بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
هذا التفسير المختصر مستل من مقال مطول بعنوان الخلاصة الوافية في بيان سورة الفاتحة، اعتنيت فيه باستقصاء الفوائد والعزو للمراجع والاستشهاد بالآيات والأحاديث، وبعد جولة طويلة في التفاسير أزعم أنه جمع من الفوائد ما تفرق في غيره والله أعلم، وهذا التفسير الذي بين يديكم هو سرد سريع دون استشهاد أو ذكر للمراجع اكتفاء بالمقال الأصل، والله الموفق.
(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)
أي: أعتصم بربي ومعبودي من شياطين الجن والإنس أن ينالوني بأذى في نفسي أو ديني، وألتجئ إليه تعالى من الشيطان المطرود من رحمة الله أن يحضرني أو يصرفني عن الخشوع والتدبر أو يحملني على الوسوسة أو عدم الالتزام بما أتلوا من كلام الله. وهي ليست آية.
}بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ{
أي: أتلوا وأقرأ القرآن مبتدئاً بكل اسم من أسماء معبودي الحق، طلباً للبركة والمعونة منه سبحانه.
}الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{
الحمد لله المستحق لأنواع المحامد كلها فالحمد له على أنه واحد في ربوبيته، والحمد له على أنه وحده مستحق للإلاهية دون من سواه، والحمد له على أن له الأسماء الحسنى والصفات العلى والكمال المطلق، والحمد له على إنزال القرآن وعلى حفظه وعلى بيانه وتيسير فهمه، والحمد له على قضاءه وقدره وأوامره الكونية ومنها (نعمة الرزق والعافية والمطعم والمشرب) وهذه أي (نعمة الرزق...ألخ) يستحضرها العامة من الناس أو كثير من الناس وإنما هي فرد من افراد كثيرة ونوع من انواع عديدة. ومعنى الحمد: ذكر محاسن المحسن سواء كان هناك إحسان على الحامد أولا، ويكون بمحبة وهو أعم من غيره.
العالمين: كل ما سوى الله من السماوات والأرض وما بينهما من ملائكة وإنس وجن وحيوان، وما علمنا وما لم نعلم، والعالمين جمع عالم، فالإنس عالم وكل قرن منهم عالم ذلك الزمان.
ورب العالمين: صفة أو نعت لله، فهو وحده من يوصف بأنه رب العالمين، وهو ربهم أي خالقهم ومالكم ورازقهم والمنعم المتفضل عليهم، العالم بهم وبحاجاتهم، والمدبر أمورهم وشؤونهم، فله الحمد وحده دون من سواه.
وهذه الآية تفتح على القلب باب المحبة.
}الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ{
الرحمن: ذو الرحمة الواسعة الشاملة العامة (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ) [الأعراف آية156] (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا) [غافر آية7]
الرحيم: ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين، في الدينا بنصرهم، وتأييدهم وحفظهم، وتثبيتهم على الإيمان، وفي الآخرة بإدخالهم الجنة.
وهذه الآية تفتح على القلب باب الرجاء
}مالِكِ يَومِ الدِّينِ{
أي المَلك الحق المتفرد بمُلك يوم الدين المتضمن لظهور عدله وكبريائه وعظمته ووحدانيته وصدق رسله، ويوم الدين أي يوم الجزاء والحساب ويكون بعد النفخة الثانية، فيبعث الله الأجساد ويوضع الميزان وتتطاير الصحف وينصب الصراط على ظهر جهنم، ويوم الدين يتضمن أمور وأحداث كثيرة جداً وردت تفاصيلها في الكتاب والسنة، وترتيب الأحداث كالتالي: البعث وقيام الخلائق الطويل، ثم الحوض ثم الانتظار الطويل ثم الشفاعة العظمى لتعجيل الحساب، ثم يكون عرض الأعمال ثم بعد العرض يكون الحساب لأول، ثم تتطاير الصحف، والحساب الأول من ضمن العرض؛ لأنه فيه جدال ومعاذير، ثُمَّ بعد ذلك تتطاير الصحف ثم بعد قراءة الكتاب يكون هناك حساب أيضاً لقطع المعذرة وقيام الحجة بقراءة ما في الكتب، ثم بعدها يكون الوزن ثم بعد الميزان ينقسم الناس إلى طوائف، ثم تضرب الظُلمة قبل جهنم ويسير الناس على الصراط بحسب ما يعطون من أنوار، ثم يجتمعون في ساحات قبل دخول الجنة ليقتص بعضهم من بعض فإذا نقوا دخلوا الجنة، وتفاصيل ذلك في الكتاب والسنة وفي مبحث اليوم الآخر من كتب العقائد.
وهذه الآية تفتح على القلب باب الخوف، وسبق أن الآية الأولى تفتح على القلب باب المحبة والثانية تفتح على القلب باب الرجاء وهذه الثالثة تفتح على القلب باب الخوف، وهذه هي أركان العبادة أي المحبة والرجاء والخوف، وبتحقيقها يسير القلب سيراً متزناً وباختلالها ينحرف إلى إسراف أو قنوط.
وبعد أن حمد العبد ربه، وأثنى على الله بجميل صفاته، وعرف يوم الجزاء والمعاد، واكتملت أركان العبادة: الحب والرجاء والخوف، جاءت (إياك نعبد) فيكون قلب العبد مستحضر تلك المعاني وهو مقبل بعبادته على ربه وهي أي (إياك نعبد) بضمير المخاطب وما سبقها بضمير الغائب فكأن العبد تهيئ وحضر بين يدي ربه يخاطبه.
}إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ{
ومعناها لا نعبد إلا الله فهي بمعنى لا إله إلا الله، والاستعانة عبادة من العبادات، وإنما أفردت بالذكر لأن العبد يحتاج في عبادته إلى إعانة الله له. وإياك نعبد في الأصل نعبد إياك، ولكن قدم الضمير المنفصل (إياك) من أجل الحصر، أي حصر العبادة لله وحده دون من سواه، فتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر، ففي اللغة العربية عندما تقول لأحد: "أعطي إياك" فلا يمتنع دخول غيره معه فتقول: "أعطي إياك وفلان" فهذا يصح لغة، ولكن إن قلت: "إياك أعطي" فقد حصرت الإعطاء وخصصته بمن تخاطب.
أيضا في الضمير المنفصل (إيَّاك) من الإشارة إلى نفس الذات والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل، فلو قلت (إياك قصدت وأحببت) فيه من الدلالة على معنى حقيقتك وذاتك قصدت، ما ليس في قولك (قصدتك وأحببتك).
وكرر (إياك) ولم يقل إياك نعبد ونستعين لتأكيد الاختصاص فلا يستحق العبادة ولا يستحق الاستعانة أحد إلا الله.
وعبادة الله هي: الطاعة مع التذلل والخضوع والمحبة والتعظيم لله تعالى، والعبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. ومنها الدعاء والحج والذبح والنذر والاستغاثة والخوف والرجاء. وشرط قبولها الإخلاص لله والمتابعة لرسوله.
}اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ{
هذا أشمل دعاء وأنفعه ولا يوجد في القرآن ولا في السنة دعاءً أشمل منه ولا أنفع، وهو دعاء مسألة والذي سبق في أول الفاتحة دعاء ثناء.
ومعنى الآية دلنا وأرشدنا وعلمنا ووفقنا للعمل وسلوك الطريق المستقيم، الموصل إلى رضى الرحمن وإلى دار السلام في الآخرة وهو دعاء يراد به صراط الآخرة كذلك فتسأل الله الثبات والوصول إلى دار الكرامة يوم يزل عنه من يزل وينطفئ نور من ينطفئ نوره.
والصراط هو الطريق المستقيم الواضح الذي لاعوج فيه ولا خفاء، من سار عليه وصل.
وكيف نسأل الله الهداية للصراط المستقيم ونحن مسلمون نتبع القرآن والسنة؟
الجواب: أن دين الإسلام يتضمن أركان الإسلام و أركان الإيمان ويتضمن الفراض والواجبات والمستحبات وفيه فروع ومسائل العبد بحاجة لمعرفتها ومعرفة الصواب فيها والتوفيق للعمل بها، وتأتي نوازل وتعرض شبهات والعبد قد يذنب ويزل فيحتاج هداية إلى التوبة ورجوع للاستقامة على الصراط، فالعبد بحاجة مستمرة لهداية الله له وإرشاده وتوفيقه وتثبيته وازدياده واستمراره، لاسيما والإنسان ضعيف بطبعه و يعتريه النسيان والغفلة والذهول فالكل بحاجة لهذا الدعاء حتى الأنبياء والرسل يحتاجون دائما إلى أن يهديهم ربهم الصراط المستقيم، وليس الشأن في بداية سلوكه بل الشأن في الاستمرار عليه إلى الممات لا سيما وقد قعد على جنباته شياطين الإنس والجن لإغواء السالكين كما أخبر الله تعالى عن إبليس {لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَ ٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ} [الأعراف ١٦]. ولأهمية هذا الدعاء أُوجب علينا في كل ركعة.
}صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم{
والذين أنعم الله عليهم هم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة النساء قال تعالى {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا} [النساء 69]
وفي الآية إيناس للمؤمن السائر إلى الله تعالى فلا يستوحش من قلة السالكين، وليعلم أنه ليس وحده وأن هذا الصراط سلكه الأنبياء والرسل والشهداء وسلكه الصالحون من هذه الأمة ومن الأمم قبله. فأنت تسير على الطريق المستقيم في مرافقة هؤلاء {وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا} الآية، فهم خير الخلق وأفضلهم وأشرفهم، وفي هذا تثبيت للمؤمن وزيادة طمأنينة له، وهو طريق محفوف بالمكاره والشدائد وقد ينال أهل الباطل من المؤمن ويتسلطون عليه بالأذى فيتذكر أنه يرافق هؤلاء فيصبر.
كما أن في الآية بيان لصفة الصراط المستقيم ببيان صفة أهله وسالكيه، وفيه إسناد الفضل لله وحده بالإنعام وهذا يبعد عن القلب العجب والغرور ويستشعر العبد فقره وحاجته لربه، فينسب لربه الفضل إن رأى من نفسه صلاحاً، كما دلتنا هذه الآية على ضرورة المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به وبأصحابه وبمن سار على نهجهم، ويُتحصل ذلك بالعلم والعمل.
}غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ{
المغضوب عليهم هم اليهود والضالين هم النصارى، كما فسره السلف بذلك وورد به الحديث النبوي، وذلك لأن اليهود والنصارى كانوا أهل نبوة وكتاب ورسالة، فكانوا أهل صراط مستقيم - بخلاف المشركين والمجوس - ثم زاغوا عنه، فأما اليهود فزاغوا عنه بعلم فهم مغضوب عليهم وأما النصارى فزاغوا عنه بجهل فهم ضالين، لذا نسأل الله الذي من علينا بالنبوة والكتاب والرسالة أن يجنبنا طريقهم، والمغضوب عليهم هم كل من عرف الحق ولم يتعبه ومثالهم اليهود فهذه أظهر صفاتهم وليست مختصة بل كل من تبين له الهدى وتمسك بالباطل فهو داخل في هذه الصفة، فتدعو الله أن يجنبك صراطهم المعوج وتستعيذ به أن تتبع هواك وتخالف ما علمته من شريعة الله تعالى.
والضالين هم كل من تعبد لله بهواه وترك طلب معرفة الحق وتعبد عن جهل، ومثالهم النصارى فتعبدهم عن جهل وعماء، فهذه أظهر صفاتهم وليست مختصة بهم، بل يدخل فيها طوائف من الصوفية والمتفلسفة والمعتزلة ونحوهم، فتستعيذ بالله أن يكون سعيك بغير علم وبصيره بشرعه.
فصارت الأصناف ثلاثة: صنف عرف الحق واتبعه وهم المنعم عليهم، وصنف عرف الحق ولم يتبعه وهم المغضوب عليهم، وصنف لم يعرف الحق وعمل على جهل وهم الضالين.
(آمين) أي: اللهم استجب، ولما تضمنت الفاتحة الدعاء بنوعية: دعاء الثناء، ودعاء المسألة كان جدير أن نتخلق بأدب الدعاء الوارد في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ) [الترمذي (3479) وحسنة الألباني في صحيح الجامع 245] وهي ليست آية من الفاتحة وإنما مستحبة.
الخاتمة
سورة الفاتحة هي أم الكتاب أي أصل القرآن الذي ترجع معانيه إليها ، فالقرآن الكريم كله مفسر لهذه السورة الجامعة لأن القرآن ينقسم إلى توحيد، وأحكام، وتقرير المعاد والجزاء، وقصص الأمم الماضية، فما ذكر في القرآن من تقرير التوحيد فهو مزيد بيان لما تضمنته الفاتحة وأما ما جاء في القرآن من تقرير المعاد و ذكر الجزاء والحساب فهو بيان ليوم الدين وما جاء من العقائد والأحكام الفقهية فهي بيان للصراط والشريعة التي يسير عليها المؤمن مقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك قصص الأنبياء والصالحين في القرآن بيان للمنعم عليهم وقصص الضالين هي تفصيل للناكبين عن الصراط، فالقرآن كله مفسر للفاتحة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد