فداك أبي وأمي [ 1 ]


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحديث عن السيرة النبوية حديث تنشرح له الصدور، وتنطلق له الأسارير، وتخفق له الأفئدة.

كيف لا وهو حديث عن أكرم البشرية، وأزكاها وأبرها، وعظيم لو طالعت كتب التاريخ والسير عربية وغير عربية، وأمعنت النظر في أحوال عظماء الرجال من مبدأ الخليقة إلى هذا اليومº فإنك لا تستطيع أن تضع يدك على اسم رجل من أولئك العظماء، وتقص علينا سيرته ومزاياه وأعماله الجليلة حديثاً يضاهي أو يداني ما تُحدَّث به عن هذا الرسول العظيم.

وغير خفي على مَن يَقدُر هذا النبي قدره أن ليس في طوق كاتب - ولو ألقت إليها البلاغة أعنتها - تقصي المعاني التي انطوت في هذه السيرة العظيمة، وإن من يبتغي عظمةَ رجلٍ, بحق فليبحث عنها في ناحية عقله، وعلمه، وخلقه، وإخلاصه، وعزمه، وعمله، وحسن بيانه، ولقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - راجحَ العقل، غزيرَ العلم، عظيم الخلق، شديد الإخلاص، صادق العزم، جليل العمل، رائع البيان.

أما رجحان عقله فمن دلائله بعد اختصاص الله له بالرسالة أنه نشأ بين قوم يعبدون الأصنام، ويتنافسون في مظاهر الأبهة والخيلاء، وينحطون في شهواتهم إلى المنزلة السفلى، فلم يكن لهذه البيئة المظلمة من أثر في نفس محمد - صلى الله عليه وسلم - قليل أو كثيرº فانبذ بين هذه الظلمات المتراكمة مكاناً يخلو فيه بنفسه، ويقدح فيه زناد فكره، ويناجي فيه ربهº فإذا نورُ النبوة يتلألأ بين جنبيه، وحكمة الله تتدفق بين شفتيه.

وأما علمه فهو ما يزكي النفوس، وينقي الأبصار، ويرفع الأمم إلى ذروة العز والشرف، حتى تحرز الحياة الطيبة في الأولى، والسعادة الباقية في الأخرى.

ومَن يتدبر القرآنَ والأحاديث الثابتة حتى يتفقه فيما انطويا عليه من حقائق وحكم وآداب - يلف رأسه حياءاً من أن ينفي عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عظمة العلم تحت اسم الفلسفة، متكئاً على أنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب.

وقد خرج من بين يدي محمد - صلى الله عليه وسلم - رجال عظماء، ولم يتلقوا من العلم غير ما كانوا يتلقونه في مجلسه من حكمته، فكانوا منبع علم وأدب، وأدركوا في حصافة الرأي وقوة الحجة الأمد الأقصى.

وأما خُلقه فهذه السيرة المستفيضة في القرآن، وعلى ألسنة الرواة وأقلامهم تنطق وتلوحº بأنه قد بلغ الذروة في كل خلق كريم، وبَسطُ القول في هذا الصدد لا يغني فيه سفر، بل أسفار.

وأما إخلاصه فقد كان صافي السريرة لا يبغي إلا هدياً، ولا ينوي إلا إصلاحاً، والإخلاص روح العظمة وقطب مدارها، وأقرب شاهد على إخلاصه في دعوته أنه لم يحد عن سبيل الزهد في هذه الحياة قيد أنملةº فعيشه يوم كان يتعبد في غار حراء كعيشه يوم أظلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر من ناحية تبوك.

وأما صدق عزيمته فقد قام - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى العدل ودين الحق، ويلقى من الطغاة والطغام أذىً كثيراً، فيضرب عنه صفحاً أو عفواً، ويمضي في سبيل الدعوة لا يأخذه يأس، ولا يقعد به ملل، ولا يثنيه جزع، وقد ظهر دين الله وَعَلت حكمته بهذا العزم الذي تخمد النار ولا يخمد، وينام المشرفي ولا ينام.

وأما عمله فتهجد وصيام، وتشريع وقضاء، ووعظ وإرشاد، وسياسة وجهاد، وهل من سيرة تُبتَغى لعظمة يرضى عنها الله، ويسعد بها البشر غير هذه السيرة؟

وهل يستطيع أحد أن يدلنا على رجل كان ناسكاً مخلصاً، ومشرعاً حكيماً، وقاضياً عادلاً، ومرشداً ناصحاً، وواعظاً بليغاً، وسياسياً أميناً، ومجاهداً مصلحاً، وفاتحاً ظافراً، وسيداً تذوب في محبته القلوب، غير المصطفى - عليه الصلاة والسلام -؟

وأما حسن بيانه فقد أحرز - عليه الصلاة والسلام - من خصلتي الفصاحة والبلاغة الغاية التي ليس وراءها لمخلوق غاية، فانظروا إن شئتم إلى مخاطباته وخطبه وما يضربه من الأمثال، وينطق به من جوامع الكلمº تجدوا جزالة اللفظ، ومتانة التركيب، وسهولة المأخذ، إلى رفعة الأسلوب، إلى حكمة المعنى.

عَظَمَةٌ انتظمت من هذه المزايا العاليةº فبلغت حد الإعجاز، وكل درة في عقد حياة محمد - عليه الصلاة والسلام - معجزة[2].

هذا وإن مما يبعث على الأسى، ويدعو إلى الأسف والحسرة ما تناقلته وسائل الإعلام في الأيام الماضية، حيث تناولت ما تبثه صحف الدانمارك والنرويجº تلك الصحف التي ما فتئت تنال من مقام النبوة بأسلوب ساخر، ينم عن حقد دفين، وحسد يأكل قلوبهم، ويأبى لها إلا تغالط محل الحقائق، وتتيه في أودية الزور والبهتانº ظانين أن ذلك ينزل من مقام النبوة الأعظم فتيلاً أو قطميراً.

وفي تعب من يحسد الشمس نورها ويجهد أن يأتي لها بضريب

(( يُرِيدُونَ أَن يُطفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفوَاهِهِم وَيَأبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ ))[التوبة:32].

ولقد ساء ذلك الفعل الشائن قلوب المسلمين، وتتابعت أقلام الكتاب في رد ذلك الزيف، وإبطال ذلك الكيدº فكان من ذلك بعثٌ لفضائل هذا النبي الكريم - عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم -.

وإذا أراد الله نشر فضيلة                  طويت أتاح لها لسان حسود

وفضيلة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تطوَ وإنما تتجدد، وتتلألأ كالبدر في سماء صاحية، وكالشمس في رأد الضحى.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply