الوعي بأهمية مقام المكان والزمان


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

درس عظيم، في مراعاة المقام (في الناقل والمنقول) من الكلام، خاصة في أوقات النوائب أوالنوازل، وعيٌ عُمري، وحصافة من عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما.

أسوقها هنا في المقال الآتي، أتأمل من القاريء الكريم التعليق بما يراه.

 

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت أقرئ رجالًا من المهاجرين -منهم عبد الرحمن بن عوف- فبينما أنا في منزله بمنى -وهو عند عمر بن الخطاب- في آخر حجة حجها، إذ رجع إلي عبدالرحمن بن عوف فقال: لو رأيت رجلًا أتى أمير المؤمنين -اليوم- فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان؟ يقول: لو قد مات عمرُ! لقد بايعت فلانًا فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت!

 

فغضب عمرُ ثم قال: إني -إن شاء الله- لقائم العشيّة في الناس فمُحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم.. قال عبدالرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين! لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كل مطيّر، أن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تَقدُم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنّة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلتَ متمكنًا، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعوها على مواضعها.

فقال عمر: أما -والله- إن شاء الله – لأقومنّ بذلك أول مقامٍ أقومه بالمدينة.

قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجِلتُ الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر، فجلست حوله تَمسُّ ركبتي ركبته فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب، فلما رأيته مقبلًا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ليقولن العشية مقالةً لم يقلها منذ استخلف، فأنكر علي وقال ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله، فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال، أما بعد: فإني قائل لكم مقالة قد قُدّر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليُحدّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أُحلُّ لأحدٍ أن يكذب عليّ. رواه البخاري في صحيحه.

 

- وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في هذا المقام: (إنّ الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل، والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيَضِلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أُحصن من الرجال والنساء إذا قامت البيئة أو كان الحبل أو الاعتراف، ثم إنّا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم، ألا ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تطروني كما أطري عيسى ابن مريم وقولوا عبدالله ورسوله” ثم إنه بلغني أن قائلًا منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعتُ فلانًا.

فلا يغترن امرؤٌ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها،  وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلًا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا، وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لأبي بكر يا أيا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان فذكرا ما تمالاء عليه القوم، فقالا أين تريدون يا معشر المهاجرين، فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم اقضوا أمركم، فقلت والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مُزّمل بين ظهرانيهم، فقلت من هذا؟ فقالوا هذا سعد بن عبادة، فقلت ما له، قالوا يوعك، فلما جلسنا قليلًا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال أما بعد: فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر على رسلك، فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت، فقال ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبًا ودارًا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها كان والله أن أقدم فتضرب عُنُقي لا يقربني ذلك من إثمٍ أحب إلي من أن أتأمر على قومٍ فيهم أبو بكر اللهم إلا أن تسول إلي نفسي عند الموت شيئًا لا أجده الآن، فقال قائل من الأنصار أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثر اللغط وارتفعت الأصوات، حتى فَرَقتُ من الاختلاف، فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة، فقلت قتل الله سعد بن عبادة، قال عمر وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلًا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا.

 

ومما يحسن ذكره في هذا الموطن لفهم القصة بشكل صحيح هذا النقل*:

وأما موقف سعد بن عبادة رضي الله عنه، فيوضحه ما رواه حميد بن عبدالرحمن قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في طائفة من المدينة، فجاء فكشف عن وجهه فقبله وقال: فداك أبي وأمي ما أطيبك حيًا وميتًا، مات محمد صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة‏. فذكر الحديث قال: ‏ فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان حتى أتوهم، فتكلم أبو بكر ولم يترك شيئا أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنهم إلا وذكره. وقال: ولقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصارٌ واديا سلكت وادي الأنصار" ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: "قريش ولاةُ هذا الأمر، فبرُ الناسِ تبعٌ لبرهم، وفاجرهمُ تبعٌ لفاجرهم”. فقال له سعد: صدقتَ، نحن الوزراء وأنتم الأمراء.

 

قال البيثمي في (مجمع الزوائد): رواه أحمد -وفي الصحيح طرف من أوله- ورجاله ثقات، إلا أن حميد بن عبدالرحمن لم يدرك أبا بكر. أ ه. وقال الشيخ الأرنؤوط وغيره من محققي المسند: صحيح لغيره، رجاله ثقات رجال الشيخين، وهو مرسل. ا ه.

 

وقد بَّوب عليه ابن كثير في (السيرة النبوية): باب: ذكر اعتراف سعد بن عبادة بصحة ما قاله الصديق يوم السقيفة. فذكره، ثم نقل بإسناد أحمد أيضًا عن رافع الطائي رفيق أبي بكر الصديق في غزوة ذات السلاسل، قال: وسألته عما قيل في بيعتهم. فقال: وهو يحدثه عما تقاولت به الأنصار وما كلمهم به، وما كلم به عمر بن الخطاب الأنصار، وما ذكّرهم به من إمامتي إياهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه. فبايعوني لذلك، وقبلتها منهم، وتخوفتُ أن تكون فتنةٌ بعدها ردة. ثم قال: وهذا إسناد جيد قوي.

 

ومعنى هذا أنه رضي الله عنه إنّما قبل الإمامة تخوفًا أن تقع فتنة أربى من تركه قبولها رضي الله عنه وأرضاه.. وكان هذا في بقية يوم الاثنين، فلما كان الغد صبيحة يوم الثلاثاء اجتمع الناس في المسجد فتمت البيعة من المهاجرين والأنصار قاطبة، وكان ذلك قبل تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا ه.

وأما مقالة الأنصار: "منّا أمير ومنكم أمير” فقال ابن حجر في (فتح الباري): قال ابن التين: إنما قالت الأنصار "منا أمير ومنكم أمير” على ما عرفوه من عادة العرب أن لا يتأمر على القبيلة إلا من يكون منها، فلما سمعوا حديث "الأئمة من قريش” رجعوا عن ذلك وأذعنوا. ا ه.

 

وخلاصة ما يُستنبط من هذا النقل، ضرورة تقدير المقام في الكلام أثناء التوائب:

(مقام الزمان، ومقام المكان، ومقام المتلقين وحالهم): وهذا شأن هام من شؤون السياسة والرياسة، ومظنُ تدقيق في أحوال الممارسة الإعلامية "الرسمية وشبه الرسمية” فما يصدر عن المسؤول (سياسة أو رياسة له نقول إما إعلام رسمي، أو إعلام شبه رسمي) مفهوم في سياق عمله ارتباطه بالمؤسسة الرسمية، ومحسوب عليها كل ما يصدر عنه، ويمكن هنا تدوين المختصرات التالية:

1-      فحوى الرواية، أن متكلمًا طعن في صحة خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بالطعن في صحة خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ووصفها بأنه فلتة، (حيث استخلف أبو بكر، عمرَ بن الخطاب، فسقوط ولاية الأول سقوط لولاية الثاني بالتبعية)، فقال الرجل (لو قد مات عمرُ! لقد بايعت فلانًا فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتةً فتمت!).

2-      أدب السلف في النقل وإن كان عن المخالفين، فلم يذكروا اسمه، بل اكتفى عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه بقوله لابن عباس، رضي الله عنه: (لو رأيتَ رجلًا أتى أمير المؤمنين)، فلم يُصرح باسمه، ديانة في تجنب الغيبة "وإن كان ما يقوله عنه حق” ثم أن الغرض الإصلاح وليس التشهير.

3-      ثم إنّ عمر رضي الله عنه، لم ينل من الرجل "صاحب المقالة" وإن كان ظاهرًا قد يكون من دعاة الفتنة، فتوجه عمرُ للتصحيح بدحض المقالة، وتوقف عن الأخذ لنفسه من الرجل، ولو تم "وهو قادر عليه" لأخرج الأمر عن سياقه، ولفتح باب فتنة على المسلمين، حيث سيتناقل الناس الحادثة، وتكون مدعاة للنظر في مقالته.

4-      وعي عبدالرحمن بن عوف، رضي الله عنه، بأهمية المقام، وصدّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من أن يخطب في الناس في هذا الشأن في موسم الحج، حين قال: (فقلتُ: يا أمير المؤمنين لا تفعل،  فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كل مطيّر، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهِل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنّة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلتَ متمكنًا، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعوها على مواضعها).

5-      موقف عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، ينم عن حنكة وسياسة، وقراءة للمشهد، وهنا يتأكد دور ومهمة البطانة (أو ما تتم تسميتهم "المستشارون")، فهم عينُ المسؤول إن غفلت عينه ، ورأيه إن غاب الرأي عنه "لظرف، أو فجأة موقف، أو شدته"، فلم يجامل عمر في رأيه، مع جلالة رأي عمر ووعيه، ولم يتزلف إلى عمر بالثناء على توجهه وتأييده فيما أراد أن يقضي به الأمر، بل استحضر المصلحة، وأبرزها بأطرافها لعمر، ليكون على بينة.

6-      يبدو أننا في عصرنا الحاضر، مع كثرة وسائل التواصل الاجتماعي، وتعدد وتنوع وسائل النقل الإعلامي، يبدو أننا على الدوام في حالة "حج واجتماع للناس، ووفرة للرعاع" بما يستلزم الضبط الإعلامي للناقل والمنقول، وتحين الوقت المناسب، والمقام اللائق للتعبير عن الآراء والمواقف، خاصة لمن هم قريبون للسلطة ومؤسساتها، أو محسوبين عليها.

7-      تراثنا الفكري مليء بمناهج إبداعية للممارسة السياسية، والعمل الإعلامي المتزن، لعلنا نُدرك أهمية العودة لمحاضننا الفكرية، والتلقي عنها إلى جانب ما نحصل عليه من الشرق والغرب من معارف، وقد سبق أن غردت في هذا الشأن وقلت: (لا تبنى التفوس بتجميع الجمائل من الشرق والغرب، ولكن بالتأسيس وفق الفضائل المعتبرة دينًا وعرفًا، حينها تأتي "الحكمة ضالةٌ المؤمن"، مضافةً إلى أصلٍ مكتمل، فتكون زيادة في تحقيق الجمال).

 

‏والله ولي التوفيق.

* وللأسف لم أتعرف على الناقل، حتى أوثق المنقول بنسبته إليه، وسوف أجدد بحثي وتتبعي، حفظًا لحقه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply