بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
من الأمور التي قد يقع فيها الاشتباه, التفريق بين التجمل وحسن الهيئة, وبين التفاخر والتعالي.
فالتجمل هو أن يحسن العبد هيئته ولباسه حتى تظهر عليه نعمة الله, من غير أن يقارن لباسه بلباس غيره, أو يطمع أن يكون لباسه أرفع من لباس أخيه.
وأما التفاخر والتعالي, فهو محبة المرء أن يكون لباسه فوق غيره, وأرفع منه.
وهذا يشمل اللباس, والمنزل, والمركوب, ويشمل المكاثرة في الأموال, والأولاد, وغير ذلك.
والمنهي عنه هو التكاثر وليس الكثرة, “فلو حصلت له الكثرة من غير تكاثر لم تضره, كما كانت الكثرة حاصلة لجماعة من الصحابة ولم تضرهم؛ إذ لم يتكاثروا بها” كما قال ابن القيم([1])
لذا ذمّ الله تعالى التكاثر, ولم يذم الكثرة, فقال: “ألهاكم التكاثر”, وقال: “إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد([2])”
فإذا اتضح الفرق بين الكثرة والتكاثر اتضح الفرق بين الجمال والتفاخر, وهذا الفرق قد أشار إليه النبي ﷺ لما قيل له: “إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال: إن الله جميل يحب الجمال, الكبر بطر الحق وغمط الناس([3])”أي التعالي عليهم.
ووضح ذلك القارِي رحمه الله, حيث قال: “(يحب أن يكون ثوبه حسنا) أي: من غير أن يراعي نظر الـخَلْق, وما يترتب عليه من الكبر والخيلاء، وعلامة صدقه أن يحب ذلك أيضا في الخلاء([4])”
وقال ابن رجب: “إذا أحب المؤمن لنفسه فضيلة من دِين أو غيره, أحبَّ أن يكون لأخيه نظيرها, فأما حُبّ التفرد عن الناس بفعل ديني أو دنيوي, فهو مذموم، قال الله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا)، وقد قال علي وغيره: هو أن لا يحب أن يكون نعل غيره خيرا من نعله, ولا ثوبه خيرا من ثوبه([5]) ونحو هذا قال الطبري ([6])وابن بطال.([7])
ومن صور الفخر والمكاثرة, أن يشتري اللباس أو غيره من أجل ارتفاع ثمنه, أو لأنه من (الماركة الفلانية) المعروفة بغلاء منتجاتها كالساعات أو الحقائب, وهو لو وجد ساعة أو حقيبة أخرى أجود منها وأجمل -لكنها من ماركة أقل منها- لم تملأ عينه, فهذا في الحقيقة يتزين بالمال لا بالـحَسَن والـجميل.
وهو عند أهل العلم دليل على نقص الرُشْد, قال العيني: “قد عدَّ أهل العلم شراء الحيوان بأعلى من سعره -تفاخراً- من باب السَفَه([8])”
بخلاف من اشتراها لأنها أجود ما يعرف, أو أجمل ما يجد, وهو لو وجد (ماركة) أخرى أجود منها أو أجمل لأخذها, ولو كانت أقل ثمنا… فهذا ليس داخلا في الفخر والمكاثرة.
وهذا النوع من الفخر إنما وجب الوقوف معه, لأنه شعبة من شعب الكِبْر, لذا قال النبي ﷺ: “إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا؛ حتى لا يفخر أحد على أحد ([9])”وكفى بالكبر إثما.
كما أنه من أعظم ما يُلهي النفوس عن الله, ويصرف القلوب عن الخضوع له, ويشغلها عن المكاثرة في الآخرة([10]) فيجب على المسلم أن يتعاهد سلامة قلبه من الفخر والتكاثر, ويجاهد نفسه على مدافعتها.
وهذا النوع لا يجوز الخوض فيه بالظنون, واتهام المسلمين في مقاصدهم ونواياهم, فهو من الأمور القلبية المستورة, فليس كل من يشتري الكماليات الغالية, أو يكثر من إهدار المال بدون تدبير – يقصد بذلك الفخر على الناس… والأصل حسن الظن بالمسلمين([11])
هذا, وأقبح أنواع الفخر والمكاثرة, هو التصريح بها “أنا أكثر منك مالا وولدا”.
ويدخل في التصريح أيضا, أن يُظهر للناس أمواله أو زينته بدون مصلحة تدعو لذلك, فإن فِعْله هذا لا يكون إلا فخرا. ومن هذا عمل قارون, حينما خرج على قومه في زينته يتفاخر بها عليهم.
وهذا النوع تسلل مؤخرا إلى بعض الناس دون انتباه؛ وذلك حين ينشر صورته في الفنادق الفخمة, والسيارات الفارهة, أو تصور المرأة ماركات حقائبها وساعاتها وملابسها, دون مصلحة.
ومن صوره أيضا, أن يُظهر للناس عدم مبالاته بالتبذير, ووضْع المال في غير موضعه…
فمن فعل هذا علَـنًا, فهو طالب للفخر والمباهاة بكثرة أمواله, وقد سئل ابن عقيل: عن كتابة عقد النكاح وقيمة المهر على الحرير؟ فقال: “إنما يقصد المباهاة –يعني على الزوجة وأهلها-, وهي التي حرم لأجلها الحرير, وهو الكبر والخيلاء([12])”
فهذا حقيقته هو التجمل بالمال, وهو مما لم تأذن به الشريعة, وصاحب هذا الفخر مخاطَب بموعظة القرآن “لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين”.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
([1]) عدة الصابرين لابن القيم 193, ونحوه في 170.
([2]) قال الرازي: التفاخر والتكاثر شيء واحد. تفسير الرازي 32/269, وينظر تفسير ابن عطية 5/266, عدة الصابرين170, تفسير العثيمين جزء عم 302.
([3]) صحيح مسلم 91
([4]) رقاة المفاتيح 8/3189.
([5]) فتح الباري (1/41) وقال: “وأما الحديث الذي فيه أن رجلا سأل النبي ﷺ فقال: إني أحب الجمال، وما أحب أن يفوقني أحد بشراك أو بشسع نعلي، فقال له النبي ﷺ: “ليس ذلك من الكبر”، فإنما فيه أنه أحب أن لا يعلو عليه أحد، وليس فيه محبة أن يعلو هو على الناس، بل يصدق هذا أن يكون مساويا لأعلاهم, فما حصل بذلك محبة العلو عليه, والانفراد عنهم. فتح الباري (1/42).
([6]) قال الطبري: “النهي محمول على من أحب ذلك ليتعظّم به على صاحبه, لا من أحب ذلك سرورا بجودته وحسنه”. شرح ابن بطال 9/79 و80, التوضيح لشرح الجامع الصحيح 27/581, فتح الباري لابن حجر 10/260.
([7]) قال ابن بطال: “وفي قول ابن عباس (كل ما شئت, والبس ما شئت, إذا أخطأتك اثنتان؛ سرف أو مخيلة) أنه يباح للرجل اللباس من الحسن والجمال فى جميع أموره, إذا سلم قلبه من التكبر به على من ليس له مثل ذلك من اللباس”. شرح البخاري 9/79.
([8]) عمدة القاري 12/246.
([9]) صحيح مسلم 2865
([10]) ينظر تفسير الرازي 32/270, تفسير القرطبي 20/168, عدة الصابرين 171 و 193.
([11]) وقد أشار النبي r لهذا المعنى حينما فرق بين الإسراف والمخيلة, فقال: “كل واشرب والبس وتصدق من غير سرف ولا مخيلة” والمخيلة هي الاختيال والفخر.
([12]) بدائع الفوائد 3/151.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد