بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
اهتم المستشرقون بالثقافة العربية الإسلامية في وقت مبكر، نتيجة الاحتكاك والتدافع الحضاري يسن العالمين العربي والغربي، فألف المستشرقون كَمّا هائلا من البحوث والدراسات حول الثقافة العربية والدين الإسلامي.
وبَنَوا مناهج خاصة بهم في التعامل مع النصوص الشرعية المؤسسة للفكر الإسلامي. وقد أثرت هذه المناهج في الدراسات الإسلامية عموما، وفي مجال التحقيق العلمي للنصوص، ونشر المصنفات التراثية في مختلف العلوم الإسلامية.
ومعلوم أن السياق الذي ظهر فيه الاستشراق تميز بالصراع المرير والصدام العنيف بين الثقافتين المختلفتين، وكان الاستشراق من نتائج ذلك، وأنه أحد تمظهراته فيما بعد، نظرا لحاجة الغرب لمعرفة الإسلام ومضامينه ومكوناته، لأن الإسلام كان مجهولا لدى الغرب، فأراد أن يكتشفه ويعرفه، ليس حبا فيه، لكن لتكون تلك المعرفة مدخلا للتعامل معه بطريقة ناجعة وفعالة.
هذا السياق وهذا المقصد جعل مناهج المستشرقين خادمة للأغراض التي نشأت لأجلها، فاختلط فيها ما هو ذاتي بما هو موضوعي، وما هو تاريخي بما هو علمي.
لقد أثرت مناهج المستشرقين في الدراسات الإسلامية، ولا زالت تؤثر، في تكوين العقلية الغربية وفي نظرتها إلى الثقافة العربية الإسلامية، وكان تأثيرها أشد في صناع القرار السياسي والعسكري.
نشأت الدراسات الاستشراقية ونمت في الغرب، وتأسست مدارس للاستشراق، فكانت مدارس مهتمة بالدراسات القرآنية والتفاسير خاصة، كالمدرسة الألمانية، ومنها ما اهتم بالأعراف والعادات والتقاليد العربية، كالمدرسة الفرنسية، ومنها ما اهتم بالعقيدة الإسلامية، كالمدرسة الإيطالية. وظهرت وكراسي علمية لدراسة اللغة العربية والتراث الإسلامي، واهتم المستشرقون بتحقيق هذا التراث ونشر مخطوطاته النادرة، واكتشاف أمهات المصادر العربية والإسلامية، إضافة إلى الفهرسة والتكشيف..، وهذا مما يُحسب للمستشرقين في خدمة التراث الإسلامي.
ولو تجاوزنا الإنجاز المعرفي للمستشرقين، بما له وما عليه، إلى الإيديولوجية والتوظيف، في مجال الدراسات القرآنية، فسنجد قراءة استشراقية للقرآن الكريم وعلومه، فيها كثير من الخلط، وكثير من التحامل، وقليل من الموضوعية.
هذه القراءة جعلت من القرآن الكريم كتاب أسطورة، وكلام بشر، خضع لظروف تاريخية مؤثرة فيه، نازعة عنه صفة القدسية. وجعلت من علوم القرآن قضايا تاريخية تُظهر تمحل العلماء المسلمين في إعطاء الشرعية لتصرفاتهم في النص والتشريع.
ولنأخذ قضايا من علوم القرآن وكيف تعامل معها المستشرقون، ونبدأ بنظرتهم إلى مصدر القرآن الكريم، حيث قالوا: إن القرآن من صنع محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه تلقاه عن الأولين، وانه اقتبس الأفكار والقصص وغيرها من المواضيع القرآنية من الرسالات السماوية السابقة كاليهودية والنصرانية، ثم عمد إلى ضمها إلى القرآن الكريم. وهكذا ألغى المستشرقون صفة الربانية عن مصدر القرآن.
وهذا الادعاء سببه هو منهج الأثر التأثر، حيث أن الواقع الغربي نشأة العلوم والمعارف في عصر النهضة الأروبية تأسست على الحضارة اليونانية، وما أُنشي مذهب فكري وديني جديد إلا وقد وُجِد له نظير في الحضارة اليونانية القديمة. ومن خلال هذا الحكم تم تطبيق هذا المنهج على الفكر الإسلامي، دون اكتراث بخصوصيته، الواضحة المؤسَّسة على معايير دينية أصيلة مستمدة من القرآن والسنة.
أما مسألة النسخ في القرآن الكريم فقد جعلها المستشرقون مدخلا واسعا للطعن في القرآن، وفي هذا يقول المستشرق رودنسون، وهو من المستشرقين المعاصرين الذين اهتموا بالدراسات العربية، يقول في كتابه: "محمد" الذي اختير كنموذج للبحث حول الدراسات الاستشراقية للنبوة المحمدية، وقدم فيه قراءة لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم، انطلاقا من طابع العلاقة التي تربطه بمجتمعه القبلي، حيث قال: إن القرآن الموجود بين أيدينا قد تعرض لمراجعات عديدة، والتي حسب رأيه تبين أنها خضعت لدراسة تحت رعاية محمد، إن لم يكن قد قام بها من تلقاء نفسه. ثم يخرج باستنتاج هو أن هذه المراجعات لم تكن خالية من الأخطاء والنتائج السيئة.
وفيما يخص القراءات القرآنية والأحرف السبعة، فقد درسها المستشرقون من جوانبها المتعدد، بما فيها النقل التاريخي، والوضع اللغوي، والتأصيل الشرعي..، وسبيلهم إلى ذلك هو الشبهات والتلفيق والطعون.
ومثال تعامل المستشرقين مع الأحرف السبعة هو المستشرق المجري اليهودي غولد تسيهر، والذي يعتبر من أبرز محرري دائرة المعارف الإسلامية، ويعتبر أيضا من المستشرقين السباقين لدراسة القراءات القرآنية، وذلك في كتابه المشهور "مذاهب التفسير الإسلامي"، حيث تحدث فيه عن المراحل الأولى للتفسير، واختلاف القراءات، فطعن فيها، وفي الأحرف السبعة، وفي مصحف عثمان رضي الله عنه، وادعى أن سبب الاختلاف في القراءات القرآنية هو خلو النقط والشكل، وأن المحاولات التي قامها بها الخليفة عثمان كانت بدافع سياسي.
أما المستشرق الألماني تيودور نولديكا، الذي يُعد من أهم المستشرقين الألمان في القرن العشرين، عالج هذا المستشرق القراءات القرآنية معالجة خاصة به، حيث عمد إلى تغيير معنى مصطلح القراءة، وحمّله ما لا يحتمل، فنفى أن تكون كلمة "قرأ" نشأت عند القرب، لأنها كلمة حضارية، ولأن العرب أمة أمية، ونبيها أمي، وقال بأنها انتقلت إلى بلاد العرب من شمال الجزيرة العربية، وعليه بَنى معنى جديدا لمصطلح "القراءة"، وهو معنى "نادى"، لأنه هو المعنى الأصلي للكلمة في اللغة العبرية، وفسّر كلمة "إقرأ" في سورة العلق بمعنى : "عِظ". وقام بتغيير مصطلح "مصحف عثمان" ب"نص عثمان". ولا عجب في ذلك فقد أخبرنا الله تعالى عن أسلوب أجداد هذا المستشرق، قال تعالى في سورة النساء: "مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ".
أما الذي أوقع المستشرقين في هذا الخلط هو منهجم الذي اعتمدوه في دراسة القرآن الكريم وعلومه، وهذا المنهج هو المنهج الإسقاطي، عندما حاولوا إسقاط التاريخ الأروبي، على التاريخ الإسلامي، وخاصة تاريخ نقد الكتب المقدسة، ومناهج دراستها ونقدها، قصد بيان اضطرابها وتهافتها، وقد أفلحوا في ذلك بالنسبة للكتب المقدسة لديهم، لأنها محرفة أصلا، فعمدوا إلى إسقاط هذه المناهج النقدية على القرآن الكريم، وحاولوا اصطحاب النتائج التي المتوصل إليها هناك، وتلفيقها إلى القرآن الكريم وعلومه هنا، لأن القرآن محفوظ من عند الله تعالى، وهو أصح كتاب سماوي بين أيدي الناس اليوم، فالقياس باطل لوجود الفارق، كما يقول العلماء، وهذا ما أوقعهم في تمحل وتلفيق مفضوح أمام العلماء المسلمين الذين تتبعوا هذه الأخطاء والشبهات، وكشفوا عوراتها.
فقد أثرت الدراسات الاستشراقية في الفكر العربي المعاصر، وظهر هذا الأثر في كتابات ومؤلفات المثقفين العرب، وفي محاضراتهم وأفكارهم التي صرحوا بها، حيث تبنوا أطروحات المستشرقين وشبهاتهم فيما يخص الدراسات القرآنية، ومن يقرأ لهؤلاء المثقفين يجد فكرا استشراقيا حاقدا في ثوب فكر عربي، حيث نظروا إلى الذات بعين الآخر، وغاياته ومراميه.
لا ننكر فضل المستشرقين في الإنجاز المعرفي عموما، بما يشمل تحقيق ونشر التراث، وفهرسته وتبويبه، مما ساهم في خدمة الدراسات الإسلامية. أما في مجال الإيديولوجيا فوجب التنبيه على خطورة ما تضمنته الدراسات الاستشراقية من أفكار وآراء، وما تسرب من هذه الأفكار إلى عدد من المفكرين الحداثيين العرب، خاصة الطعون في المقدسات والثوابت الدينية.
والمطلوب اليوم من العلماء المسلمين والمشتغلين بالتربية والدعوة هو تأهيل الجيل الناشئ علميا ومنهجيا للنظر فيما أنتجه الآخر بعين الذات، لا بعين الآخر، وبنظرة نقدية تأصيلية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد