بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لا أريد أن أستفيض في بيان فضل الفقه في الدين، فقد تكلم العلماء في ذلك، وصنفوا فيه أجزاء مستقلة فأجادوا وأكثروا، وإنما أريد أنْ أركز الحديث في النقاط التالية:
أولاً: مصطلح الفقه في القرآن والسنة ودلالته:
الفقه في اللغة: العلم بالشيء والفَهْم، يقال: فلان لا يفقه قولي، أي لا يفهمه، وقال الله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [الإسراء: 44]، أي لا تفهمونه، ويُقَالُ لِلعِلْمِ: الفِقْهُ، لأَنَّهُ عن الفَهْمِ يكون، ولِلعَالِمِ: فَقِيهٌ لأنه إِنَّمَا يَعْلَمُ بِفَهْمِهِ، على مذهب العرب في تَسْمِيَةِ الشيء بما كان له سَبَبًا( ).
نستخلص من ذلك أن الفقه بمعناه اللغوي يدور حول الفهم الدقيق المبني على التفكر والتأمل، وهو أيضًا: فهم مراد المتكلم من كلامه.
وأما الفقه في الاصطلاح الشرعي، فله معنيان:
المعنى الأول أو (المعنى الخاص): وهو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، فيشمل فقه العبادات، فقه المعاملات المالية، فقه الأسرة، فقه الجنايات والعقوبات...
وقد وضع العلماء هذا التعريف بعدما توسعت علوم الشريعة واحتاج كل علم إلى الاستقلال عن العلوم الأخرى، وذلك بغرض تنظيم الدراسة وتسهيلها على الدارسين؛ فانتقل تعريفه إلى معنى أخص من معناه في القرآن والسنة.
المعنى الثاني أو (المعنى العام)، وهو المعنى الذي ورد به القرآن والسنة، ويقصد به: فهم الدين كله بأصوله واعتقاداته وتشريعاته وآدابه وأخلاقه، ويدخل في ذلك فقه الحياة بشتى صورها، وهذا المعنى هو الذي كان شائعًا في الصدر الأول؛ ولهذا صنف أبو حنيفة كتابًا في أصول الدين وسماه (الفقه الأكبر).
وإذا كان لكل علم مصطلحاته الخاصة به - ولا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح - فإنَّه مِن الملاحَظ أنَّ الفقه بمعناه الاصطلاحي كاد يُغطِّي - إِنْ لم يُغطِّ بالفعل - على الفقه بمعناه القرآني، حيث أصبح يُنظَر إلى الفقه كمادة علمية بحتة منفصلة عن غيرها من العلوم الأخرى كالعقيدة والأخلاق، كما أصبح الدعاة ينطلقون في دعوة الناس إلى الله من خلال مسائل الفقه بفروعها وجزئياتها، وليس من خلال التربية القرآنية، أو الفقه الشامل الذي يغطي جميع شعب المعرفة وجوانب الحياة، ولا يقتصر على الجانب التشريعي فقط، وترتب على ذلك آثار وسلبيات خطيرة جدًا، رَصَدَها- منذ زمن - أبو حامد الغزالي (ت: 505هـ) في قوله :
"واعلم أنه بُدِّلت ألفاظ وحُرِّفت، ونُقلت إلى معانٍ لم يُرِدْها السلف الصالح. فمِن ذلك: الفقه، فإنهم تصرَّفوا فيه بالتخصيص، فخصُّوه بمعرفة الفروع، فمن كان أشد تعمقًا فيها وأكثر اشتغالاً بها يقال هو الأفقه.
ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقًا على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب، ويدلك عليه قوله عز وجل: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إليهم} [التوبة: 122]، وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسَّلَم والإجارة، فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف، بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه كما نشاهد الآن من المتجردين له.
وقال تعالى: {لَهُم قُلُوبٌ لا يفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، وأراد به معاني الإيمان دون الفتاوى.
وقال تعالى: {لأَنْتُمْ أشَدُّ رَهْبَةً في صُدُورِهِم منَ اللهِ ذلكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13]، فأحال قلة خوفهم من الله واستعظامهم سطوة الخلق على قلة الفقه، فانظر إن كان ذلك نتيجة عدم الحفظ لتفريعات الفتاوى أو هو نتيجة عدم ما ذكرناه من العلوم( ).
ولا يعني هذا أن: "اسم الفقه لم يكن متناولاً للفتاوى في الأحكام الظاهرة، ولكن كان بطريق العموم والشمول أو بطريق الاستتباع، فكان إطلاقهم له على علم الآخرة أكثر؛ فبان من هذا التخصيص انشغال الناس به على حساب علم الآخرة وأحكام القلوب، ووجدوا على ذلك معينًا من الطبع، فإن علم الباطن غامض والعمل به عسير والتوصل به إلى طلب الولاية والقضاء والجاه والمال متعذر، فوجد الشيطان مجالاً لتحسين ذلك في القلوب بواسطة تخصيص اسم الفقه الذي هو اسم محمود في الشرع"( ).
وحين نتعامل مع مصطلح الفقه بمفهومه الشامل يعود للحياة انسجامها وتوازنها، وللمعرفة تكاملها، ويصبح الدين وحدة عضوية متكاملة تَطْبع شخصية المسلم بطابع متميز في الاعتقاد والعمل والسلوك.
ثانيًا: مَنْ الفقيه:
روى الإمام الدَّارِمِيّ في سُنَنِه عَنْ عِمْرَانَ الْمِنْقَرِيِّ، قال: قُلْتُ لِلْحَسَنِ البَصْرِيّ يَوْمًا فِي شَيْءٍ قَالَهُ: يا أَبا سَعِيدٍ، لَيْسَ هكذا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ. فقال: «وَيْحَكَ وهل وَرَأَيْتَ فَقِيهًا قَطُّ، إِنَّمَا الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ في الدُّنْيَا، الرَّاغِبُ في الْآخِرَةِ، البَصِيرُ بِأَمْرِ دِينِهِ، المُدَاوِمُ على عِبَادَةِ رَبِّهِ»( ). ولم يقل في جميع ذلك الحافظ لفروع الفتاوى"( ).
وعنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ومجاهد وغيرهما فِي قوله: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79] أي: «حُكَمَاءَ فُقَهَاءَ»، وقال الإمام ابن جرير الطبري بعد ذكره لأقوال السلف في تفسير هذه الآية: فالرَبَّانِيُّون إذًا، هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا، ولذلك قال مجاهد: «وهم فوق الأحبار»؛ لأن الأحبار هم العلماء. والرباني: الجامع إلى العلم والفقه البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دنياهم ودينهم( ).
وقد علق الشيخ محمود شاكر على هذا الموضع بقوله: هذا التفسير قل أن تجده في كتاب من كتب اللغة، وهو من أجود ما قرأت في معنى "الرباني"، وهو من أحسن التوجيه في فهم معاني العربية، والبصر بمعاني كتاب الله. فرحم الله أبا جعفر رحمة ترفعه درجات عند ربه( ).
ومن هنا وضع العلماء ثلاثة أركان إذا ما توفرت في طالب العالم والمجتهد عُدَّ من أهل العلم على الحقيقة:
الركن الأول: المَلَكَة الفقهية، والمَلَكَة بشكل عام: صفة راسخة في النفس، أو استعداد عقليّ خاصّ لتناول أعمال مُعيَّنة بذكاء ومهارة، يقال : فلان عنده مَلَكة لُغويّة، ومَلَكة فنيّة، ومَلَكة الشِّعر...الخ( ).
أما المَلَكَة الفقهية فيقصد بها: الصفة المكتسبة التي بها يكون العالم فقيهًا في أحكام الشريعة أصولها وفروعها... أي إنه صار متمكنًا من المنهجية العلمية في البحث والتفكير، والخبرة المنهجية في معالجة النَّصوص الشرعية فهمًا واستنباطًا، وتحقيق مناطاتها تنزيلاً ، حتى صار يمارس ذلك بنوع من التلقائية( ).
الركن الثاني: الرَّبَّانِيَّة الإيمانية، ويُقصد بها مقاربة الكمال في مسلك التخلق بأخلاق القرآن، والتحقق من صفتي التقوى والورع من أجل تحصيل العلم بالله والتعرف إليه تعالى عبر منازل التعبد ومراتب الإخلاص، حتى يخرج خروجًا كليًا عن داعية هواه، ويكون عبدًا خالصًا لله(
وذلك لأنَّ العلم النافع يدل على أمرين:
أحدهما: على معرفة الله وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الباهرة. وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه وخشيته ومهابته ومحبته ورجاءه والتوكل عليه والرضى بقضائه والصبر على بلائه .
والأمر الثاني: المعرفة بما يحبه ويرضاه ، وما يكرهه ويسخطه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال، فيوجب ذلك لِمَنْ عَلِمَه المسارعة إلى ما فيه محبة الله ورضاه، والتباعد عما يكرهه ويسخطه.
ومتى خشع القلب لله وذل وانكسر قنعت النفس بيسير الحلال من الدنيا وشبعت به، فأوجب لها ذلك القناعة والزهد في الدنيا... وأوجب ذلك أن يكون بين العبد وبين ربه عَزَّ وَجَلَّ مَعْرِفة خاصة، فإنْ سأله أعطاه، وإنْ دعاه أجابه( ).
الركن الثالث: القيادة التربوية الاجتماعية، وهي وظيفة العالم وحق العلم المتعلق بذمته، طبقًا لقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، وهي راجعة إلى واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بحق النذارة.
والقيادة المقصودة هنا: مسؤلية العالِم عن تربية الخَلق بما آتاه الله من علم وصلاح في نفسه، وبما اكتسب في طريق ذلك كله من بصيرة قلبية وخبرة دعوية وصناعة تربوية، حتى انقدحت في قلبه الحكمة، وهي نور يقذفه الله في قلب العبد، يكون بمقتضاه مبصرًا بنور الله، يراعي المناسبات الزمانية والمكانية والحالية في تنزيل الأحكام الشرعية والتوجيهات الدينية، مما يؤهله للإمامة العلمية والقيادة التربوية، قديرًا على توجيه المجتمع بعلمه وخلقه، واستيعاب سائر الناس على مختلف مشاربهم وطبقاتهم وشرائحهم واختصاصاتهم، وذلك هو الحكيم حقًا والرباني صدقًا ولا يكون العالم عالمًا إلا به( ).
ولذلك فإن الفقهاء الذين ورثوا هذه الأركان الثلاث كانوا وما زالوا هم المرجع للأمة في كل شيء.
ثالثًا: حامل الفقه غير الفقيه:
الاجتهاد مَلَكَة يؤتيها الله من يشاء من عباده، ومن أهم سماتها ولوازمها: الاستعداد الفطري والتعليم المنهجي. فمجرد حفظ الفروع لا يكفي لوصف صاحبه بأنه فقيه مهما بلغ في الحفظ، بل هو ناقل للفقه أو حامل له، أما الفقيه فهو الذي يكون على دراية بأصول الفقه وقواعده ومقاصد الشريعة، ويملك القدرة على استخراج الأحكام من أدلتها وإن قلَّت محفوظاته، وهذه التفرقة مستفادة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نَضَّر الله امرءًا سمع منَّا حديثًا فحفظه، حتى يُبلِّغَه غيرَه، فَرُبَّ حاملِ فقْه إلى مَن هو أفْقَهُ منه، ورُبَّ حامل فقْه ليس بِفَقيه"( ). و(نضّر الله): دعاء، معناه: حَسَّن الله خُلُقه وجاهه وقدره في الناس.
قال الإمام الزَّرْكَشِيُّ (المتوفى: 794هـ): "عُلِمَ مِنْ تعريفهم الفقه باستنباط الأحكام: أن المسائل الْمُدَوَّنَةَ في كتب الفقه ليست بِفِقْهٍ اصطلاحًا، وأن حافظها ليس بفقيه، وإنما هي نتائج الفقه، والعارف بها فروعي، وإنما الفقيه هو المجتهد الذي يُنْتِجُ تلك الفروع عن أدلة صحيحة، فيتلقاها منه الفروعي تقليدًا وَيُدَوِّنُهَا وَيَحْفَظُهَا. ونحوه قول العز بن عبد السلام: هُمْ نَقَلَةُ فِقْهٍ لا فُقَهَاءُ. وقال الغزالي: إذا لم يتكلم الفقيه في مسألة لم يسمعها ككلامه في مسألة سمعها: فليس بفقيه"( ).
وبناء على ما سبق يتبين لنا أمران مهمان جدًا:
الأمر الأول: أنَّ "جُمْلة من فساد التآليف الفقهية يحصل عندما يتصدى لها حامل الفقه غير الفقيه، فحامل الفقه كثيرًا ما يخطئ لاشتغال نظره بالجزئيات عن إدراك الكليات والمعاني العامة التي تتعلق بها أنظار الفقهاء الكبار، ومن المعلوم أن الأئمة الفقهاء لا يصدرون إلا عن قواعد وأصول تؤلف نظامًا متسقًا متناسقًا؛ لأن الشريعة متسقة منتظمة، فلابد أن تكون مناهج الاجتهاد فيها كذلك، وما خرج عن ذلك فليس بفقه"( ).
الأمر الثاني: أن الفقيه لا يكون فقيهًا بمجرد اختياره لتخصص الفقه في المدارس والمعاهد والجامعات الشرعية وتخرجه فيها، ولا يكون فقيهًا باختيار سياسي أو إداري ليتولى منصبًا دينيًا أو خطة شرعية، بل الفقيه هو العالم الشرعي مكتمل الآلة والمُكْنَة، الذي يعيش في عصره ويتمكن من إدارة الحياة وصناعتها بفقهه. ومن تمام عملية الإصلاح الفقهي أن يعاد النظر إلى الفقيه بهذا الاعتبار، والفقهاء الذين هم بهذه المثابة قلة بالقياس إلى من ينتسبون أو ينسبون إلى هذا الاسم( ).
نسأل الله أن يفقهنا في الدين، وأن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، اللهم آمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد