بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الحمد الذي تكرم على عباده بمواسم الخيرات والبركات، من وفق فيها سعد وفاز، ونال في الزمان اليسير منها أضعاف ما يناله في غيرها من الثواب والجزاء، ومن تلكم المواسم: شهر رمضان المبارك، الذي يجود الله فيه على عباده بالمغفرة والرضوان، والرحمة والعتق من النيران، والذي قال الله عز وجل عن أيامه إنها: (أياما معدودات) [البقرة:184] فجعلها معدودة في غاية السهولة، ليشمر من رام الجنان، ومجاورة الرحمن، على مجاهد نفسه في طاعة ربه، ومعصية هواه والشيطان.
وأصلى وأسلم على نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، الذي إذا دخل رمضان جدّ واجتهد، وكلما اقترب الشهر من انصرامه زاد في الجد والاجتهاد، فأيقظ أهله، وشدُ مئزره، لعلمه بفضل تلك الليالي، وخصوصًا العشر الأخيرة منها، وبالأخص ليلة القدر التي هي أفضل من عمل ألف شهر.
ورضي الله عن صحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يعلمون أن الصيام ليس مجرد ترك الطعام والشراب وسائر المفطرات في نهار رمضان، بل هو تربية للنفس على طاعة الله، قال جابر رضي الله عنه: إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب، والمحارم، ودع أذى الجار [ وفي بعض الروايات أذى الخادم، وفي بعضها أذى الخاصة] وليكن عليك وقار، وسكينة، ولا تجعل يوم صومك، ويوم فطرك سواء.
ورحم الله سلف الأمة الذين كانوا ينتظرون قدوم هذا الشهر شوقًا له، فكانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، وإذا بلغهم الله إياه دعوه أن يرزقهم فيه الجد والاجتهاد والقوة والنشاط كما ذكر ذلك عنهم عبدالعزيز بن مروان رحمه الله.
الناس في شهر مضان، وفي غيره من الشهور، ثلاثة أقسام، كما قال الله تعالى: (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) [فاطر:32]
فالقسم الأول: الظالم لنفسه، وهو المفرط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات، فاحذر يا عبد الله أن تكون من الظالمين لأنفسهم في هذا الشهر خصوصًا، وفي غيره عمومًا، فتكون المحرمات لك أنيسًا، والطاعات منك بعيدًا، فالموت يأتي فجأة، فهو لا يعرف صغيرًا ولا كبيرًا، ولا مريضًا ولا صحيحًا، ومن مات على غير طاعة، ندم، وتحسر عند الموت، وتمنى العودة ليعمل الصالحات، قال الله جل جلاله: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) [المؤمنون:99-100] فيا لها من حسرة عظيمة، ومصيبة كبيرة، عندما يتمنى الظالم لنفسه عند موته العودة إلى الدنيا، ليعمل الطاعات، فيجاب بعدم العودة، ويوعد بعذاب البرزخ إلى يوم البعث، فتصور نفسك في هذا الموقف، واحمد الله عز وجل أن بلغك شهر رمضان الذي حرمه كثير من أقاربك وخلانك، وأصدقائك وأحبابك، فسارع فيه إلى التوبة من جميع الآثام، فربنا جل جلاله رحيم رؤوف بعباده يقبل توبتهم من ذنوبهم ولو بلغت عنان السماء، قال الله سبحانه وتعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) [الزمر:53] فجاهد نفسك يا عبد الله، فاليوم أنت حي، وغدًا قد تكون ميت، أنت في أول رمضان حي، وقد تكون في آخره تحت التراب، وكلنا ذلك العبد، نسأل أن يوقظنا من غفلتنا، فنتدارك ما سلف وكان، فنبدل بالسيئات الحسنات، قال الله عز وجل: (إن الحسنات يذهبن السيئات) [هود:114]
القسم الثاني: المقتصد في عمله، وهو المؤدى للواجبات، التارك للمحرمات، ويفعل بعض المكروهات، وقد يترك بعض المستحبات، فهذا وإن كان على خير، إلا أن النفوس الأبية تتطلع إلى الكمال، فهذا عليه أن يجاهد لنفسه ويستغل هذا الشهر بكثرة الطاعات والخيرات، التي متى كنت عن إخلاص لله عز وجل، ومتابعة لسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فإنها ستؤثر فيه، فتجعله يترك فعل بعص المكروهات، ويقدم على فعل المستحبات، وعند ذاك ينتقل إلى مصاف المسابقين إلى الخيرات
القسم الثالث: المسابق إلى الخيرات، وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات، وبعض المباحات، فهذا هنيئًا له، وطوبى له، فقد صام بطنه، وفرجه، وأذنه، وعيناه، ولسانه، وجوارحه، نهاره صائم، وليله قائم، يتلو آيات القرآن إناء الليل وأطراف النهار، لسانه لا يفتر عن ذكر، وقلبه لا يغفل عن استشعار مراقبة له في كل زمان ومكان، إن نام، نام ليستعين على طاعة الله، وإن أكل أو شرب أكل وشرب ليستعين على طاعة، فهو يستعين بنعم الله على طاعة الله، يُكثرُ من الدعاء لنفسه ولإخوانه المسلمين بالصلاح والهداية، والاستقامة على الطاعة، والثبات على ذلك حتى الممات. نسأل الله بكرمه وفضله أن نكون وجميع من نحبهم من هؤلاء الأبرار الأتقياء.
ومن كان من هؤلاء فلا يغتر بعمله، فما سبق إلى الخيرات إلا بتوفيق الله ومعونته، فعليه أن يكثر من الدعاء بالثبات، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثِر أن يقول: (يا مُقلِّبَ القلوبِ، ثبِّتْ قلبي على دِينك) فقلت: يا نبي الله، آمَنَّا بك، وبما جئتَ به، فهل تخاف علينا؟ قال: (نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله، يُقلِّبها كيف شاء) [أخرجه الترمذي]
اللهم إنا نسألك الثبات على دينك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد