بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قبل سنوات ليست بالقليلة، اتصل بي أحد الشباب مبديًا رغبتَه الشديدة في مقابلتي بصورة شخصيَّة، رحبتُ به ودعَوتُه لزيارتي في منزلي، وقد خُيِّلَ إليَّ من حديثه المرتبك، والقلق في الهاتف، أنه يُخفي بعض الأسئلة الخاصة والحرجة.
أتى إليَّ في الموعد الذي تم تحديده، وكان أولَ شيءٍ استوقفني منه مظهرُه، الذي يوحي أنه شاب متدين فاضل.
لقد كان مترددًا في طرح ما عنده، متحفظًا غاية التحفظ؛ ولذا بدأتُ في الكلام لأبيِّن له أنني لا أحب الرسميات، وليس عندي أي تحفظ في مسائل التدارس والتعلم للوصول إلى الحقائق، وكلنا نتعلم من بعضنا، وكلنا قد يُشكل عليه أشياءُ كثيرة.
وجَدَ في هذه الكلمات راحة نفسية، ومع ذلك قال بحذر ومداراة: هناك بعض الأخوة تُشكل عليهم بعضُ الأفكار، وتزعجهم بعض الخواطر، ولم يجدوا لها حلاًّ!
ثم أكمل كلامه -وقد أزعجه الارتباك- بقوله: أحد الزملاء عنده بعض الأسئلة الخاصة جدًّا، وهو يخاف أن يسأل أحد العلماء أو طلبة العلم؛ لما سيترتب عليه من مشاكل معتادة، وقد قصدتُك؛ لعلمي باهتمامك بهذا الموضوع.
فقلتُ: على الرحب والسَّعة، سواء كانت تلك الأسئلة لصاحبك أو لك.
تلعثم وارتبك ثم قال: لا، لا، ليست لي؛ بل لصديقي.
بدأ في طرح أسئلة تدور حول "المسائل الوجودية الكبرى" وناقشني فيها، وبعد نهاية كل مسألة يُوفِّق الله -تعالى- للإجابة عليها بصورة شافية، أرى وجهه يتهللُ استبشارًا، عندها أيقنتُ أنها أسئلته، وليست أسئلة غيره.
كان ذلك منذ زمن، ثم ازداد اهتمامي بهذا الموضوع، وأمضيتُ سنوات ليست بالهينة في دراسة بعض الشخصيات القلقة في الوسط الإسلامي؛ من أمثال: أبي عيسى الوراق، وابن الراوندي، وانتهاءً بعبدالله القصيمي، وقد نشرتُ بعضًا منها في بعض الصحفِ والكتب.
كنتُ أعتقد اعتقادًا جازمًا أن بلادي -السعودية- في منأى عن تلك الأخطار الفكريَّة، كان ذلك اعتقادي الراسخ حتى زمنٍ ليس بالبعيد، إلا أن مظاهر العولمة والانفجار الثقافي الهائل، والذي خرج كالمارد من قمقم وسائل البث المباشر والاتصالات الحديثة؛ كالقنوات الفضائية والإنترنت، ثم التقارب الفكري والثقافي الهائل مع الآخر - جعل أبوابَ المجتمع مفتوحة على مصراعيها لكل شاردة وواردة، ولكل فكرة وعقيدة، هذا الانفجار الثقافي جعل "الكتاب الإلكتروني" بصيغه المختلفة في متناول الجميع، وبضغطة زر واحدة يصبح أي كتاب - مهما كان مَشربُه - بين يديك.
إن هذه الظاهرة البشرية، والعولمة الثقافية، فتحتِ الأبوابَ على مصراعيها، وجعلت عقول الشباب تحت القصف الدائم والمركَّز مِن الآخر، ومَن يتبع له من المتعاطفين معه، فأنتجت أسئلة فكرية وعقدية جديدة، في إطارٍ فارغٍ من أي فكرٍ أصيل عند هؤلاء الشباب، وساعد على تنامي ذلك غفلةٌ من أهل الفكر الأصيل، فتشكلت قناعات جديدة، ورؤى حديثة، وأصبحت هذه الأسئلةُ المحمومة، والأفكارُ الجديدة نشطةً في أوساط بعض الشباب والمراهقين، والذين لم تكن لهم خلفية ثقافية دينية متينة. ولعل ما نسمعه أو نشاهده اليوم من روايات أو قصص أو مقالات صدرت من هؤلاء الشباب، ليس إلا القطرات الأولى من هذا الطوفان القادم، طوفان التمرد الفكري بكافة مستوياته وأشكاله.
إن هذا المخاض والحِراك الدائب، يتم في غفلة طويلة، ونوم عميق من قِبَل المهتمين والمختصين بالشأن التربوي والديني، وإنني أزعم أننا في هذا الوقت نواجه تمردًا فكريًّا مقنَّعًا، وعما قريب -لا قدر الله- سيصبح تمردًا علنيًّا، قد يقلب معادلات كثيرة، ويغيِّر تصورات عديدة كانت راسخة ونمطية عن مجتمعنا، قد يحدث هذا في أي لحظة؛ ما لم يُسارع أهل الاختصاص في التدخل لوقف أو تخفيف حدة هذا الطوفان المستتر، والحديث هنا ليس عن تمردٍ على أعرافٍ، أو آراء معينة سائدة، أو اختيارات فرعية، وإنما تمردٌ يمسُّ الأصول الكبرى لعقيدة الإسلام النقية.
لقد كانت الشهوات -التي تزيِّنها وتدعو إليها أغلب القنوات الفضائية- هي الخطرَ الأعظم الذي كان يواجهه الشبابُ، وكان المشايخ والدعاة والوعاظ يركزون جهودهم عليها تحذيرًا ومعالجة؛ لكن موجة أخطر وأعظم -يَهون عندها ذلك الخطر- وهي موجة الانحراف الفكري، والخلل العقدي، أصبحت اليوم على وشْك اقتحام عقول الشباب بشكل كبير؛ بفضل القنوات الفضائية، ومنتديات الإنترنت، والروايات.
إنها حرب عقائدية وفكرية، تستقطب كافة القدرات والعقليات؛ لزعزعة الثوابت العقائدية، وخلخلة الأمن الفكري عند الشباب، وإنني أزعم -آسفًا- أن تلك الحرب نجحت نجاحًا كبيرًا في التسلل إلى شريحة من شبابنا، في ظل غفلتنا وتساهلنا.
لقد شُغل أهل الفكر ونُخب المثقفين والدعاة، عن هموم الشباب -ذكورًا وإناثًا- وخصوصًا أسئلتهم الحرجة والذكية، بصراعات ومعارك داخلية، فتَّت في اللحمة الفكرية، وشككت الشباب في قيمهم ورموزهم، كما حصل في المواجهات التي دارت بين بعض طلاب العلم في الفترة الماضية حول مسائل منهجية تتعلق بمسيرة الدعوة إلى الله، أكثرها مما يقبل الاجتهاد والتأويل.
لقدأنتجت تلك المعارك ضحايا، وبأشكال مختلفة، وخرَجت من تحت عباءتها تياراتٌ جديدة، نفضت عنها غبار وأنقاض تلك المعارك؛ كالعقلانية الإسلامية، والإصلاحية التنويرية، والليبرالية الإسلامية، كما يسميها البعض، لقد كان أغلب هؤلاء هم من أبناء الصحوة السابقين، والذين أرادوا أن يُبينوا عن سخطهم على ما حدث -بالإضافة إلى أسباب أملتْها طبيعة المرحلة- بانتحال تلك الأشكال الجديدة للتصحيح، مع بقاء بعضهم في الأغلب -محسنين الظن- داخل إطار المبادئ الكلية للإسلام.
وأنتج الوضع الجديد معركةً جديدة بين التقليديين - كما يحلو للبعض أن يسميهم- وبين فريق التنويريين والعقلانيين والليبراليين الإسلاميين - كما يصفون أنفسهم- وتمحور الصراع حول شرعية مبادئ الحرية، والديمقراطية، والعدالة، والأنسنة، والمجتمع المدني، والموقف من الآخر، مع رفع الفريق الثاني شعارَ التمسك بالأصول والثوابت، كما يفهمها هو.
وقد استنزف هذا الصراع قدراتِ الطرفين، وهممَه وجهودَه، وضم فريق شعارات التنوير أطيافًا عديدة ومختلفة ومتناقضة من اليمين إلى اليسار، وربما استقوى في ذلك بأطراف خارجية، حتى وصل الحال بقلة منهم إلى الخروج من الدائرة بشكل كلي، وإعلانه الانسلاخ من كل ما يمت إلى الأمة من مقدساتٍ وثوابتَ.
وفي موازاة تلك التيارات التنويرية وما رافقها من نقد وانتقاد، كان هناك تيار آخر يتشكل في ضوء الوضع الجديد، وهو تيار شبابي حديث، منقطع عن الجذور، ومتمرد على التصورات التقليدية والتنويرية، منكر للرب، هاجر للعبادات، ويقتات على النقد والصراع الجديد بين ما يُسمى بالمحافظين والليبراليين الجدد، وتجاوزت ذلك - بفضل التقنيات الحديثة، وإجادة اللغات الأجنبية، والابتعاث - إلى الارتكاز والتمحور حول الروايات الأجنبية بمختلف أشكالها، والكتب الفلسفية، وأطروحات المذاهب الفكرية الحديثة، فأنتج ذلك المخاض جيلاً شبابيًّا منقطع الانتماء والجذور عن مجتمعه، يحمل ثقافة مستوردة، قائمة على الشك، وناقمة على الثقافة المحلية، وحاقدة ومبغضة للنمطية، تتخذ النسبية دينًا، ولا تعترف بوجود حقائق ثابتة، كل ذلك مع ضعفٍ شديدٍ في التصورات الشرعية.
ومما زاد الأمرَ سوءًا، عند هؤلاء الشباب، أمران:
الأول: الحملة المحمومة في وسائل الإعلام على المتدينين، وعلى أنماط التدين، تلك الحملة الشاملة في الصحف والقنوات والمسلسلات، والتي تناولت الدين والمتدينين دون معرفة دقيقة أو تمييز، ودون حسبان للجوانب السيئة والنتائج الخطيرة التي سوف تنتجها حملة التشكيك والتشويه، مع أمنٍ مِن محاسبٍ ورقيب.
لقد ربطوا مظاهر الدين والتدين في تعاطيهم معها -يُظن أنها مقصودة ومدروسة- بالإرهاب، والعنف والتطرف، وسوء الأخلاق، والغباء، والجهل، والتدمير. لقد كانت حملة مركزة، وجرعة قاتلة، حطمت إلى حد كبير أسس القوة الناعمة (أي قوة القيم والمبادئ وأسسها الفكرية) التي كان المجتمع يتحلى بها.
الثاني: ممارسات منحرفة حملت بصمة التدين؛ كما فعلت الفئة الضالة في ترهيب المجتمع، بالإضافة إلى تصرفات كثيرٍ من المتدينين -على الأقل في الظاهر- والتي تحلت بالقسوة والخشونة في التعامل مع الآخرين، والتحزبات والتكتلات داخل مجتمع المتدينين، ووُجِدَ منهم مَن انبرى لتصنيف الناس، وكأنهم قضاة في محاكم للتصنيف، كل ذلك أدى - إلى حد كبير - إلى تحطيم لحمة البناء الداخلي وتصدُّعه، وخروج تلك الصراعات القاسية والخشنة للعلن، وتجاوزت دائرتَها الضيقة وانتقلت إلى عامة الناس، وتعصب بعض طلاب العلم لبعض العلماء ضد البعض الآخر، وازدادت الشُّقة، واتسعت الهوة بين العلماء أنفسهم وأتباعهم من طلبة العلم، حتى تساءل الناس: ما هي الجامية، وهل هي الجهمية؟ وما هي القطبية، وهل لها علاقة بالقطب الشمالي، أو الأقطاب الصوفية؟!
ولماذا العالم الفلاني الكبير يسفه رأي العالم الفلاني الآخر في مسائل فقهية فرعية؟ وكل ذلك يجري على الصفحات اليومية للصحف ومواقع الإنترنت على الشبكة العنكبوتية المفتوحة للجميع.
نشأ وترعرع هذا الجيل الجديد في هذه البيئة التنازعيَّة القلقة، وأضحى الواقع يفرز - بطريقة مقصودة وغير مقصودة - شبابًا لا يؤمن بثوابته؛ بل يزدريها ويحاربها، وقد ظهر شيء من آثاره من خلال الروايات التي تُطرح بين حين وآخر، ومن خلال اللقاءات التلفزيونية والكتابات الحادة -والتي تصل إلى الإلحادية- والتي تنقلها لنا الشبكة العنكبوتية ومنتديات الإنترنت، التي تزعم أنها سعودية!
لقد كنتُ أُشكك في انتماء كثير من تلك الأسماء -التي تكتب في تلك المنتديات- إلى وطننا، وكنتُ أظنهم أجانبَ يتخفون بالأسماء الوطنية؛ لتمرير أفكارهم الإلحادية، لكن بعد متابعة دقيقة لتلك المنتديات وتلك الأسماء، وطريقتها في الكتابة، ولغتها ولكناتها، وما كُشف منها عن طريق الصدفة، دلَّ دلالة واضحة أن كثيرًا منها ينتمي لنا ولبيئتنا، وهذه حقيقة مؤلمة جدًّا.
ثم زاد قناعتي الجديدةَ رسوخًا، ما حدث لي شخصيًّا في السنوات الأخيرة، حيثُ قابلتُ واتصل بي كثير من الشباب الذي يُخفي إلحاده، أو على أقل تقدير شكوكه في كل شيء!
لقد زارني -فقط- السنة الماضية في مدينة الرياض ما يُقارب ثمانية من الشباب، كلٌّ منهم على حدة، وهم -والله- من أذكياء الشباب، وعلى قدرٍ عالٍ من الثقافة العامة، وقد صارحوني بإلحادهم، وأنهم يريدون الحوار الأخير؛ لكي يصيروا إلى إحدى نتيجتين لا ثالث لهما: إما أن يستقروا على إلحادهم، ويصلوا إلى يقين في ذلك، وإما أن أُشككهم في إلحادهم، لنبدأ الطريق من جديد نحو الإيمان.
لقد قال أحدهم: بقي لدي 1 % من القابلية للإيمان، وأتيت لك لأمتحن هذه النسبة، وأقطع الأمر. وأحدهم أخبرني برغبته في الانتحار. وآخر يقول: إني كل يوم كأني آكل الثلج المالح؛ بسبب الشبهات الإلحادية التي تعصف به، وتزلزل كيانه. وإحدى الفتيات كانت مُتدينة، وشديدةَ الحماسة للدفاع عن دينها، وهي على خُلقٍ عالٍ وثقافة جيدة، وبعد سنوات من دخول الإنترنت، ومحاورة الفرق والطوائف والأديان المختلفة، أصبحت ملحدة!
أحد الشباب الذين سافروا للابتعاث إلى إحدى الدول الأوروبية، وكان من أذكياء الشباب، وقد أعجب به مشرفه الأكاديمي، وكان المشرف ملحدًا، فاختصه بالعناية والرعاية، يقول لي هذا الشاب: "لقد أطلعني مشرفي على خفايا حياة الخلية، والصراع داخلها، والفوضى التي تعم الحياةَ كلها من أعماق المحيطات المظلمة، حيث تتصارع الحيتان بلا هوادة، إلى الحشرات الدقيقة التي تسبح في الآفاق، لقد أقنعني بالإلحاد، وأصبحتُ ملحدًا".
ومجموعة أخرى من الشباب، يتجمعون كل نهاية أسبوع، ويعقدون جلسات فكرية، تُروَّج فيها الأفكار، وتوزَّع فيها الكتب الإلحادية. ومجموعة أخرى من طلاب التخصصات العلمية يُناقشون نظرية "تشارلز دارون" بإعجاب وإكبار، ويعبِّرون عن إيمانهم بها في ثوبها الجديد المطور، وأنه لا وجود لخالق لهذا الكون، وكل هذا بفضل ما تبثه بعض القنوات العربية، والمحسوب بعضها على السعودية.
بعض هؤلاء الشباب الذين التقيت بهم، أخبَروني أن أصحابهم كثرة كاثرة، ولكنهم يبقون قلة خطيرة في مجتمعنا، وأنهم لا يرغبون في الحضور في هذا الحوار؛ لسببين: إما الخوف، وإما أنهم لا يحتاجون إلى هذا الحوار؛ لقناعتهم بما هم عليه.
إن ما مضى ليس إلا مجرد عرضٍ سريع لواقعٍ يجهد في التخفي، وإلا فإنه أكبر وأشمل من أن تحيطه مثلُ تلك الكلمات، لكنني أرغب بإلحاح أن أعقبَ على ما سبق ببعض النقاط المهمة، وسوف أتحدث في الحلقة القادمة -بإذن الله- عن دور الدولة ودور العلماء في هذه المرحلة.
تحدثتُ فيما سبق عن توصيف الحالة التي يمر بها بعض الشباب من أبناء هذا الجيل، والملابسات التي أفرزت ذلك، أما الآن فسوف أتحدث عن واجبنا جميعًا تجاه هذا الجيل، دولةً وعلماءَ وطلابَ علم.
أولاً: دور العلماء في صيانة عقول الشباب:
مما يحزنني حزنًا شديدًا، أنه حينما يسعى بعض العلماء لتنبيه العلماء وطلاب العلم إلى وجود تلك الحالات، وما يترتب على انتشارها من خطر، في ظل غياب دورهم المهم في دفعه، يُواجَهون - للأسف - ببرود وتجاهل، وتكرار عبارة: نحن بلد التوحيد!
هذا صحيح، لكننا نتعاطى مع بشر، ومع شبابٍ ومراهقين، قد طمعت فيهم الجهات المشبوهة، والمنظمات الدولية، وربما بعض (الطوائف والفرق)، وغفل عنهم الرقيب، وغاب المثال الصالح، وتصارعت الأفكار أمامهم، وتساقطت الرموز، وقَصَفَتْ عقولَهم الأفكارُ الخارجية، مع لين العود، وحداثة السن، وقلة المحصول الشرعي، فماذا تنتظرون من هؤلاء؟
إن الأفكار عند هؤلاء الشباب الطريين تبدأ بشكل وساوس عابرة، ومع تجاهلنا لهم، بل وخوفهم منا، تزداد تلك الوساوس والإيرادات، لتصبح إرادات، ثم اعتقادات راسخة.
والحديث هنا ليس عن بعض الكتبة المفتونين، من أرباب الشهوات، وطالبي الشهرة، الذين يُلبِسون شهواتِهم ونزواتهم لباسَ الفكر والفلسفة، وإنما حديثي عن شبابٍ نابهين صادقين مع أنفسهم، غير أن الحيرة تحيط بهم، وتزعزع تصوراتهم، وغالبًا ما يتصفون بالذكاء والنباهة، والرغبة في اقتحام كل مجالٍ فكريٍّ يشرعُ أمامهم، فورود الإشكالات الفكرية والشبهات العقدية على أمثال هؤلاء أصبح أمرًا مألوفًا في هذا العصر، يتعرض له المؤمن المثقف، فضلاً عن الشاب الغر السطحي، وإن من أقل واجبات العالم حمايةَ هذا الجيل من مخاطر تلك الأفكار المسمومة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: "وأما المؤمن المحض فيعرض له الوسواس، فتعرض له الشكوك والشبهات وهو يدفعها عن قلبه، فإن هذا لا بد منه".
وكيف يستطع هؤلاء الأغرار أن يدفعوا شبهات الإلحاد عن أنفسهم، وفاقد الشيء لا يُعطيه؟ وكيف لهم أن يدفعوها بواسطة العلماء وهم يُخوَّفون منهم، فيحال بينهم وبين الوصول إليهم؟!
لقد حدثني أحد الشباب -الذين تأثروا ببعض الشبهات- أنه ذهب إلى أحد العلماء الكبار؛ كي يدفع عنه آثار تلك الشبهات بالحجج العقلية والنقلية، فإذا به يُصدم بهذا العالم الجليل وهو يطرده من مجلسه، ويُهدده باستدعاء الشرطة!
لقد بيَّن ابن القيم -رحمه الله- أن الناس حينما تتخبطهم الشبهات والشكوك، وتحيط بهم الطوائف المتعددة والمختلفة، البعيدة عن الهدى، ويغيب العالم الرباني الذي يَهدي الناسَ إلى مسالك الأنوار، ولا يجدون من يُنقذهم منها، فإن عقولهم تضطرب بالشبهات، وتتأصل فيها، وخصوصًا الأذكياء.
يقول ابن القيم واصفًا واقعًا شبيهًا بما أتخوفه على شبابنا: "فعظُمت البلية، واشتدت المصيبة، وصار أذكياء العالم زنادقةَ الناس، وأقربهم إلى التدين والخلاص أهل البلادة والبله".
هذه الكلمات من ابن القيم تُعد أمرًا عظيمًا يستحق التوقف عنده كثيرًا ؛ من أجل رسم منهجية في التعامل مع العقليات الذكية والمتميزة، التي قد تنحرف بسبب الآراء الضالة -إرهابيةً كانت أم إلحادية- في ظل غياب الرموز والأعلام الهادية.
إن تقصير العلماء والدعاة اليوم كبيرٌ في دفع تلك الشبهات عن الشباب، وقد فقد كثير من الشباب ثقتَهم في بعض العلماء؛ لأن بعضهم يمثل بحد ذاته مشكلة في طريقة تعامله مع هؤلاء الشباب، وبعض آخر يمثل مشكلة أخرى أكبر بسبب الآثار المدمرة للصراع الداخلي الذي حصل ويحصل بينهم.
إن حاجة الناس في عصرنا الحاضر للعلماء وطلبة العلم، و المعالجة الناجعة لتلك المواضيع المتصلة بتلك الإشكالات الجديدة - حاجةٌ ملحة وضرورية، وهي معالجة يجب أن تتسم بالحكمة، واتباع النص، وموافقة العقل السليم، وإشباع رغبة النفس باليقين والاطمئنان.
ومما نحمد الله عليه، أن دِيننا متينٌ، وأنه لا تعارض بينه وبين العقل أو العلم السليمين، بل ثبت أن ما يأتيان به إنما هو في حكم التابع للدين، الجاري مجراه؛ وإنما الخلل ينبع من أفكارٍ وافدةٍ نشأتْ في بيئة يشيع فيها الإلحاد، فتغلغلت في عقول هشة، فوجب على العلماء وحراس العقيدة أن يبينوه للناس.
قال ابن تيمية: "ما عُلم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع ألبتة؛ بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط. وقد تأملتُ ذلك في عامة ما تَنازع الناسُ فيه، فوجدت ما خالف النصوصَ الصحيحة الصريحة شبهاتٍ فاسدةً يُعلَم بالعقل بطلانها؛ بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع".
وقال: "والقول كلما كان أفسد في الشرع، كان أفسد في العقل، فإن الحق لا يتناقض".
يأيها العلماء الكرام، إن القنوات الفضائية المخالفة، والمواقع المعادية عقديًّا تشن حربًا لا هوادة فيها على الدين، وتواصل بثها للشبهات حول آيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة، وحول التفاسير، وتنشر ما علق بالتراث من الغث والضعيف، والموضوع والخرافي، زاعمةً أن هذا هو ديننا، وموردةً الشبهاتِ بوسائل حديثة، وتقنيات خطيرة.
والشباب كما هو معلوم، وهم الأكثرية الغالبة في مجتمعنا اليوم، وهم في الوقت نفسه الشريحة التي تدمن مطالعة الإنترنت (تشير الدراسات أن 90 % من متصفحي الإنترنت من الشباب) ومشاهدة القنوات - صاروا بهذا ضحية للشبهات السياسية والدينية. ولاشك أن اهتزاز هذين الأمرين في الشريحة الشبابية، يعني تغيرات جذرية في الخارطة الفكرية بشقيها السياسي والديني لا قدر الله.
هذا هو الواقع، وهذه هي ضريبة التقنية، التي لا يمكن مواجهتها بالمنع، أو سياسة التكتم، أو وضع الرأس في التراب. لا بد من مواجهة الفكر بمثله؛ لمقاومته وصده، ولا بد من الاستفادة من التقنية؛ لكبح شر الجانب السلبي فيها أو تخفيفه.
إن سياسة التكتم أو المنع أو الحجب قلَّت فاعليتُها، وضعفت جدواها، وعُزلة العلماء وصدودهم لم يعد أمرًا مقبولاً، وتنازعهم فيما بينهم أصبح اليوم أكثر قبحًا ودمامة. لقد أخذ الله على العلماء العهد والميثاق بالبيان والتوضيح للناس، توضيح أمر الدين الصحيح، والذب عنه وحراسته، ولا بد لهم من مواكبة الأحداث ومتابعة المستحدثات من الشبهات والرد عليها.
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية، حينما قام أحد الحائرين -من أمثال بعض شبابنا- بإرسال مجموعة من الأبيات الشعرية، يشكك بها في القدر، إلى مجلس شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنها قوله:
إِذَا مَا قَضَى رَبِّي بِكُفْرِي بِزَعْمِكُمْ وَلَمْ يَرْضَهُ مِنِّي فَمَا وَجْهُ حِيلَتِي
دَعَانِي وَسَدَّ البَابَ عَنِّي فَهَلْ إِلَى دُخُولِي سَبِيلٌ بَيِّنُوا لِي قَضِيَّتِي
قَضَى بِضَلاَلِي ثُمَّ قَالَ ارْضَ بِالقَضَا فَمَا أَنَا رَاضٍ بِالَّذِي فِيهِ شِقْوَتِي
فَهَلْ لِي رِضَا مَا لَيْسَ يَرْضَاهُ سَيِّدِي فَقَدْ حِرْتُ دُلُّونِي عَلَى كَشْفِ حَيْرَتِي
فما كان من شيخ الإسلام إلا أن نظم في ذلك المجلس قصيدةً يرد فيها بإحكامٍ على قصيدته، وهي قصيدة طويلة فصَّل فيها الشيخ الردَّ، وأبان الأمر، ومنها:
سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ مُخَاصِمِ رَبِّ العَرْشِ بَارِي البَرِيَّةِ
وَهَذَا سُؤَالٌ خَاصَمَ المَلأَ العُلاَ قَدِيمًا بِهِ إبْلِيسُ أَصْلُ البَلِيَّةِ
وَمَنْ يَكُ خَصْمًا لِلْمُهَيْمِنِ يَرْجِعَنْ عَلَى أُمِّ رَأْسٍ هَاوِيًا فِي الحَفِيرَةِ
وَأَصْلُ ضَلاَلِ الخَلْقِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ هُوَ الخَوْضُ فِي فِعْلِ الإِلَهِ بِعِلَّةِ
فَقَوْلُكَ لِمَ قَدْ شَاءَ مِثْلُ سُؤَالِ مَنْ يَقُولُ فَلِمَ قَدْ كَانَ فِي الأَزَلِيَّةِ
وَذَاكَ سُؤَالٌ يُبْطِلُ الْعَقْلُ وَجْهَهُ وَتَحْرِيمُهُ قَدْ جَاءَ فِي كُلِّ شِرْعَةِ
وبغض النظر عن فاعلية الجواب من عدمه، إلا أن موجب الإيراد لهذا المثال هو تبيان سرعة استجابة العالم الرباني لمقتضيات الحال، أفلا يجب علينا أن نتحلى بمثل تلك المبادرة السريعة، والاستجابة الفورية للمستجدات الحديثة، كما كان يتحلى بها العلماء الكبار؛ أمثال ابن تيمية وغيره؟
ثانيًا: دور الدولة في حراسة العقيدة:
دور الدولة مهم جدًّا في صيانة الفكر، وحراسة العقيدة، ورعاية الملة، ومراقبة الأفكار الوافدة، وأي دولة مهما كانت -ومنها الدول الغربية المتقدمة- فإنها تقوم على أسسٍ فكرية وعقائدية، قبل أن تقوم على أسسٍ سياسية، والفكر والعقيدة هي البنية التحتية، والقواعد الأساسية للاستقرار والثبات، ولا تخلو دولة من قيمٍ فكريةٍ ترعاها وتحرسها، وتُقاس قوتها بقوة تلك الأرضية الفكرية.
ومتى ما اختُرق النطاق الفكري لأي دولة، أو زُعزع أمنُها الفكري، أو فكِّكت منظوماتها القيمية، فإنها تفقد (قوتها الناعمة)، التي هي في الحقيقة مبدأ تماسكها وترابطها.
وضع وزير الدفاع الأمريكي "رامسفيلد" قواعدَ مهمةً في السياسة والقوة، ومن أهم تلك القواعد قوله: "إن الضعف يحرض عليك الآخرين".
وإن أخطر أنواع الضعف هو الضعف العقدي والفكري، والذي سوف يُحرض جميع أشكال وأنواع الأفكار الأخرى المعادية لك، لاختراق نطاقك الفكري ومنظومتك الأمنية، لتفقد المنظومة تماسكها وجوهريتها، وجاذبيتها وقوتها.
إن الأحداث الإرهابية التي حدثت في السعودية سُبِقت باختراقٍ فكريٍ خارجي وافد (ليس المجال لإيراد الأدلة والوقائع حوله)، وسهل تلك المهمةَ وجودُ التقنيات الحديثة، وتم تجنيد مئات الشباب في هذا المسلك الإرهابي، عن طريق إقناعهم بواسطة الفكر أو (القوة الناعمة للتكفيريين)، لقد أثاروا القتل والدمار أينما حلُّوا، وكانت بدايتهم مجرد فكرة!
وإن المواجهة الفكرية اليوم مواجهة الأفكار الإلحادية، التي لا تقل خطرًا عن مواجهة الإرهاب والأفكار التي تقف خلفه؛ لأن هذه المواجهة تُهدد ديننا وأمننا الفكري ووطننا؛ لأنها في حقيقتها انقلاب فكري له تبعاته المتشعبة سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا... إلخ.
لقد ذكر "جوزيف ناي" - مدير مجلس المخابرات الوطني الأمريكي، ومؤلف كتاب "القوة الناعمة" - أن جدار برلين كان قد تم اختراقه بالتلفاز والأفلام السينمائية، قبل زمن طويل من سقوطه في عام 1989م؛ لأن مطارق الثقافة اخترقته قبل أن يسقط!
وهذه حقيقة واقعية، يشهد لها أنني شخصيًّا قد قُدرَ لي أن أكون حاضرًا في إحدى المحاضرات خارج بلدي، وكان المحاضِر يتحدث عن التأثير الفكري للقيم والأخلاق، ومما قاله: "إننا الآن نُركز على السعودية لاختراق مجالها الفكري، ولم يَعد الأمر صعبًا؛ لأن التقنية تخدمنا في ذلك، ويمكننا أن نصل لعقول الشباب هناك بسهولة"!
ولعل المراقب للمشهد السعودي المحلي يلحظ المتابعة الدقيقة، والاهتمام المتزايد للغرب بالخارطة الفكرية السعودية، وإجراءهم العديد من استطلاعات الرأي العام حول مختلف القضايا الفكرية في المملكة.
إن واجب الدولة تجاه هذا الأمر مُهم جدًّا، فإن ((الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن))، وإن الحصانة الفكرية، بتمحيص الأفكار، وصيانةِ عقول الشباب، وفتحِ الحوار معهم - واجبٌ شرعي وعقلي، يُحتمه الشرع والواقع، وإن ترك تلك الأفكار الدخيلة والعقائد الفاسدة تسرح وتمرح في عقول الشباب، لَمهدِّدٌ بضمور القوة الناعمة التي تمتلكها الدولة، والتي تمثل شرعيتها الدينية والسياسية، فإذا فسد الشباب فمن للوطن؟!
إن من أهم واجبات ولي الأمر -وفقه الله- محاسبةَ القنوات الفضائية التي تبث ما يُفسد العقائدَ، ويفكك المنظومة الفكرية، ويُخل بالأمن الفكري، أو على الأقل منعها من ممارسة نشاطها داخل الحدود وباسم الوطن والوطنية، وكذلك محاسبة الصحف والمجلات والمطبوعات والمواقع التي تنشر الإلحاد، أو تحارب الدين، أو تستخف بقيم مجتمع أرضِ الرسالةِ والوحي ودولة التوحيد؛ بل لا بدَّ أن يكون للصحافة الوطنية دورها القوي والحاضر في صد تلك الانحرافات الفكرية الوافدة، لا أن تكون قناةً للترويج لها، وكم أتمنى أن تضع الدول الإسلامية الأنظمة واللوائح الصارمة لمحاسبة المحرضين على العقيدة والدين، كما هو الحال بالنسبة للأمور السياسية.
لقد نشر موقع (BBC) على الشبكة قبل أربع سنوات دراسة حول "تأثير الإنترنت على المجتمع"، ومما جاء في هذه الدراسة؛ ما يلي: "تعتزم جامعة أكسفورد البريطانية افتتاح معهد مكرس كليًّا لدراسة تأثير الإنترنت على المجتمع، ومن المؤمل أن تكون بريطانيا بفضل المعهد في مقدمة الدول التي تبحث في تأثيرات الإنترنت على المجتمع ككل. وتقول جامعة أكسفورد: إن المعهد سيكون أول مركز أبحاث متعدد التخصصات والتوجهات في العالم، وأنه سيجري أبحاثًا، ويقدم توصيات واستشارات حول السياسات الحكومية في المجالات التي يتوصل فيها إلى نتائج يمكن الاعتماد عليها".
إنه مما يؤسف له أن تهتم بعض الدول بمثل هذا الأمر، وترصد له الأموال الطائلة، ويغفل بعضنا عنه - لعلمي بوجود بعض الدراسات المحدودة التي لم يتم تفعيل نتائجها - فبلدنا اليوم يتعرض لهجمة شرسة من قِبل جهات مشبوهة، عَبر وسائل الاتصال الحديثة - وخصوصًا الإنترنت - وهذه الهجمة هي محاولة للسيطرة على المنظومات الفكرية، وعلى عقول وقلوب الناس، وإن الهزيمة السياسية والاقتصادية والثقافية -بل والعسكرية- يسبقها عادةً هزيمةٌ فكرية في العقول.
لقد حكى قديمًا "الصلاح الصفدي" أن الخليفة العباسي المأمون لما هادن ملك قبرص، كتب يطلب منه خزانة كتب اليونان الفلسفية، وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد، فجمع الملك القبرصي خواصَّه من ذوي الرأي، واستشارهم في ذلك، فكلهم أشار عليه بعدم تجهيزها إليه، إلا أن أحد رجاله الحذاق خالفهم جميعًا، وقال: جهزها إليهم، فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها، وأوقعت بين علمائها. فتأمل كيف كان أثر ذلك على واقع الخريطة الفكرية في ذلك الزمان!
إن هذه القصة تدل أن الحرب الفكرية قديمة، وليست بالجديدة، وإن إفساد الوطن يبدأ بإفساد الشباب فكريًّا.
قال العلامة ابن خلدون: "إن كتب أولئك المتقدمين - الفلسفة - لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي، تصفَّحها كثير من أهل الملة، وأخذ من مذهبهم مَن أضله الله من منتحلي العلوم"، وقال: "وهذه العلوم عارضة في العمران، كثيرة في المدن، وضررها في الدين كثير، فوجب أن يصدع بشأنها، ويكشف عن المعتقد الحق فيها".
وهذه المخاطر القديمة ليست حكرًا على الماضي البعيد؛ بل هي مخاطر متجددة وحديثة، والدول العظمى تسلك نفس السياسات القديمة، سياسة فرض القوة الناعمة (الفكر والقيم)، ولم تتغير أهمية الفكر وخطورته، فالفكر يبقى هو القوة الحقيقية لأي أمة، واختراقه من الداخل اختراق للأمة والدولة.
يذكر "جوزيف ناي" صاحب كتاب "القوة الناعمة": "إن قوتنا الناعمة قُيض لها أن تساعد على تحويل الكتلة السوفييتية من الداخل".
ويشرح هذا الكلام باستفاضة، فيقول: "برغم أن الاتحاد السوفييتي قد فرض قيودًا ورقابة على الأفلام الغربية، فإن الأفلام التي نفذت عبر مصفاة القيود والرقابة، كانت مع ذلك قادرة على أن تُحدِث آثارًا سياسية مدمرة، وكانت بعض الآثار السياسية مباشرة أحيانًا، ولو غير مقصودة".
ثم يفسر ويعرف "جوزيف ناي" القوة الناعمة: بأنها الجاذبية التي تنشأ عن قيم وأخلاق وثقافة بلد ما. أي بمعنى آخر أن مدى هذه القوة الناعمة (الفكر) تقاس بمدى جاذبيتها، وإمكانية اختراقها للآخر، وتأثيرها في قيمه وثقافته.
ويؤيده السناتور الأمريكي "تشاك هاغل" بقوله: "تعتمد القيادة الأمريكية على قدرتنا على الإقناع والاجتذاب، إن قوة أمريكا الناعمة؛ أي قوة ثقافتنا وقيمنا وجاذبيتنا، يجب أن تنعكس بوضوح في سياستنا الخارجية ودبلوماسيتنا"، فما بال القارئ إذا اجتمع غزو عسكري معزز بغزو فكري للمنطقة؟!
ويؤكد السناتور الأمريكي "تشاك هاغل" على أهمية "القوة الناعمة"، فيقول: "لا يمكن تبديد القوة الناعمة، و إلا فقدْ نفقدُ الجيل القادم".
نعم، هذا صحيح، لا يمكن لأي دولة حكيمة وعاقلة أن تبدد وتفرط في جاذبيتها العقدية، وقوتها الفكرية، إلا إذا أرادت أن تفقد جيلها القادم.
وإن حال الواقع -الموصوف بالانفتاح الثقافي غير المحدود- دون قدرة ولاة الأمر -وفقهم الله- على الضبط التام لتلك القنوات والمواقع الآثمة، التي تنشر الإلحاد، وتزين الكفر، وتثير الشبهات العقائدية والسياسية، فحينها لا أقل من وجود القنوات المتخصصة التي تدافع عن العقيدة، وكل ما يدخل ضمنها من سياسي وديني، وتبينها بأسلوب حديث وعصري، وهذا -والله- من أهم الواجبات في هذا العصر على أهل القدرة وصناع القرار، فإنه عصر تلاطمت فيه الفتن، وفُتن الشباب بالشبهات الإلحادية وتبعاتها الدينية والسياسية، وكثرت القنوات المفسدة، ولم يوجد حتى الآن البديل المتخصص القادر بتقنية ومهنية على حماية الهوية الثقافية، ومواكبة روح العصر، وإذا وجد -وهو ممكن- فهل يتفضل أصحاب القرار بتبنِّيه وتفعيله؟
المعركة اليوم هي معركة عقول وأفكار:
نحن في عصر تقدمت فيه التقنية بشكل هائل، وأصبحت الأفكار تشكل خطورة فائقة في التأثير والانتقال، حتى قيل: إن الحرب الحقيقية في هذا العصر هي حرب معلوماتية فكرية بالدرجة الأولى، فبواسطة الأفكار والمعلومات يمكن تدمير أقوى النظم السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وتفكيك أشد القيم تماسكًا.
وتكمن خطورة حرب الأفكار في أنها تهدف إلى إخضاع الإنسان من خلال السيطرة على تفكيره، والوصول به إلى النتائج التي يريدها الخصم، دون الحاجة إلى استخدام القوة، وإنما من خلال بناء إدراكات وإيحاءات لديه توصله إلى مرحلة التسليم لإرادة الآخر، والقبول بها وكأنها الحل الأمثل.
ومن خلال التجربة نعلم يقينًا أن الفكر لا يواجه إلا بالفكر، وحرب المعلومات لا تواجه إلا بالمثل، وعلى نفس المستوى، وبنفس الأساليب والأنساق.
إن من يأكل الطعام الفاسد أو المسمَّم فإنه سوف يموت أو يتسمم بما أكل، وإذا كان هذا هو شأن الطعام الفاسد المسمم، فإن شأن الأفكار المسممة والفاسدة على العقول أعظم وأخطر.
والأفكار -مهما اعتقدنا أنها بسيطة أو ساذجة، وأننا في بلد التوحيد- إذا تُركَت دون نقد أو مواجهة، قد تكتسب قوة هائلة، يصعب بعد ذلك مواجهتها.
لقد أدرك الغرب قَبلنا خطورةَ وتأثير الأفكار، فسُلطانُها غير محدود بمكان أو زمان أو أشخاص، ولذلك قال المفكر الألماني "هاينه" محذرًا من مغبة الاستخفاف بسيادة الأفكار وتأثيرها: "إن الأفكار الفلسفية التي يطرحها أستاذ من مكتبه الهادئ قادرة على إبادة حضارة بكاملها"!
لقد كتب "روبرت رايلي" - مدير إذاعة صوت أمريكا، والذي ظهر لأول مرة في صحيفة "واشنطن تايمز" بتاريخ 28/1 / 2002م - مقالاً بعنوان: "كسب حرب الأفكار" ومما جاء في ذلك المقال، قولُه: "الطبيعة الحقيقية للصراع، صراع المشروعية الفكريّة في قلوب وعقول الناس، وليس القوة العسكرية. إن الحروب تخاض ويتم فيها تحقيق النصر أو الهزيمة في عقول الناس، قبل وقت طويل من بلوغها نهايتها في ميدان قتال بعيد".
وهذه حقيقة يثبتها الواقع، فكم من هزيمة عسكرية كانت نتيجة حتمية للهزيمة الفكرية والنفسية -الاتحاد السوفيَّتي مثلاً- وذلك من خلال ما يبثه الخصم من أفكارٍ ومعلومات مضللة، ينشط بها ضمن الصفوف الداخلية لأي مجتمع؛ من أجل تفكيكه، وتحطيمه معنويًّا ونفسيًّا.
إن الغرب مع الانفتاح الذي يعيشه، إلا أن كبار المفكرين فيه يُوصون بإلحاح على مراقبة الأفكار الوافدة، ونقدها وتمحيصها، قبل أن تتمكن وتُشكل خطرًا على المجتمع، ومن ذلك تفتيشهم وتقاريرهم التي يرفعونها حول الكتب المتواجدة على رفوف المكتبات في المراكز الإسلامية في الغرب، وشكواهم حول مناهج المدارس الإسلامية هناك؛ بل وقرارهم الأخير - والصادر منذ أيام في أمريكا - بحق تفتيش رجال الأمن والجمارك للحواسب الآلية الشخصية للقادمين إليها، ومصادرة ما بداخلها بعد أن عجزوا عن معرفة ما بداخل عقول هؤلاء الوافدين الزائرين، وهذا يطرح تساؤلاً مشروعًا عن مدى عودة القوى المتقدمة لممارسة المكارثية مرة أخرى، باسم حرب الأفكار، وحماية القيم والمبادئ الفكرية!!
يقول الباحث الغربي "إيزايا برلين" محذرًا من ترك الأفكار المخالفة دون تصدٍّ لها: "إن إهمال الأفكار من قِبَل الذين ينبغي أن يعتنوا بها - أي من قِبَل مَن تدربوا على تبني نظرة ناقدة للأفكار عمومًا - قد يؤدي أحيانًا إلى اكتسابها قوة كاسحة، لا يمكن مقاومتها أو كبحها، تفرض على أعداد هائلة من البشر".
وهذه حقيقة يشهد لها الواقع اليوم، سواء تجاهلنا هذا الأمر، أو كابَرْنا في قبوله، وما الثمار المرة التي نراها على المستوى الأخلاقي والفكري للجيل الحديث إلا خيرُ شاهد على خطورة تلك الأفكار وقوَّتها، مع غفلتنا عن نقدها واحتواء الشباب.
إنني أعتقد أننا في هذا العصر معرَّضون لمواجهة المرحلة الثالثة من "طوفان الأفكار الوافدة"، حيث كان "الطوفان الأول" في بداية عصر الترجمة في العصر العباسي، حينما تُرجمت الكتب اليونانية، فدخلت الفلسفات المختلفة إلى المجتمعات الإسلامية، فأفسدت كثيرًا من العقول بقصفها بوابلٍ من المحدثات والشبهات.
وقد أنتج
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد