نحو توظيف أمثل للمقاطعة

لقد جسدت حادثة الإساءة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جانباً مهماً كانت الأمة تخفيه تحت رزاياها، ذلك هو التعاون والتلاحم في أجمل صورة وأرقى معانيه، ولم يكن بذهن أحد أن يتصور هذا الترابط العميق أن ينبعث في هذه الأمة لو لا أن قيّض الله لها من أعدائها من يبحث عن أهلاك نفسه قبل أن يسيء إلى آخرين، فأصبحنا نرى ولله الحمد تكاتفاً والتفافاً رسمياً وشعبياً على مستوى العالم الإسلامي، في بادرة قد تكون هي الأولى منذ زمن كدنا أن لا نؤمل عودته من جديد، كما أنها أعطت إشارة للمستقبل بأننا أمة وحدة وفق منهج وهدف رباني مقدّس، لا يخترقنا أحد أن قامت فينا الهمم وصحّت فينا العزائم.

في هذه الحاثة المشينة انبعث شعور في المسلمين الذين طالما طَعِمُوا أوجاع الإهانة ومرارة الخذلان أن لا قيمة لهم بعد إن أسيء إلى ذات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو الرمز الأول، وهو الذي تلهج به ألسنتهم في كل شهادة للتوحيد، وفي كل صلاة، بل ويتعبد الله بمحبته والصلاة والسلام عليه، فما قيمتنا نحن المسلمين إن أهين رسول الله فينا ثم قعدت بنا نفوسنا عن نصرته؟!

وإن لم ننصر رسول الله في هذه الحملة المشينة فمتى ستقوم بنا الهمم وتنبعث فينا العزائم؟! ومتى سنفدي هذا الدين؟! ومتى يرى الله من عباده الحنفاء منهم والمخلصين؟! فقالت أمة محمد بلسان واحد: إلا رسول الله! ولبى لرسول الله كل مسلم فكان الالتفاف على جناب رسول الله، وكان هذا التجاوب على صعيد العالم كله يدفع بصداه يوماً بعد يوم، لأننا انتقصنا في ما هو أعز علينا من ذواتنا.

لقد أبرزت هذه المقاطعة أن الأمة بيدها أسلحة حضارية متعددة، فإن تعذر عليها حمل سلاح حملت آخر..، فصدحت بأعلى صوتها منادية لكل من أساء القول والفعل " إن كانت لكم حريّة التعبير.. فلنا حرية الاختيار "! فمن مارس الحريّة بشكلها العنصري الذي تمجه الفطر العاقلة والنفوس الواعية ويحتقر ذاته بإساءته لآخرينº فلا تثريب عليه إن صفع وركل جزاء ما قدمت يداه، ثم ليلقى حتف فعاله جرّاء سقوط قيمه وانعدام أخلاقه، فالعالم الآن أصبح أكثر وعياً وأشد إدراكاً بما يمكن أن يستنهض في الأمم قواها، فمن كان ذا شر فهو يمتد إليها من أطرافها، لا إلى رمزها وصميم قداستها. وبمثل هذه المقاطعة ترتدع النفوس المتعطشة إلى النيل من كرامة هذه الأمة، بل ترتدع كل النظم والمؤسسات على تقادم عهدها هيبة وإجلالاً، ذلك لأنها الأمة التي لا زالت تملك التأثير وتعي متغيراته، وردع المذنب الواحد كفيل بردع كل من حاول الإساءة من خلفه.

ومن الصور المشرقة التي بعثت بها هذه المقاطعة ما نراه من تجار المسلمين، الذين هم إلى موطن الرزق أحوج، إذ ما لبث الأخيار أن انبروا نصرة لدينهم ولنبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فدوه بالغالي والنفيس في أسطورة تاريخية نحتت بأحرف من نور على هامة الأمة الإسلامية، وكأنها تذكرنا بحادثة ثمامة بن أوثال - رضي الله عنه - صاحب أول مبادرة بالمقاطعة في التاريخ، ألجم بعدها صناديد مكة أن تسعى خاضعة بين يدي رسول الله تسأله العفو والغفران. وتمتد هذه الوقفات النبيلة حتى وقتنا هذا تُشعر الناس بعلو قيمة رسول الله، وأن فداه ما ملكت اليد وكل ما قدرت إليه وصولا.

إن من أهم العوامل التي تضمن لهذه المقاطعة الديمومة والتأثير تفعليها على المستوى الرسمي، إذ أنه هو القوة الخفيّة التي ترسم السياسات لنجاح أفضل وعلى عدة مستويات، والقليل منها مغنٍ, عن كثير من الجهود ومختصر للأوقات، وإن الله لينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن، كما أنه لا غنى عن التنسيق الرسمي عبر المنظمات الإسلامية الدوليّة، والتي لا بد لها من المواصلة بالمتابعة وتصعيد كافة السبل.

وبقدر هذه المسؤولية والتضحية التي نقدمها لذات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا ننسى أننا على جانب أمانة عظيمة، فلا تستهلكنا هذه المقاطعة من حيث ندري فنسيء إلى أحد من حيث لا نعلم! فإن الملاحظ في حملة نصرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قد انبرى لها كل من حملته نفسه على أقصى قدرات استطاعته، مما جعلنا نسمع ببعض صرخات التنويه: أن مهلاً!

لقد أخذت فينا الشائعات من حيث لا يرضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائل: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)، والقائل: (إياكم وقول الزور وشهادة الزور) وفي كل يوم نرى ونسمع من يستنكر الانتقاص من رسول الله ويبين للناس لا تؤخذوا بنا إلى سوء لم نرتكبه. فحري بنا أن نتحرى الصدق وقول الصدق في كل ما نقول ونفعل، وأن لا نرتكب إثماً أو نقطع رزقاً أو نظلم نفساً دون أن نتثبت ونعي دقة الخبر وواقعيته.

ومما ينبغي التذكير والتنويه إليه، أن لحملتنا قيماً أخلاقية رفيعة، فلا تجرنا العواطف نحو دونية مشينة يأخذنا عليها عدونا من حيث انتقصناها فيه، ولا أن نستمرئ في حملتنا هذه فنتجاوز حدود أحد أو الحديث باسم أحد له ثقله وكلمته، فنحدث صدعاً في لحمتنا تخور بقوانا عن المواصلة والمؤازرة، ثم لا نُصرة ولا ثمرة، والمؤمن كما وصف - عليه أفضل الصلاة والسلام -: كيّس فطن!

ومما يحسن الختام به، أنه مما ينبغي علينا بعد هذه الإساءة أن لا نكون وليدي اللحظة، ووقتي العمل، فنكتفي بالشجب والاستنكار والمقاطعة هوناً من الزمان ثم ما نلبث إلا أن ننسى سريعاً، بل لنتذكر أن لنا هدفاً يلزمنا وصوله، وأن هذه الإساءة قد فتحت لنا أبواباً متعددة في الدعوة إلى الله - تعالى -، لأننا رأينا اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتردد بين أوساط غير المسلمين، وهذه بحق اللحظة الحاسمة التي ندلج إليهم بها فنعرَّفهم بسيرة رسول الله - عليه أفضل الصلاة والسلام - والدين الذي بعث به، فندلف إلى أبواب طالما كانت موصدة، ونصنع تغييراً قد لا يمهلنا قدرنا الذي قدر الله لنا لمثله في المستقبل، فاستغلال الموقف أقوى في تأثيره من صناعة الحدث، وكفى بتعريف رسول الله للعالمين إشراقاً وتنويراً..