بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يقدم شهر الصيف بشدة حرارة الشمس، فيتذكر المسلم دنو الشمس من الرؤوس يوم القيامة حينما تدنو الشمس من الرؤوس بمقدار ميل.
ويعرق الإنسان من حرارة الشمس الشديدة في فصل الصيف، فيتذكر المسلم عرق الناس في الموقف يوم القيامة، وأن العرق يبلغ منهم كل بحسب عمله، فمنهم من يكون العرق إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمهم العرق إلجاماً، فعن سليم بن عامر قال: حدثني المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله صلى عليه وسلم: (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم على قدر ميل.
وهذا الحديث يدفع المسلم أن يعمل لينجو من هول هذا الموقف، فيجاهد نفسه ليكون واحداً من السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فمن كان في ظل الرحمن يوم القيامة لم ينله هول الموقف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المسجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) [متفق عليه].
وكلما أحسَّ المسلم بالحرارة الشديدة في فصل الصيف تذكر شدة حرارة نار جهنم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا ربِّ أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشدُّ ما تجدون من الحرِّ، وأشدُّ ما تجدون من الزمهرير) [متفق عليه].
فهذه الحرارة العظيمة نفس من أنفاس جهنم أجارنا الله والمسلمين منها، فإذا استشعر المسلم هذا، جاهد نفسه للنجاة من هذه النار العظيمة، ولن ينجيه منها بعد رحمة الله له إلا أن يؤمن بالله ويعمل بالصالحات ويبتعد عن المحرمات.
بعض الناس يسافرون للسياحة في فصل الصيف هرباً من حرارة الدنيا، فالعاقل يحذر أن يتجاوز حدود الله في تلك السياحة، قال عز وجل: { تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} [البقرة:229] فمن تعدى الحلال إلى الحرام في سياحته، ولم يتب الله عز وجل من ذلك، فإنه قد أوقع نفسه في شيءٍ أشدّ مما هرب منه، فقد هرب من حرارة الدنيا إلى شدة حرِّ الآخرة،، قال الله عز وجل: {وقالوا لا تنفروا في الحرّ قُل نارُ جهنم أشدُّ حراً لو كانوا يفقهون} [التوبة:81].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ناركم جزء من سبعين جُزءاً من نار جهنم) قيل: يا رسول الله إن كانت كافية، قال: (فُضلت عليهن بتسعةٍ وستين جُزءاً، كلهن مثل حرِّها) [متفق عليه].
من وفقه الله عز وجل حرص أن تكون سياحته محمودة خالية من الآثام والذنوب، لا تنفق فيها الأموال إسرافاً وتبذيراً، ولا تضيع فيها الأوقات هباءً وخسراناً، سياحة يكسب فيها الأجور العظيمة والحسنات الكثيرة، وهذه هي السياحة المحمودة التي غايتها طاعة الله ورضاه.
قال الله عز وجل: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم به ذلك الفوز العظيم * التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله} [التوبة:111-112].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى أنه عاوَضَ من عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة، وهذا من فضله وكرمه، وإحسانه...وهذا نعت المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة، (التائبون- من الذنوب كلها - العابدون) أي القائمون بعبادة ربهم محافظين عليها...ومن أفضل الأعمال الصيام...وهو المراد بالسياحة هاهنا ولهذا قال: ( السائحون ) فعن عبدالله بن مسعود قال: السائحون: الصائمون، وعن ابن عباس: كل ما ذكر الله في القرآن السياحة هم الصائمون، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سياحة هذه الأمة الصيام وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير..وغيرهم، إن المراد بالسائحين الصائمون.وقال أبو عمرو العبدي (السائحون) الذين يديمون الصيام من المؤمنين.
وقال الله عز وجل: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً } [التحريم:5] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وقوله (سائحات) أي صائمات قال أبو هريرة وعائشة وابن عباس.
فهنيئاً لمن كانت سياحته الصيام، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا أُمامة رضي الله عنه بالصيام، حيث قال له: (عليك بالصوم فإنه لا عدل له) أي: لا مثيل له.[أخرجه أحمد].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف. قال الله عز وجل: إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزى به. إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي.للصائم فرحتان: فرحة عند ربه، وفرحة عند لقاء ربه.[متفق عليه].
وفي الجنة باب يقال له الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه غيرهم، كما ثبت في الحديث المتفق على صحته.
الصيام طاعة جليلة تغرس في القلوب تقوى الله وطاعته، والبعد عن الحرام والآثام.
ومن صام الأيام الشديدة الحرارة فقد اتقى حر يوم القيامة، قال أبو ذر رضي الله عنه: صوموا يوماً شديداً حرُهُ لحرِّ يوم النشور.
وقد فسر بعض أهل العلم السياحة: بدوام الطاعة، وبالسفر في القربات كطلب العلم، والحج، والعمرة، وصلة الأقارب، ونحو ذلك، وفسرت السياحة بسياحة القلب في معرفة الله ومحبته والإنابة إليه على الدوام.
فهنيئاً لمن كان سياحته دائمة، غير منقطعة، وذلك بدوام طاعة لله، والإكثار من ذكره، فنال الأجر العظيم والثواب الجزيل.
إن الإنسان يحتاج إلى الراحة بعد الكد، وإلى الهدوء بعد الضجيج، فلا حرج عليه أن يمنح نفسه شيئاً من الراحة والترويح، المنضبطين بشرعة الإسلام، فيكون الهدف من سياحته أخذ قسط كاف من الراحة والاستجمام لتجديد النشاط، وإدخال السرور على النفس، والاستمتاع بما أنعم الله به من جو معتدل، ومناظر جميلة، في بعض الأماكن والبلاد، مع التمسك بتعاليم الدين، والمحافظة على مكارم الأخلاق، والبعد عن سفاسف الأمور،
والحرص على أداء الواجبات، واجتناب مشاهدة ما حرم الله ورسوله، قال الله عز وجل: {قُل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فُروجهم} [النور:30] مع الحذر من الذهاب إلى الشواطئ والأماكن التي فيها محرمات وكشف للعورات، فالفاحشة إذا كانت ظاهرة وأعلن الناس بها، فعقوبة الله غير بعيدة، قال الله جل وعلا: {وتلك القرى أهلكنهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً} [الكهف:59] فليتنبه من زين له شيطانه ونفسه الأمارة بالسوء الذهاب إلى تلك السواحل، فالطوفان آية وجند من جند الله عز وجل، يرسله على من يشاء، في الوقت الذي يشاء، على الوجه الذي يشاء، قال الله عز وجل: { وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً }الإسراء:59.
وليحرص المسلم أن تكون سياحته بقدر الإمكان داخل بلاده، مع الحذر من السفر لبلاد غير إسلامية، أو إلى بلاد تشبهها، حفظاً لدينه وأخلاقه، وخصوصاً إذا كان معه أهله وأبناؤه، فقد تترسم في أذهان الصغار والمراهقين صور مما يشاهدون ويسمعون في تلك البلاد من أشياء غير محمودة، يكون لها تأثيرها السلبي فيهم من التهاون في أداء العبادات، والتساهل في فعل المنكرات، وقسوة القلب، والإنسان مأمور بحفظ أهله وأبنائه عما يوجب سخط الله، قال الله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها النار والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم:6].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجلُ راع ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راع ومسئول عن رعيته). [متفق عليه]
وليتذكر المسلم أنه عندما يهمُّ بالسفر فسوف يقرأ دعاء السفر الذي فيه: "اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى"
فليكن ما قاله بلسانه واقعاً حقيقياً في سفره بأفعاله وأعماله، قال الله سبحانه وتعالى: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه } [البقرة:235] وقال جل وعلا: {ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير}آل عمران:28
ومن سافر للسياحة وكانت سياحته فيها تعدي لحدود الله فإن ما يشعر به من سعادة وراحة فيها، إنما هي سعادة غير حقيقية، وراحة غير دائمة، يُريد منها الشيطان أن يستمر في تلك السياحة لتجلب له الشقاء في الآخرة، لأن السعادة الحقيقية والراحة الدائمة من عند الله، وما عند الله لا ينال بمعصيته، وإنما بطاعته، قال علية الصلاة والسلام: (الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته) [صححه الألباني]
ومن سافر سائحاً بين المعاصي لإزالة همومه وغمومه، أو التخفيف منها، فما وجد السعادة التي طلبها، ولا خفّت عنه تلك الهموم والأحزان، فكان حاله حال من قال: تداويتُ بالتي كانت هي الداء، فليجرب السياحة الخالية من المعاصي، وسيجد بفضل الله وكرمه السعادة، وسوف تزول عنه تلك الهموم والغموم، وستتبدل بأفراحٍ في قلبه، وسرورٍ في نفسه، وسعةٍ في صدره.
وفق الله الجميع للسياحة النافعة في الدنيا والآخرة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد