بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إلى الروح التي سجنت نفسها في أحزانها..
سؤال طالما طَرحتُه على نفسي كثيرًا.. لماذا يجب أن نكون سعداء في أوقاتٍ يُفترض أن نحزن فيها؟
إنها النتيجة الحتمية والطبيعية لإرادة الخير، هذا شيء مؤكد ولا مجال لأن تشكي فيه، إذ كيف نستطيع أن نُفرح تلك القلوب -التي ترفرف من حولنا- بعطائنا الخيّر ونحن تُعساء بائسون يائسون من الحياة؟!
صدقيني، كي نصنع في نفوسهم الفرح يجب أن نصنعه في أنفسنا أولاً، فرحاً كبيراً حقيقياً ينبع من قلبك الدافئ. والفرح؟ صدقيني- لا يُتصنع، ولا يمكن أن ينجح الحزين اليائس في التمثيل بأنه فرح وسعيد. ذاك مجرد قناع مبتسم سرعان ما يسقط ويتكشف خلفه الوجه الحزين، وستظهر حينها كل تجاعيد الأحزان المتراكمة عبر سنين اليأس، ولن تستطيع أقناعة العالم كلها أن تخفيها.
أفهم بشكل واضح مدى حُزنك العميق، ولذا قلتُ: يجب أن نكون سعيدين كي نصنع في نفوسهم الفرح. ولكي نكون سعداء يجب أن تُحسي بأمن حقيقي ينبع من أعماق نفسك، ولا يكون ذلك إلا بإيمان.. نعم، أن تؤمني بنفسك، تثقي بذاتك، ولا تسمحي للضعف أن يتسلل إلى قلبك، إياك أن ترتاحي أو تطمئني للوهن. وإن ضعفتِ عن منعه من التسلل إلى قلبك فلا بد من إيمان يقاومه ويصارعه إذا تسلل، ثم يطرده.
والنفسُ؟ كما جربتها- لا يمكن أن تؤمن بنفسها من نفسها، بل يكون إيمانها عميقًا بذاتها عندما يكون لتلك الثقة مصدر، وهو أصلُ تلك الثقة، إنها الثقة بالله، ثقة مطلقة من أعماق القلب أنه معك وبجانبك يحرسك وتستأنس به من وحشة هذا العالم. عندها ستكونين واثقة من نفسك ومستغنية عن كل العالم وحاجياته، لأن الحاجة للناس ضعف، وهي مصدر أحزان الناس، لكن الحاجة لله ؟وهي ضرورية- قوة، وهي مصدر سعادة الأولياء والصالحين.
كوني مطمئنة كثيراً، لأن من الأشياء الجميلة فينا أننا بطبيعتنا ضعفاء، وهذا هو الأصل، وإذا كنا أقوياء فنحن إذن مميزون، ونحن؟ كما ترين- نتردد في هذه الحياة بين أمرين: ضعفنا الطبيعي، وبين تميزنا الذي يجعلنا منارات في طريق السائرين الذين يستريحون في أكناف النور الذي تُشعه قلوبنا المليئة بالفرح.
إنهم ينشدون أملاً أو قبس ضياءٍ منبثق من مواكب أنوار المميزين، والأمر الغريب أنهم لا يعلمون أن المشعل يحرق قلبه كي يضيء لهم، ولا بد لهذا القلب أن يسكت يوماً ما وتنطفئ الشمعة، حينها -ولا شك- سيتسرب إليه الظلام دون استئذان، وهكذا هو الصراع الأزلي بين النور والظلمة، وسيعود القنديل الأول الذي انطفأ سائراً في ركب عامة السائرين، مثله مثلهم، ينشد النور الذي فقده، ويبتغي الضياء المفقود.
لكن من لطف القضاء؛ أنه لا بد أن يُوجد قنديل آخر يقوم بدوره، وهكذا تستمر مسيرة النور في العطاء دون توقف، لأن الحياة لا تخلو أبداً من مشعلٍ ينير.
ومن حُسن الطالع أن القنديل الأول الذي انطفأ سيجد نوره في ذلك الآخر، وسيعانقه بحرارة لا مثيل لها، وبشوق لا يوصف، فيعود مضيئاً كما كان، ويرجع مشعلاً يهدي السائرين.
إنها الجذوة التي اقتبسها بحبه الأصلي، إنه عطاءٌ وأخذٌ، وهذا هو سر خلود الحب بين القلوب، وانتقاله كالنور، كلما خبا من قلبٍ أفاض له القلب الآخر من نوره، وهذا هو الإيمان الذي يحرس القلب في أعماقه، إيمانه أن نوره أو حبه لن ينطفئ أبداً، لأن نوره شُعلة خالدة، ولن يستطيع الظلام أن يتسلل لها، ولن يجرؤ على اقتحامها. إن حُبه نور قُدسي وهاج يمزق أستار الظلام.
هكذا نحن دوماً بين طبيعتنا البشرية الضعيفة التي تخور حينما نعجز عن فعل شيء، فنلجأ حينها إلى النور، وفي عتمة الليل يزداد احتياجنا وضعفنا، فنفتش عن بصيص نور، كالأعمى يتخبط في طريقه وهو يمد كلتا يديه يريد أن يتشبث بأي شيء، حتى تمسكه يد دافئة، ويحتضنه قلب محب، فيعود مبصر جمال وهيبة النور.
إنها الولادة الحقيقية، ولادة النور في قلوبنا من المثال الصالح الذي ننشده وقت ضعفنا، هذا المثال الذي يضيء لنا، فنعود من جديد مشاعل للحياة بواسطة ولادة هذا النور أو الإيمان.
ولذا يجب أن نبتسم دوما بفرح كبير وغبطة حقيقية.
تعرفين لمن نبتسم؟
لأنفسنا!
نعم لأنفسنا، لأننا أحق الناس بتلك الصدقة الجميلة، هبة النور.. نور الابتسامة التي تخلق الأمل والأمن.
ما أجمل ابتسامة السلام، التي ترتسم على القلب قبل الشفتين!
فلا تحزني ولا تخافي بعد اليوم من الضعف، لأن هذا هو الأصل، أصل الناس، و حزنك إنما هو حزن المميزين، الذين يراوحون بين الطبيعة والتميز، قد تحزن أنفسهم إذا كانوا من جملة السائرين في الظلام، لأنهم يعتقدون أنهم إنما خُلقوا مشاعل وقناديل، وتلك القناديل تضعف وتقوى، وتتفاوت، لكنها حتماً تحزن إذا انطفأت واجتاحها طوفان الظلام، لكنها في النهاية سوف تضيء وتعود أنور وقناديل.
صدقيني، إذا وقعنا فريسة الضعف العام، فإنه سوف يشل جميع قدراتنا، وسيصيب هذا الضعف وعينا بشللٍ شامل يخل قدرته عن إدارة تصرفاتنا.
حينها نكون فريسة سهلة للحزن والهم، الذي سيستشري بسرعة، وسوف تجتاحنا الخيالات والأوهام، وقد يصادف ذلك حاجة في أنفسنا للقول أنه هجومٌ (ما ورائي) وهو ما يتحدث عنه الناس بصيغة عين أو سحر أو حسد، فتجتمع كل تلك الأوصاب والأدواء في محل واحد -وهو القلب- فتنهكه وتقسو عليه، ويتخبط الفكر فيظن أن السهام تتناوشه من كل جانب، سهام من نفسه وسهام من غيره، فيقع الجسد فريسة للضعف الشامل والحزن الملازم.
وإذا حصل كل ذلك فلا يمكنك أن تتصوري مدى تعاسة الإنسان وهشاشته، ولا يمكن لجميع كلمات ديوان الأحزان أن تعبر عن قطرة واحدة من تلك الدموع التي تجري في القلب قبل العيون!
لقد جرب صديقك هذا كله وذاق طعمه المر، وشرب من كأسه حتى ثمل، وها هو يرى تلك السهام الطائشة الرائشة وهي تُسدد بيد قاصدٍ أو عابثٍ ؟ليس يدري- لقلبه وجسده، حتى خال أنه إلى مزيد سقمٍ وأنه في طريقه للهلاك.
ثم لا زال في حيرة من ذلك الأمر كله؛ إذ كيف استطاعت يدك الحنونة أن تنتشله من ذلك، وكيف استطاع نورك القُدسي أن يفتح له -من جديد- نافذة إلى الأمل.
هكذا كنتِ دائماً معه، وها هو اليوم يرد لك شيئاً من نورك وحنانك. إنه العطاء والأخذ، منك وإليك، لقد حررتني من ثنائية (أنا) و(أنت)، وصرنا شيئاً واحداً كالشعلة تنقسم ظاهرياً ثم تعود تلتحم من جديد فتكون شعلة واحدة فقط، وهكذا أنتِ، أعطيتِ فأخذتُ، وأخذتُ فأعطيتُ، وكل شيء كان منكِ أنتِ وحدكِ.
لم أعد أفكر إلا فيك، ولم أعد أنتظر إلا أنتِ، ولم أعد أرفع بصري إلا إليك، ولم أعد أرى في وجودي إلا صورتك، صورة النور الذي يملأ عيني، ويُشع في قلبي، ويجري في عروقي. لقد أصبحت كل خلية في دمي صورة لك، تغني باسمك.
إنني أقولها لك بكل صراحة ..
لم أستطع أن أرى النور من غير قبسك..
ولن أستطيع أن أتبسم من جديد بدون رؤية بسمتك القدسية..
إنني بكل تأكيد لا أستطيع أن أعيش بدونك..
إنني أتحدثُ الآن بكل ثقة وإيمان، وأقولها: لم أعد أخاف من الخوف، ولم أعد أحزن من الحزن، لأنك علمتني فلسفة النور التي حررتني من كل الأوهام، وحررتني من أكذوبة القوة الدائمة، ومن أكذوبة المثالية، ومن أكذوبة المشاعر التي لا تعرف الجراح، ومن أكذوبة القلوب التي لا تنزف.
نعم، سوف أفرح حينما أحزن، لأنني آمنت أن الفرح سوف يأتي بعد الحزن، وسوف أطمئن حينما أخاف، لأن الاطمئنان سيأتي بعد الخوف.
لقد آمنت بطبيعتي، لأني آمنت بكِ، ولن أقفز بعد اليوم فوق تلك الحقيقة، ولن أبقى وحيدًا بعد اليوم، لأنك ستبقين أيتها الروح بجواري دائماً، كما كنتِ دوماً مصدراً لسعادتي، ونوراً اقتبس منه الضياء.
المخلص لك..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد