في كتابه "الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة" كتب المرحوم مالك بن نبي: أن خبراء الإعلام والحرب الفكرية في الغرب يطبقون على المسلمين نظرية "الاستجابة الشرطية" التي صاغها عالم النفس الروسي "بافلوف"، فهم يستفزونهم من وقت لآخر حتى يشغلونهم عن التخطيط الاستراتيجي، والعمل المنهجي، ويستنزفونهم في ردود الأفعال الغاضبة التي تفور فجأة، ثم سرعان ما تذبل وتتلاشى، ونظراً لهيمنة العواطف على تفكير المسلمين اليوم فليس من الصعب التنبؤ بنوع ردود أفعالهم على هذا الاستفزاز أو ذاك.
وفي مكان آخر من كتابه يقول ابن نبي: "إن أولئك الخبراء الخبثاء يلعبون بنا لعبة الثور الأسبانية، فاللاعب الأسباني يلوح بالقماشة الحمراء في وجه الثور، فتثور ثائرة الثور، ويبدأ في مهاجمة القماشة دون جدوى، حتى تخور قواه، ويسقط على الأرض.
والمتتبع للتهجمات الغربية على الإسلام منذ سفاهات سلمان رشدي وآياته الشيطانية في الثمانينات، إلى الرسوم الدنماركية القذرةº يدرك أن تشخيص مالك بن نبي في غاية الدقة، كما يدرك أن خبراء الإعلام والحرب النفسية لن يعدموا مثيراً آخر يستفزون به القوى الإسلامية في عملية استنزاف أبدية.
والذي يتأمل خلفيات الرسوم الدنماركية يدرك أن من أخرجوها صاغوها بعناية في الزمان والمكان المناسب لإحداث أقوى درجات الإثارة والاستنزاف، وزرع أعمق العداوات بين العالم الإسلامي وبقية العالم، فاختيار الدنمارك لإخراج الرسوم وهي الدولة الأوربية التي يحمل علمها صورة الصليب لم يكن مصادفة، بل كان غايته أن تظهر الجماهير المسلمة على شاشات التلفزيون وهي تحرق رمز المسيحية في كل أرجاء العام، تعميقاً للشرخ بين الإسلام والمسيحية، وتهييجاً للجماهير الأوروبية ضد المسلمين المهاجرين، وتوسيعاً لجبهة المعركة الدائرة اليوم بين الإسلام وأعدائه ليكون الغرب كله بل كل مسيحيي العالم جزءاً منها، بدلاً من حصر المعركة مع أهل العدوان كما يوجبه القرآن الكريم، ويقتضيه المنطق السليم.
وقد تذكرت شروح المرحوم مالك بن نبي وأنا أتابع وقائع مؤتمر البحرين لنصرة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، وتمنيت لو أن هذا المؤتمر كان جزءاً من عمل استراتيجي مستمر، يضع معالم على طريق تحرير الأمة من الاستبداد والفساد، ويدفع عنها العدوان الخارجي الذي ينغرس في نحرها، لا فورة عاطفية عابرة تأتي رداً على فعل صحفي مأجور، يستطيع أن يعود إلى رسم رسوم أخرى أكثر استفزازاً قبل أن يعود أصحاب الفضيلة أعضاء المؤتمر إلى رحالهم.
لقد كان الأولى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين - كما كتب الأستاذ فهمي هويدي بحق - أن يدعو إلى مؤتمر لإنقاذ العراق، ووقف نزيف الدم المسلم هناك بدلاً من الدعوة إلى مؤتمر عالمي حول الكاريكاتور الدنماركي، فرغم أهمية موضوع تلك الرسوم المسيئة إلا أن بذل الجهد في ردود الأفعال على ما ينشر في الإعلام الغربي استنزاف وتبديد لا يتناسب مع مسؤوليات قادة العلم والرأي في هذا الظرف الدقيق من تاريخ العالم الإسلامي.
لا يستطيع مسلم أن يشكك في واجب الانتصار للنبي المختار - صلى الله عليه وسلم -، ولا أن ينكر أن ذلك جزء من عقيدة كل مسلم، لكن أسلوب الانتصار وأولوياته وآلياته هو محل الحديث هنا، وفي هذا المضمار نقول: إنه آن الأوان للقوى الإسلامية أن تتبصر، وتعرف كيف وأين تضع جهدها تبعاً لغاياتها، لا تبعاً لاستفزاز المستفزين.
ونؤكد على ما ورد على لسان المشاركين في المؤتمر من "هيئة علماء المسلمين في العراق" الشيخ الفيضي الذي طالب بمؤتمر إسلامي عالمي يناقش قضية استهداف المساجد، وانتهاك الحرمات في العراق، والدكتور الكبيسي الذي دعا إلى الربط بين الإساءة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين ما يحدث في العراق من سفك للدماء، وهدم للمساجد، وحرق للمصاحف، فهل رسم كاريكاتور على يد صحفي دنماركي أهم من قرار الدولة الدنماركية المشاركة في غزو العراق، وسفك دماء المسلمين هناك؟!
لسنا ندعو إلى عدم الرد على الإساءات، خصوصاً إذا تناولت المقدسات والعقائد، لكننا ندعو إلى التفكير الاستراتيجي المنطلق من وعي ذاتي بالأولويات، ووضع الجهود في موضعها طبقاً لتخطيط سابق، بدلاً من الاستئسار للحروب الاستنزافية والمعارك الجانبية المفروضة علينا من الآخرين، فالعمل المنهجي المدرك لغاياته وآلياته هو ما تحتاجه أمتنا اليوم، لا الفورات العاطفية العابرة التي تبدأ مع بداية المؤتمرات، وتنتهي مع نهايتها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد