روت كتب السير أنه لما قال "عبد الله بن أبي ابن سلول" رأس المنافقين كلمته القبيحة "ليخرجن الأعز منها الأذل"، وشاع خبرها بين المسلمين أتي ابنه "عبد الله بن عبد الله بن أبي" إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمسي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا"، ولم يكتفِ "عبد الله بن عبد الله" بهذا الموقف، ولكن لما قفل الناس راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله على باب المدينة واستل سيفه فجعل الناس يمرون عليه فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه وراءك فقال ما لك ويلك؟ فقال والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه العزيز وأنت الذليل فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشكا إليه عبد الله بن أبي ابنه فقال ابنه عبد الله والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أما إذ أذن لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجز الآن.
بهذا الوضوح وهذا الحسم تعامل الرعيل الأول مع الثوابت، فلم يكن القرآن الكريم ولا الرسول العظيم بمحل للمساومة أو التنازل وإن كان المتطاول أقرب الناس إلى المرء، ولكن هل ظل الوضع كما كان إبان العهد الأول، لقد تغير الأمر كثيرًا وهاهو نحن اليوم نشكو من تطاول صحف لدول لا نعلم لها قيمة أو وزن في الحياة، ويهب الخطباء والدعاة للشجب والتنديد ثم تفتر الهمم وتصمت الأصوات، ويعاود السفهاء فعلتهم في التطاول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن المشكلة الحقيقية هي أن هذه الجرائم والتطاول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثوابت الأمة المسلمة تكررت كثيرًا وما أن ينتهي المسلمون من متطاول إلا ويظهر غيره، وليس ذلك إلا بسبب غياب العمل المؤسسي الثابت، وفقدان المنهج العملي الواضح الخطوات.
إن دولاً وثقافات لا وزن لها استطاعت من خلال العمل الواضح الجاد أن تجبر الآخرين على الاعتراف بها، بل إن "إسرائيل" نجحت في جعل معلومات تاريخية مشكوك فيها مصدرًا للمقاضاة ومحاكمة المخالفين وليس ذلك إلا بسبب عمل جماعي مؤسس على خطى ثابتة وواضحة، أما نحن فاكتفينا بالصراخ والتآلف مع النوازل بعد قليل من نزولها، فنثور قليلا ثم نسكت ولا نتكلم وكأن شيئا لم يحدث، لهذا صار المتطاولون لا يبالون كثيرًا لصرخاتنا وتنديدنا.
هيا إلى العمل الجاد:
يطيب للخطباء والدعاة الإشارة إلى أن قيام الأعداء بسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقبه النصر المبين، ويورد الدعاة من الأمثلة والمواقف ما يؤكد ذلك، ومع إيماننا بقرب النصر إلا أنه يجب أن نشير إلى أمرين مهمين يتعلقان بهذه النقطة:
النقطة الأولى: لم تكتف الأجيال الأول بسماع سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قعدوا ينتظرون النصر، بل إن ذلك كان يصاحبه العمل الجاد، بل إن كل المواقف التي وردت في هذا السياق تشير إلى أن النصر المأمول كان يأتي بعد حصار المسلمين للأعداء، فلا بد إذن من العمل الجاد الذي يعقبه النصر، بل إني لعلى ثقة من أن أحد أسباب النصر كانت ثورة المسلمين على تطاول الأعداء والمشركين فيهبوا للدفاع عن ثوابتهم، فمن ينتظر النصر المأمول عليه أن يهب للدفاع عن الثوابت.
النقطة الثانية: التركيز على انتظار النصر المأمول، قد تدخل في إطار التآلف مع النوازل، فمع تكرار هذه الجرائم يصبح الأمر لدينا عاديًا مألوفا، بل قد نعلل أنفسنا بالنصر المأمول ولا نتحرك لدفع العدو الصائل أو الجاني المتطاول.
لذلك لابد لنا من العمل الجاد المؤسس، وسنحاول في هذه المقالة طرح بعض الأفكار والرؤى لاستغلال هذه الجريمة الأخيرة في وضع منهج للدفاع عن الثوابت.
1- تقوية الجبهة الداخلية:
قال علي بن الحسن: «كنا نُعلَّم مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما نُعلَّم السورة من القرآن»، ويقول الإمام الزهري: «في علم المغازي علم الآخرة والدنيا».
وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: «كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعدها علينا ويقول هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها».
بهذه الصورة حافظ المسلمون الأوائل على الثوابت لدي الأجيال المتعاقبة، لقد كانت دروس السيرة جزءًا لا يتجزأ من المنهج العلمي الإسلامي على مر العصور، ولم يتخلف علم السيرة عن بقية العلوم إلا في العصور الأخيرة إلا عندما أصبح البعض ينظر للسيرة باعتبارها ترفًا زائدًا، أو عندما انشغلت الحكومات بالحضارات البائدة مثل الفرعونية وغيرها.
لذلك فإن أول خطوة للدفاع عن الثوابت هي تعبئة الجبهة الداخلية وذلك عن طريق دراسة السيرة النبوية دراسة شاملة، إن من يتابع دروس العلم في مساجد المسلمين سيجد قصورًا كبيرًا في تدريس السيرة النبوية، بل إنك قد تجد القرية أو البلدة ليس بها من دروس السيرة شيء فضلا الحديث عن شمائل المصطفى وحقوق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف بعد ذلك ينتظر منا الدفاع عن الثوابت، إن لدي المسلمين حب عميق لرسول الله، ويجب علينا أن نزيد من هذه الحب عبر دراسة السيرة، ويجب أن يترجم هذا الحب إلى عمل منهجي مؤسس.
كما أننا نرى في مثل هذه الجرائم المتكررة فرصة مناسبة للدعاة والخطباء لترسيخ عقيدة الولاء والبراء التي ضعفت لدي المسلمين، والتي تتعرض لحملة شرسة، إلا إن بعد هذه الحملات الغربية المتكررة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا مجال إذن للسكوت أو إخفاء عقيدة المسلمين وراء شعارات متهالكة عن التسامح.
2- أين الجامعات والمراكز البحثية:
إن عامة المسلمين في حاجة إلى الحديث العاطفي التربوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا إن البعض ممن تلوث بأفكار الغرب يحتاج إلى خطاب أكاديمي يزيل ما في قلبه من شبهات الغرب وأكاذيبه، وهو الدور الذي يجب أن تضطلع به جامعات المسلمين المنتشرة في أنحاء الأرض عبر تبنى خطاب أكاديمي لا يكتفي بالأبحاث والدراسات بل يضم إلى محاوره عقد الندوات والمؤتمرات ومخاطبة أبناء الأمة وإزالة ما في قلوبهم وعقولهم من لوثات غربية.
3- إعلام المسلمين لمن؟:
من أهم الأدوار التي يجب أن ننطلق من خلالها لترسيخ منهج للدفاع عن الثوابت الدور الإعلامي، وهو دور لا يجهله أحد إلا أن هناك كثيرين يتجاهلون تفعيل هذا الدور، وإذا ما أصرت الأجهزة الإعلامية على دورها المشبوه في إضعاف عقيدة المسلمين وشغلهم بما هو بعيد عن الإسلام فيجب على الدعاة والعلماء مخاطبة هذه الأجهزة، فإن لم تستجيب فتكون المقاطعة والمقارعة حتى تعود هذه الأجهزة الإعلامية
4- مخاطبة العقلاء ومقارعة السفهاء:
لما استتب الأمر للإسلام في الجزيرة العربية، بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مراسلة الدول والملوك، فأرسل إلى كسرى عظيم الفرس وهرقل عظيم الروم، أما كسرى فكان سفيهًا مزق كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا عليه رسول الله ولم تمض أيام حتى قتله ابنه جزاء لما فعله بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما هرقل فكان عاقلاًُ لم يمنعه عن الإسلام إلا الطمع في الدنيا وذكرت الآثار أن ملوك الروم كانوا يتداولون كتاب رسول الله ويحافظون عليه.
مثل كسرى اليوم في دول الغرب كثيرون، ويوجد كذلك مثل هرقل، ولاختلاف النموذجين فيجب أن يختلف أسلوب التعامل، فالعقلاء يجب أن يتوجه إليهم الباحثون والدعاة بالخطاب عن شمائل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضائله، ولكن السفهاء لا يصلح معهم إلا المقارعة والمقارعة أبوابها كثيرة تبدأ من المقاطعة، ورسائل الغضب والاحتجاج وتمتد لتشمل إلى مظاهرات للتنديد والشجب، بل ولابد من تصعيد الأمر إلى المؤسسات الدولية إن لزم الأمر.
5- جمعية "الدفاع عن رسول الله":
"أحب العمل إلى الله أدومه، وإن قل"، حتى لا نكتفي بمواقف انفعالية وأعمال فردية قد يخبت ضوؤه بعد فترة من الوقت، لابد أن يهب مجموعة من المسلمين لتشكيل جمعية "للدفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" وذلك من أجل تنظيم جهود المسلمين في هذا المجال ومتابعة فعاليات الدفاع عن رسول الله وثوابت الأمة المسلمة، ويجب أن تتجاوز هذه الجمعية الحجب والحدود فلا تنحصر في دولة أو قطر، ويجب أن تكون مفتوحة لجميع المسلمين للمشاركة فيها.
6- أين القانونيون؟:
نجحت "إسرائيل" في دفع كثير من الدول إلى استصدار قوانين لمناهضة السامية، بل جعلت مناهضة السامية قانونًا عالميًا، فهل يعجز القانونيون المسلمون أن يقاضوا أمثال تلك الصحيفة وغيرها من الذين يتطاولون على ثوابت الأمة، لا أشك في أن هذه الجرائم تحمل من الدعاوى والحجج التي تكفى لمحاكمة وإدانة مقترفيها، فهلا هب القانونيون من سباتهم.
7- ولجالياتنا في الغرب دور:
لا توجد دولة في ناحية من أنحاء العالم، إلا وبها من المسلمين أعداد لا يستهان، ولهؤلاء المسلمين دور كبير في الدفاع عن ثوابت الأمة المسلمة، إن على هؤلاء المسلمين توحيد جهودهم والعمل عبر عدة محاور:
- تنقية كتب التعليم والمناهج الغربية من أية إساءة أو سوء فهم للإسلام، حيث تمتلئ كتب التعليم في الغرب بالصورة السيئة عن المسلمين.
- متابعة وسائل الإعلام بكافة أنواعها والتنبيه على أية إساءة أو مخالفة تقع في هذه الوسائل.
- إقامة الندوات والمؤتمرات للتعريف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفضله على العالمين، ويدخل في ذلك تأجير عدة ساعات إذاعية أو تليفزيونية في الشبكات الإعلامية للقيام بهذه المهمة.
"استعن بالله ولا تعجز":
في نهاية المقال، نقول إن المسلم قوي، ولو أراد أن يزيل جبلاًَ لأزاله، فلا يحقرن أحد من نفسه شيء وعلى كل واحد منا دور، عليه أن يحيى سنة وسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته ومسجده وشارعه وعمله، وما قدمناه في هذا المقال ليس إلا بعض اقتراحات، ومن اجتهد واستعان بالله يكون العون، وعلى قدر المئونة تكون المعونة.
إن هذه الأعمال تحتاج إلى تضافر كافة الجهود، فالعالم يتقدم بعلمه الصفوف والثري والغني يدفع الحملة إلى الأمام بأمواله، والأديب يعقد المحافل والقانوني يطارد السفهاء والمتطاولين، والإداري يجمع بين هذه الجهود حتى تنتظم في سلك واحد، الإعلام يقوم بتغطية كافة هذه الجهود.
إنها حملة ليس لأحد من المسلمين عذر أن يتخلف عنها، ولن يعجز أحد أن يرفع صوته قائلاً:"إلا رسول الله".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد