بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
كلنا في حياتنا الطويلة أو القصيرة، سمعنا كلمات مؤثرة علمنا حين سمعناها لأول مرة أنها كلمات مختلفة جدًا عن غيرها، مختلفة بسبب قائلها وبسبب معانيها وبسبب القابل لها في نفسنا ذلك الوقت.
ولذلك حلت محلاً خصبًا فانبتت وأثمرت، ولا نزال نذكرها إلى اليوم، ولا يُمكن أن ننساها أبدًا. سمعناها من أمهاتنا وآبائنا وأساتذتنا وشيوخنا وأهلينا وأصحابنا.
وتلك الكلمات كثيرة جدًا، ولعلي أشارك هنا ببعضها.
فمن الكلمات التي علقت بذهني وأثرت فيَّ كثيرًا كلمات سمعتها من المبارك الشيخ أحمد المبارك رحمه الله، ذلك الشيخ الوقور صاحب النبل والخلق والتواضع العظيم.
قال لي فيما قاله، حين زرتُه في بيته في الأحساء، وكان مريضًا على فراشه، قبيل موته رحمه الله، وكان يتوجع ولا يشتكي، وقد لاحظ التأثر في وجهي: "يا ولدي، إنَّ الله ليبتلي عبده ليرى أدبه معه!".
هزتني تلك الكلمات في ذلك الموقف الحقيقي، واقشعر لها جلدي، وتصاغرت نفسي كثيرًا أمام هذا الموقف النوارني من ذلك الشيخ المبارك، وهاهو قد ذهب لربه الرحيم، متأدبًا معه في أحلك ساعاته، أسكنه الله فسيح جناته، وجعله في الصديقين.
وكلمة في العلم، أثرت فيَّ ولم أنسها، سمعتها من شيخي وأستاذي الدكتور محمد أبو الغيط الفرت، حفظه الله، لما كنتُ أدرس مرحلة البكالوريوس، في مادة عن مقارنة الأديان.
قال لي فيما معناه: "يا بني الابتكار في العلم لا يأتي إلا من ثلاث خِلال: التخصص، والمحبة، والغواية. فقلت له: فهمتُ الأولى والثانية، فما الثالثة؟ فقال: حتى تشتغل بالعلم وتفكر فيه ليلك ونهارك وتحلم فيه، أي تكون مهووسًا بالعلم".
وكلمة في فلسفة الحياة سمعتها من أمي حفظها الله ومتعها بالصحة والعافية وطول العمر. إذا كنتُ أقول لها في كل شأنٍ يعرض لي: "ادعي لي بتحقق ذلك الأمر". فما سمعتُها قط تدعو لي بما كنت أطلبه منها، وإنما كانت تقول: "الله لا يقدمك يا ولدي لشر ولا يؤخرك عن خير، إن كان لك فيه خير حققه الله لك، وإن كان فيه شر الله يصرفه عنك ويصرفك عنه".
والله إنَّني علمتُ بعد ذلك، أنَّ كثيرًا مما تمنيتُه وتاقت له نفسي كان شرًا لي، وكان عائقًا لي في خيرًا عظيمٍ جاء بسبب عدم تحقق ذلك.
فعلمت أنَّ الدكتور جاهلٌ، وأنَّ أمه التي لا تقرأ ولا تكتب أعلم منه وأفقه وأحكم وأعقل.
وكلمة في فلسفة التعامل مع الآخرين، سمعتها من والدي، حفظه الله، هو من منابع الحكمة، وعقلاء الرجال، وكلماته المنقولة والمقولة في الحكمة أعظم من أن تُذكر هنا أو تُحصر، وهي كثيرة وتستحق أن تُكتب وتُدون في كتابٍ مستقل.
ولعلي أكتفي منها بواحدة، وهي قوله حفظه الله ومتعنا بصحته وعافيته وطول بقائه: "من طاول أطول منه ما استر [فرح] ساعة".
وقد جرب الناس ذلك وعاينوه، فما فرح إنسانٌ عادى وتحدى من هو أقوى منه، وبيده -بعد الله- مفاتيح مصالحه. وتعيسٌ من صنع العداوة مع رؤسائه ومدرائه، وطاولهم بها، دون موجبٍ من العقل أو الشرع، وحرص على معاندتهم ومناكفتهم، ثم رغب في خيرهم وجزائهم وعدلهم!
وهو مصادق قول الشاعر:
وَمَنْ لَـمْ يُـصَانِعْ في أُمُورٍ كَثِيرةٍ
يُـضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُـوْطَأْ بِمَنْسِمِ
وقد وبوب الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ ما هو خيرٌ من ذلك في كتابه الصحيح فقال: "باب المداراة مع الناس".
وقال ابن بطال رحمه الله: "المداراة من أخلاق المؤمنين وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة".
ألهمنا الله وإياكم الحكمة وفصل الخطاب، وحسن التعامل مع الناس خيرهم وشرهم، ورزقنا الحلم وطيب الأخلاق ومحاسنها، وجعلنا ممن أتى الله بقلبٍ سليم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد