بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
صحبتُ أحبةً في رحلة استجمام، كانت وجهتها دولة رواندا في منطقة البحيرات العظمى بشرق أفريقيا وهي دولة صغيرة مساحتها 26.338 كم، عدد سكانها قرابة اثني عشر مليون ٩٠% نصارى والمسلمون ١٠%، احتلها المستعمر بعد الحرب العالمية الأولى وكانت نسبة المسلمين فيها آنذاك أقل من واحد في المائة.
التقينا برجال أعمال وبعض المسؤولين مسلمين وغير مسلمين، وحدثونا عن دولتهم قالوا : منذ دخل المستعمر شرع في تفريق المجتمع تفريقاً طبقياً واتخذ البقر وسيلة التفرقة فمن يملك عشر بقرات فأكثر فهو من (التوتسي) ومن يملك أقل من عشر بقرات فهو من (الهوتو) ومن لا يملك شيئا فهو ( تُوا ) ونَمَت الكراهية وتطور الحقد حتى بعد رحيل المستعمر عام ١٩٦٢م فقد تكررت المذابح بين الناس حتى وقعت الكارثة الكبرى عام ١٩٩٤م حين صارت مجازر التوتسي أي ذوي الغنى واليسار برعاية الحكومة وميلشيات الكنائس، استمرت المذابح مائة يوم قُتل خلالها قرابة مليون من المجتمع الرواندي إلى أن سيطرت جبهة الإنقاذ الوطني على الحكم برئاسة كاغامي وأوقفت تلك المجازر التي كان أغلبها داخل الكنائس، ولم يشارك المسلمون في تلك المجازر بل كانت بيوتهم ومساجدهم ملاذات آمنة للنصارى الهاربين من بعضهم، وكان المسلمون قبل ذلك يعيشون في ظروفٍ قاسية واضطهادٍ وتهميش، وخيم الحزن على الدولة وظلت الجثث ثلاثة أشهر متناثرة في الكنائس والطرقات ومن ذلك الوقت بدأ قانون النظافة والأمل والتقدير للمسلمين، يردد المسلمون هناك مقولة رئيسهم الحالي في احتفالٍ كبير يوم قال: أيها المسلمون اخرجوا من منازلكم علموا الناس الإسلام، وأقرؤوهم القرآن فهو الذي منعكم من التورط في المجزرة.
وكانت الكنيسة قبل ذلك تُحذر من المسلمين وتصف القرآن بالسوء وأن في المساجد شياطين وتنصح أتباعها أن لا يُسلموا على المسلمين ويبتعدوا عنهم وكانت الأعياد للنصارى فقط، وبعد المجزرة سمحوا للمسلمين بعيدي الفطر والحج، وأقروا فتح المدارس للمسلمين وأصبحت نسبتهم تتزايد فرئيس الدولة وهو المسيحي يشجع على نشر الإسلام ويرى زيادة نسبة المسلمين لكي يتوازن المجتمع، واستطاعت الدولة الخروج من محنتها بنزع فتيل الثأر وتشجيع التسامح، فأقروا نظام القضاء التقليدي يجتمع سكان القرية بأكملها ليشهدوا على الاعترافات ويشجعوا ذوي الضحايا على المصالحة والعفو ونجحت تلك المجالس في تحقيق المصالحة والعفو والتنازل ونشر ثقافة الأمل، وأقروا يوماً لذكرى المذبحة يشارك في ذلك اليوم بعض المصابين وبعض الذين فقدوا أسرهم وبعض المشاركين في القتل فيتحدثون عن المأساة والتسامح ويعانق بعضهم بعضاً.
ومع قانون التسامح وقانون الأمل عادت الحياة لرواندا فجددوا قوانينهم وحاربوا الفساد وشجعوا على الاستثمار الخارجي، وأصبحت الدولة هي الأولى في الشفافية على الدول الأفريقية كلها، وضبطت الأمن وحولت البقر من وسيلة تقاتل إلى وسيلة تعاون وبناء فأخذت تصرف لكل بيتٍ بقرة لكن يلزمون مالكها بالاهتمام بمولودها الأول وتربيته ثم إهدائه لأقرب بيت لا يملك بقرة، لقد حولوا البقر من وسيلة الكراهية والخلاف إلى وسيلة الحب والمصالحة، وهكذا هي الوحدة والاتفاق خيرٌ، ورخاءٌ وأمنٌ وأمان.
كنائس للعبرة وأخرى للصلوات!
بعد اليوم الأول لوصولنا كيجالي العاصمة قال مُحدثنا زُوروا إحدى الكنائس لتروا نتيجة الخلاف والفرقة، لقد أبقت الحكومة الرواندية تلك الكنائس القديمة على وضعها وشيدت بقربها كنائس جديدة لتراها الأجيال الجديدة فتحذر الخلاف والنزاع وسألنا كيف كانت المأساة، وكان الجواب تسمعوه هناك في أي كنيسةٍ قديمة تزوروها وأخذنا المرشد إلى كنيسة نيماتا وحين وصلنا الموقع رأينا كنيستين متجاورتين جديدة، وأخرى قديمة كما كانت عليه منذ يوم المأساة قبل أربعٍ وعشرين سنة تضم الأسى والحزن، وفي داخل الكنيسة الحزينة قال الحارس التصوير ممنوعٌ من الداخل.
هنالك راعتنا أكوام الملابس الممزقة وبقايا العظام البشرية وأحذية الأطفال وقمصان الطفولة البريئة وأسورة الفتيات المتنوعة، وقال الحارس انظروا لما حولكم طلقات الرصاص اخترقت الأسقف وحطمت النوافذ، ونزلنا إلى غرفة بها جماجم بشرية بعضها هشمته السواطير ورأينا بقفصٍ زجاجي تابوتاً وفوقه سيخٌ حديديٌ مدبب، قال الحارس إن بداخل التابوت هيكل عظمي لفتاة في السادسة والعشرين من عمرها تعاقب القتلة على عرضها ثم أدخلوا السيخ الحديدي في فرجها واقرؤوا ما هو مكتوبٌ في هويات الراحلين، رأينا عددا منها فوق إحدى الطاولات رفع إحداها ودققنا النظر فرأينا فيها ثلاثة حقول هي سبب الفرقة والمذبحة (توتسي أو هوتو أو توا).
وسألنا الحارس لم هذه التفرقة قال: بدأت المشكلة بدايةً تافهة لا قيمة لها ولم يحسب لها المجتمع أي حساب، ولكن مع الزمن صار لها شأن وأصبحت قانوناً فرق المجتمع الرواندي، وتوقف المرشد حين عرف أننا سعوديين، ودقق النظر فينا واحداً واحداً، وأحسبُه وكل من في الكنيسة يقولون: احذروا الفرقة مهما كانت بسيطة، لقد جنينا ثمرة الخلاف، كونوا شعباً واحداً، احذروا دعاة التقسيم والتصنيف، استسهلناه في البداية وأحرقنا ودمرنا بعد قرابة سبعين سنة من بداية دائه.
واسترسل المرشد يشرح قصة التفرقة وكيف أن أكثر من مليون رواندي من التوتسي قُتلوا في مائة يوم، فروا من مساكنهم ولجؤوا للكنائس يحسبونها آمنة فقُتلوا فيها، ففي هذه الكنيسة "نيماتا" قُتل بداخلها أكثر من ألفي قتيل وحولها أكثر من تسعة آلاف قتيل، وقال الحارس وأيده مرافقنا وهم نصارى لقد كانت النجاة والحماية في مساجد المسلمين وبيوتهم، إن المسلمين هنا وإن كانت نسبتهم قرابة عشرة في المائة إنهم إخوتنا عرفنا حقيقتهم يوم المِحنة، لقد وقفوا ضد المجزرة واحتمينا بهم من بعضنا.
نداء الجمعة والنظافة
الجميل بعد تلك الأهوال التي وقعت في روندا، أنهم استفادوا من دروسها في بناء واقع جديد مغاير، فمنذ دخولنا مطار تلك الدولة وحتى المغادرة ونحن نرى الجدية والنظام، ففي جوازات المطار رأينا البشاشة وسرعة الإنجاز، وفي صالة استقبال الحقائب شعرنا بقانون النظافة، فهنالك حجزوا الحقائب المغلفة ببلاستيك فالقانون يمنع استخدام البلاستيك، وألزمونا نزع الأغطية وأتلفوها أمامنا وخرجنا من المطار ونحن نتساءل أَجِدٌ ما نرى أم هزل؟! وهل ثمة حزم مع المخالف! وكيف المجتمع وتفاعله مع النظافة!
وحين دققنا النظر فإذ الشوارع نظيفة وزاد تجولنا فلم نرَ حاويات نظافة ، وسألنا فقالوا كل بيت وكل متجر يحفظ نظافته داخل سُور بيته فوجود الحاويات في الشوارع مشكلة ، وكل يومين تمر الحافلات وتتوقف بين البيوت فيخرج الناس حاوياتهم إلى السيارة مباشرة ، وذهبنا من العاصمة إلى منطقة نيانزا تبعد ساعتين عن العاصمة كيجالي ، وركزنا النظر طيلة الطريق فلم نجد لا ورقةً ولا كرتوناً ولا علبةً فارغة ، قرأتُ هناك أن العاصمة كيغالي هي أول مدينةٍ في أفريقيا يتم منحها جائزة زخرفة المساكن مع جائزة شرف لاهتمامها بالنظافة والأمن والمحافظة على نظام المدينة النموذجية.
سنغافورة أفريقيا
ليس في الأمر مبالغة فشوارع وسط مدينة كيغالي تضاهي بنظافتها وحسن صيانتها معظم شوارع العواصم الأوروبية، كما يقارع مستوى بعض مراكز التسوق فيها نظرائها في الغرب بدرجةٍ تدفع كثيراً من وسائل الإعلام الغربية إلى وصفها ب"سنغافورة أفريقيا"، وسألنا كيف تكونت هذه الثقافة وهذا الالتزام الذي جعلهم يسبقون غيرهم، قالوا بدأ القانون بعد مجازر عام ١٩٩٤م فمن ذلك الوقت وكل سبتٍ من آخر كل شهر وحتى الآن يخرج المجتمع كله بدءاً برئيس الدولة وعائلته ووزرائه إلى آخر بيت في الدولة الكل ينظف منطقته ومن رمى علبةً أو بصق في الشارع فغرامته عشرة دولارات فالمجتمع يراقب ويستهجن المخالف، وصلينا الجمعة في المسجد الجامع وبعد انتهاء الصلاة وقف أحدهم فذكر أهمية المساجد وأفضلية النفقة عليها ثم قرأ إعلاناً من مشيخة الدولة أن الدولة أغلقت اثني عشر مسجداً بسب سوء نظافة دورات مياهها وأن الصلاة توقفت في تلك المساجد ويلزم إصلاحها خلال شهر، وترجى المصلين التبرع وجلسنا نرقب ونستجلي الأمر فعلمنا أن الإغلاق شمل الكنائس كذلك، ففي الوقت الذي أغلقوا فيه هذه المساجد أغلقوا سبعمائة كنيسة بسب قانون النظافة، وتسابق المصلون فجمعوا ستين دولاراً، مجتمعٌ فقير لكنه نظيف، إنه قانون النظافة لا يستثني أحداً، لا كنيسةً ولا مسجداً. لقد وفر قانون النظافة وثقافة المجتمع على خزينة الدولة مبالغ كبيرة فلا عمالة ولا مشاكل زبالة. هل يا ترى يمكن تطبيق هذا القانون الحازم بغير دولة رواندا؟! لستُ أدري، لكنه قانونٌ محترم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد