنا في التعرض لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هبّت الأمة الإسلامية هبّةً فِطرِيّةً صادقة، غيرةً ونصرةً لمن هداها من الظلمات إلى النور. ولا أُنكِر أن ثمة مخلصين هم من بادروا بتعريف الأمة واستنهاضها، غير أن استجابة الأمة كانت أسرع وأكبر من أن نتذكر من هؤلاء الأشخاص، جزاهم الله عن نبيهم وأمتهم خير الجزاء.
إننا - أمة الإسلام - أردناها نصرة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - وحسب. ولا أستثني من ذلك أحداً. وهذا مبدأ ينبغي أن نلتزمه في حواراتنا حول هذا الموضوع. فلا يجوز التشكيك في النيات بأي حال من الأحوال، حتى لو أن بيننا أحداً أرادها لغير الله، فلا يجوز أن نعامله على هذا الأساس، إلا أن يكون بأيدينا دليل (وليس قرينة) على نيته السيئة. علينا بالظاهر، والله يتولى السرائر. ذلك منهج نبينا الذي ننصره بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -، عامل الناس على ظواهرهم حتى المنافقين أجرى عليهم حكم الإسلام لماّ أظهروا إسلامهم وأبطنوا كفرهم. إن الاتهامات والتخوين والتشكيك نفق مظلم طويل، من دخله أجهد نفسه دون أن يهتدي إلى نهاية صحيحة. وما زال هذا النفق هو مهرب المبطلين كلما أشرقت عليهم شمس الحقيقة، كما قال كبيرهم فرعون حين ظهر الحق على يدي نبي الله موسى (إِنَّ هَذَا لَمَكرٌ مَّكَرتُمُوهُ فِي المَدِينَةِ لِتُخرِجُوا مِنهَا أَهلَهَا فَسَوفَ تَعلَمُونَ). ومع وضوح هذا المبدأ (عدم التشكيك في النيات، وأخذ الناس على ظاهرهم) إلا أن المرء يلمس من نفسه، ومن بعض إخوانه بعض التفريط فيه إبّانَ الممارسات العملية. ولذلك كان التذكير بهذا المبدأ في فاتحة الحديث.
ثانياً: الخلاف في بعض وجوهه تنوّعٌ وثراء، ومشاركة ممتعة. ولا مانع هنا أن يوجد الصواب عند أحد الأتباع كما حدث هذا مع الحباب بن المنذر في غزوة بدر، وربما يجري الحق طيّباً سائغاً على لسان امرأةٍ, متوارية خلف خبائها كما حصل لأمنا أم سلمة -رضي الله عنها- في صلح الحديبية في حل أزمة تباطؤ الصحابة عن التحلّل من عمرتهم. وربما لمع السداد في ذهن شابٍ, حادّ الذهن. ولذلك كان عمر يستشير الشباب يبتغي حدة أذهانهم، كما قاله الزهري. فلا غرابة إذن أن تتنوّع الآراء- دون حجر على أحد - في معالجة أزمة الرسوم المسيئة، وما هي الطريقة الأحسن في التعامل مع هذا الحدث.
ثالثاً: ولكن في أي شيء يكون الخلاف؟ وإلى متى يستمر الخلاف؟ وإذا احتجنا إلى حسم الخلاف فمن له الحق في ذلك؟ وهذه أسئلة كبيرة لا يمكن الإجابة عنها جميعاً. ولكن نأخذ من ذلك ما يهمنا في هذا الموقف (موقف الرسوم والنصرة). ولا ريب أن هذا الموقف هو مما يحتمل تنوّع الآراء واختلافها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه موقف عملي ينبغي أن نتفق فيه على رأي موحّد حتى نخرج بموقفٍ, قويّ واحد (إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرصُوصٌ). ونَرجع إلى معينه الصافي سيرته العملية - صلى الله عليه وسلم - "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي". لنرى كيف كان يتعامل مع مثل هذه المواقف. وحريّ بنا أن نرجع دائماً لسيرته - صلى الله عليه وسلم -، لاسيما ونحن نناقش نصرته. فليكن أول ما ننصره به اتباع طريقته وهديه في مواقفه العملية. وأشير باختصار إلى غزوة أحد حين سمح النبي - صلى الله عليه وسلم - بتنوّع الآراء في كيفية مواجهة جيش المشركين، وكان رأيه أن يقاتل في المدينة، ورأي الشباب أن يخرجوا إلى أحد. فلما جاء وقت العمل حسم الخلاف لأحد الرأيين (وكان في ذلك الموقف هو رأي القتال خارج المدينة). فلمّا ذهب إلى أحد ترك عبد الله بن أبيّ بن سلول الجيش بحجة أن رأيه كان خيراً من رأي الشباب وانهزم بثلث الجيش.. فهنا طريقتان: طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاجتماع ولو على رأي مفضول، وطريقة عبد الله بن أبيّ بن سلول التفرّق بحجة الحرص على الرأي الفاضل. فلينظر امرؤ ما يختار لنفسه!. إن الاجتماع على رأي مفضول خير من التفرّق على رأي فاضل. (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم). إذن لا مانع من التنوّع وتقليب الآراء والخلاف حتى يبدأ الموقف العمليّ، فإذا جاءت المواقف العملية فيجب أن نتنازل عن بقية الآراء، ونجتمع على رأي واحد، ونخرج للأمم الأخرى صفاً واحداً. ويبقى السؤال هنا: من يحدّّد هذا الرأي دون بقية الآراء الباقية؟ من يحق له الاختيار؟
ونعود لمسألتنا في مؤتمر البحرين لنقول: إن أكبر تجمع للعلماء حسب اطلاعي هو مؤتمر البحرين. حضر فيه جماعة من العلماء الأجلاء، ووفود من المراكز الإسلامية في الدنمرك، ونظّمته مؤسسات وهيئات إسلامية معروفة بجهودها الإسلامية، وجهودها في حملة النصرة لخاتم الأنبياء والمرسلين. فأرى من المناسب أن نتنازل عن آرائنا الأخرى لرأي هؤلاء العلماء الأجلاء، لاسيما أننا الآن في موقف عمليّ لا يحتمل المنازعة والتفرق. واستطراداً فإني أذكّر إخواني بأن ثمة نموذجين داخل واقعنا الإسلامي فيما يتعلق بالاختلاف والتفرق. فهناك نموذج ركّز على النظام وأهمل الدليل، فخرج بمواقف منظمة ومرتبة، لكنه أهمل النظر للدليل حتى أصبح سلطان النص يتراجع كثيراً أمام سلطان المراجع الدينية. وصورته الغالية تصل إلى ما وصف الله (اتَّخَذُوا أَحبَارَهُم وَرُهبَانَهُم أَربَابًا مِّن دُونِ اللّهِ) (31) سورة التوبة. وهناك نموذج آخر ركّز على سلطة الدليل واحترام النص، وأهمل التنظيم والخروج بمواقف مرتبة، حتى غدا حال هذا النموذج فوضى عارمة، لا يعرف لذي قدرٍ, قدره. وواجبنا حيال هذا الواقع أن نضع نموذجاً ثالثاً يحفظ لنا (صفنا الواحد)، دون أن يحوّلنا إلى (اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله).
رابعاً: وماذا عن قرار المؤتمر وبيان الشيخين الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ سلمان العودة؟ وأقول: ابتداءَ فإني من الناحية العملية أرى موافقة المؤتمر وعدم التفرّق والتنازع سواء كان هناك اقتناع بالطريقة التي أقرها المؤتمر أم لاº فاجتماعنا على رأي مفضول خير من تفرّقنا على رأي فاضل. وإن كان ثمة تسامح فلا تثريب في المخالفة، على ألاّ يكون إنكار لا يتناسب مع طبيعة المواقف العملية.
هذا من حيث المبدأ. أمّا رأيي الخاص ومن أنا حتى يكون لي رأيٌ خاص في مقابل هؤلاء الأجلاء؟! ولكن مجرد مشاركة نظرية فربما كان الصواب مع أحد الأتباع أو أحد الشباب!. فأرى أن رأي المؤتمر كان رأياً موفقا وسديداً. ذلك أن المقاطعة وسيلة وليست هدفاً. فأهدافنا في هذه الحملة - إن صح التعبير كفٌّ السفهاء عن النيل من مقدساتنا. وتبليغُ الناس رسالات الله وهداياته كما نراها نحن لا كما يراها خصومنا. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف سنجد وسائل كثيرة من أهمها المقاطعة. ومن المهم أن نتعامل مع هذه الوسيلة بذكاء ووعي حتى نحصد منها أكبر مكاسب ممكنة. بالمقاطعة تستطيع أن تلفت انتباه الشعوب إليك لتقول لهم ما تشاء. بالمقاطعة تستطيع أن تعاقب الخصم المعاند. بالمقاطعة تستطيع أن تحقق مكاسب للإسلام في بلدان الغرب. إن المقاطعة ليست عاطفة بسيطة فحسب بل هي صناعة ومهارة، وفنٌ وذكاء. ولذلك فلا بد لهذه المقاطعة من إدارة تصرّف هذه الوسيلة وتقلّبها بما يحقق لنا مكاسب أكبر، تماماً كالدراهم تجعلها في يد تاجر ماهر يقلبها في أنواع التجارة في السوق ليردّها إليك أضعافاً مضاعفة. وهؤلاء العلماء والمؤسسات المنظمة هي أفضل الخيارات الممكنة لإدارة الموقف. إن أمانة المؤتمر حين رفعت المقاطعة عن شركة " آرلا " لجهودها التي اعتبَرَتها كافية لاستثنائها من القائمة قد جعلت الشركات تتنافس لمحاولة رفع المقاطعة عنها. والأمانة ستشترط على كل شركة ما تراه مناسباً لكسب الجولة بيننا وبين خصومنا. ومعنى هذا أن أمانة المؤتمر فكّت الحصار عن الجالية المسلمة في الدنمارك. وتحولت هذه التكتلات الاقتصادية العملاقة إلى طوق يحاصر الحكومة اليمينية، ومثل هذا القرار الحكيم الواعي غيّر قواعد اللعبة داخل الدنمارك. فأصبح إخواننا المسلمون مع الجماهير من الشعب والشركات الضخمة، أصبحوا ضد أقليّة تصر على الإساءة لنا. بعد أن كان إخواننا أقليّة محاصرة. وبهذا يظهر أن المؤتمر ليس ضد المقاطعة، بل هو مع المقاطعة ومع استثمار المقاطعة بصورة أكبر. وفي الجملة فإني أرى ما حصل تقدماً ظاهراً في تعاطي المسلمين مع قضاياهم.. عواطف " الجماهير " الصادقة، تلتقي بإدارة " الحكماء " الواعية!.
وعوداً إلى بداية الحديث فإن الدرس المستخلص هو ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرره على أصحابه مع كل صلاة، حتى إن الإنسان مع كثرة قراءة النص وتأمله لكأنه يسمع صوته - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: ((سووا صفوفكم)).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد