بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عَنْ أبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أن النبيِّ ﷺ قَالَ: (إنَّ الدُّنْيا حُلْوَةٌ خضِرَةٌ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فينْظُر كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقوا الدُّنْيَا واتَّقُوا النِّسَاءِ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنةِ بَنِي إسْرَائيلَ كَانَتْ في النسَاء)، رواه مسلم.
يمكن أن نقدم بين يدي هذا الحديث الشريف بعدد من الأسئلة لتجلية أهم موضوعاته من مثل:
• لماذا قدم بالإخبار أن الدنيا حلوة خضرة، ولماذا أكد الخبر؟
• وما فائدة التأكيد على أننا مستخلفون فيها؟
• وما المقصود باتقاء الدنيا واتقاء النساء؟
• ولماذا كان بنو إسرائيل هم المثال المضروب؟ وما معنى أن أول فتنتهم كانت في النساء؟
يحسن ابتداء الوقوف عند الجملة الثانية في الحديث الشريف، كونها، في رأيي، المحور الرئيس فيه، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون).
الاستخلاف هو الموضوع، حيث إن الرسول عليه الصلاة والسلام، يخير أصحابه ويبشرهم بأن الله تعالى سيستخلفهم في الأرض، ويفتح عليهم الدنيا، وصيغة اسم الفاعل (مستخلفكم) هنا، فيها معنى توكيد الحصول القريب، وهذا نظير قوله تعالى:﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾، وقوله سبحانه: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ﴾.
وأبو سعيد الخدري، راوي الحديث، من شباب الأنصار، وقد رده الرسول عليه الصلاة والسلام يوم أُحُد لصغر سنه، ثم عُمّر حتى توفي عام 74 للهجرة، أي أن هذا الحديث النبوي كان بالمدينة، قبل سنوات من الفتوحات الإسلامية لبلاد الفرس والروم وما بعدهما، وانضوائها تحت لواء الخلافة، واغتنام كنوز الدولتين وغيرهما من قبل المسلمين، حيث كان أبو سعيد شاهداً على الوعد، وشاهداً على تحققه، وإذا كان الرسول عليه السلام قد حذر أمته من فتنة الدنيا وفتنة النساء قبل وقوع الاستخلاف والافتتان بهما، فإن أبا سعيد قد روى حديثه محذراً الأمة بعدما فتحت عليها الدنيا، وبلغت الخلافة المشارق والمغارب.
ومعنى أن المسلمين سيُستخلفون، أي أنهم سيخلفون قوماً آخرين أفسدوا، فأدال الله تعالى دولهم، واستبدل بهم المؤمنين، حيث يُظهر لفظ الخلافة معنى حلول قوم محل قوم سابقين، كما في قول نبي الله صالح لقومه: ﴿واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد﴾.
ثم إن الاستخلاف اختبار من الله تعالى المستخلِف لهم، يخضع المستخلَفون فيه لرقابته سبحانه وحسابه وجزائه، وهو ما يؤكده قوله عليه السلام (فينظر كيف تعملون)، والعبارة نفسها قالها موسى عليه الصلاة والسلام لقومه إذ شكَوا إليه ما يصيبهم من الأذى: ﴿قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون﴾، وهذا الاستبدال والاستخلاف مشروط بدوام الاستقامة، وإلا فقانون الاستبدال لا يتخلف؛ ﴿وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم﴾.
• لماذا بنو إسرائيل؟
بنو إسرائيل هم ذرية يعقوب عليه السلام، من لدن يوسف وإخوته، مروراً بموسى وهارون، ثم داود وسليمان عليهم الصلاة والسلام، وليس انتهاء بزكريا ويحيى وعيسى وآل عمران، وأقوامهم وذرياتهم ممن استقاموا أو انحرفوا، وقد عاصر أقوام منهم رسالة الإسلام.
وهم نموذج لمجموعة بشرية أُخرجت للناس، قبل محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فليست أمة محمد الوحيدة التي أُخرجت للناس، وإنما هي (خير أمة أخرجت للناس)، سبقها عدد من الأمم التي لا يعلمها إلا الله، وآخرهم قبل أمة محمد هم بنو إسرائيل.
وقد كنت أظن أن موسى وعيسى وسائر أنبياء بني إسرائيل، كانوا مبعوثين لدعوة بني إسرائيل وحدهم، كما هو ظاهر خطاب موسى وعيسى عليهما السلام، لبني إسرائيل في سورة الصف: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ يَٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾، ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يَٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ إِنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوْرَىٰةِ وَمُبَشِّرًۢا بِرَسُولٍۢ يَأْتِى مِنۢ بَعْدِى ٱسْمُهُۥٓ أَحْمَدُ ﴾، وما ينسب إلى المسيح عليه السلام حين طلبت منه امرأة كنعانية أن يشفي ابنتها المجنونة، كما جاء في إنجيل متى: " لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ".
ثم تنبهتُ إلى أن هؤلاء الأنبياء وقومهم كانوا قد حُمّلوا مهمة إقامة الدين ودعوة الأمم، ويكفي في الدلالة على ذلك دعوة يوسف عليه السلام لصاحبيه في السجن، وكلام مؤمن آل فرعون لقومه: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا﴾، وشهادة مؤمن آل فرعون هي شهادة مزدوجة لكل من يوسف وموسى عليهما السلام، أنهما لم يقتصرا على دعوة بني إسرائيل، دون أن ننسى دعوة موسى لفرعون وملئه وقومه، وكذلك السحرة الذين انتهى بهم الأمر إلى الإيمان.
وبنو إسرائيل كانت لهم خلافة في الأرض وتمكين، تجلت في زمن داود ووارثه سليمان عليهما السلام، بنص القرآن: ﴿يا داود إنا جعلناك خليفة﴾، وقد دعا سليمان ملكة سبأ إلى الإسلام فأسلمت.
وفي مبدأ تكوين بني إسرائيل مكن الله تعالى ليوسف في الأرض، ثم استجلب إخوته وذراريهم، ليكون لهم دور في تثبيت الدين وإقامته، وتطبيقه والدعوة إليه في بلد يشكل مركز إشعاع حضاري، وقد كان لهم في مصر دور ريادي وقيادي، عبر عنه موسى عليه السلام بعد الخروج وهم على مشارف الأرض المقدسة حين خاطب قومه: ﴿وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا﴾.
ومن هنا كانت تجربة بني إسرائيل بشتى جوانبها المشرق منها والمعتم، والإيجابي والسلبي، في الصعود والارتقاء كما في السقوط والانهيار، في التكوين والابتداء كما في الإنهاء، كل ذلك كان محلاً للتذكير المتكرر في الكتاب والسنة، وقد أفاضت في الحديث عنهم وعن أنبيائهم سور كثيرة بدءًا من البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأعراف، ويوسف وإبراهيم والإسراء ومريم وطه والشعراء والنمل والقصص، وصولاً إلى الصف والجمعة وكثير غيرها، حتى إن الرسول عليه السلام ليمضي ليلة كاملة يحدث أصحابه عن بني إسرائيل إلى الصباح، ويفعل ذلك أكثر من مرة كما روى الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص: (كان نبيُّ الله -صلَّى الله عليه وسلم- يُحدِّثنا عن بني إسرائيلَ حتى يُصبحَ، ما يقومُ إلا إلى عُظمِ صلاة)، ثم الرسول عليه السلام يندب الصحابة والمسلمين إلى أن يكثروا من التحدث عن بني إسرائيل دون أن يشعروا بأي حرج من تكرار ذلك والإكثار منه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج).
وما دمنا في موضوع الاستخلاف والخلافة فإن أول حديث بعد قصة استخلاف آدم في سورة البقرة كان عن بني إسرائيل الذين تسلموا الخلافة ردحاً من الزمن، وكانت قصة طالوت الواردة في أواخر السورة قد عرضت لاستخلاف بني إسرائيل على يد داود عليه السلام، ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ﴾، وكانت رحلة الإسراء إلى بيت المقدس إعلانا باستبدال جماعة دينية فسدت وأفسدت وتخلت عن وظيفتها، ليحل محلها محمد وأمته، وهو ما تؤكده فواتح سورة الإسراء، والسورة بعامة,
فبنو إسرائيل يمثلون التاريخ القريب للمسلمين والمثال القائم الحاضر، لمجموعة بشرية قامت على أساس الدين ثم انتهى بهم الأمر أن يصيروا أكثر الأمم انحرافاً عن الدين وأشد الناس له عداوة، والتنبيه النبوي الدائم على تجربتهم أولاً: لأن الإنسان هو الإنسان ومن الممكن أن تكون استجابته هي ذاتها حيال نفس المثيرات والتحديات، إذا تشابهت النفسية كما عبر القرآن بقوله: ﴿تشابهت قلوبهم﴾، فضلاً عن طبيعة التقليد والاقتداء التي تجعل الناس يقلدون غيرهم في الجوانب السلبية قبل الإيجابية، فقد أخبرنا القرآن الكريم أن أهل الكتاب عندما نسبوا لله تعالى الولد كان ذلك تقليداً منهم ومضاهاة للذين كفروا من قبل، وكذلك نبه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أن أمته سيكون فيها من يقلد اليهود والنصارى تقليداً أعمى، كما روى أبو سعيد الخدري عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)، والحديث في البخاري ومسلم وغيرهما.
وإذا كانت أدواء الأمم السابقة ستدب في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لكن ذلك لن يكون بحيث يشمل كل أفرادها وينهي دورها، فهي أمة الرسالة الخاتمة، ولن تزال طائفة منها على الحق إلى يوم القيامة، ثم إن الضعف والانحراف الذي يمكن أن يصيبها سرعان ما تتعافى منه وتثوب إلى رشدها وتستأنف مسيرتها.
• إن الدنيا حلوة خضرة!!
بهذه الجملة المؤكدة ابتدأ الرسول عليه الصلاة والسلام حديثه، معرفاً بالدنيا ومبرزاً أهم ما تتصف به؛ فهي ابتداءً (الدنيا) أي الأكثر دنواً ودناءة، إذ هي الأكثر قرباً وانخفاضاً من حيث المكان والمكانة والزمان، وهي الأدنى منزلة.
لكن هذه الدنيا مزينة ومحلّاة، كي يطيق الناس العيش فيها حتى آخر الحياة، وكي تكون هذه الزينة المغطية لواقع الدنيا طريقاً لابتلاء الناس وسبيلاً إلى بروز أصحاب الهمم وأرباب العزائم فيتميز الأحسن عملاً: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، ومن زينتها أنها حلوة خضرة، فالحلاوة تغري بالاستزادة، والخضرة تغري بالاستقرار والركون، والحلاوة ابتداء تُحسُّ بالذوق وترتبط بالطعام أكثر مما سواه، لكنها تشمل كل متاع دنيوي من المطعم والمشرب والملبس والهيمنة والانتصارات، والتملك والزعامة، والتنعم بالشهوات، والتفاخر بالأموال والأولاد وكثرة الأتباع والجنود، وغير ذلك. والخضرة جمال في الشكل وطراوة ولين، وإشعار بالحياة والحيوية.
وتأتي الجملة الثانية من الحديث الشريف مؤكدة كالتي قبلها، (وإن الله مستخلفكم فيها فينظر ماذا تعملون)، فقد جاءت العبارة الأولى تعرف بالدنيا وحقيقتها وخطرها، والثانية تُذكّر بغاية الخلق والوجود في هذه الدنيا، وأن الوجود في الدنيا امتحان مؤقت، والجزاء في الآخرة، والآخرة خير وأبقى، ثم يأتي التحذير المباشر من فتنة الدنيا (فاتقوا الدنيا).
فالدنيا هي محل الامتحان، وهي دار ممر لا دار مقر، وهي وسيلة لا غاية، والخوف كل الخوف على الإنسان أن يركن إلى الدنيا وتنسيه حلاوتها وخضرتها وظيفته ودوره، والاختبارات في الدنيا شديدة، وهي فتن والتعبير بالفتنة لأنه يشبه وضع الذهب والفضة في النار. فالفتنة بهذا هي الاختبار الشديد الذي قلّ أن ينجو منه أحد، أو لا يُتجاوز إلا بصعوبة بالغة، والدنيا ومتاعها من المحبوبات والمرغوبات أشد خطراً من الفتن بالشدائد؛ ذلك أن الفتن بالشدائد من التعذيب والسجن والحصار والفقر، تدفع إلى الثبات والتحدي والمواجهة والاتحاد والتماسك، وأما المحبوب المرغوب فإن النفس تستجيب له وتضعف حياله وتركن إليه ولا تشعر بخطورته.
ومن ذلك ما في البخاري ومسلم عن عمر بن عوف الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (.. فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسَط الدنيا عليكم كما بُسطتْ على من كان قبلكم، فتَنافَسوها كما تَنافسوها، فتُهلِكَكم كما أهلَكتْهم)، وهذا قانون في البشر عامة وليس خاصاً بالمسلمين حتى لم تسلم منه أمة قبلهم، ومن هنا فالتحدي الأشد يستدعي تحذيراً أشد.
فالدنيا بزمانها ومكانها، وناسها وحيوانها ونباتها وجمادها، بل وبسمائها كما أرضها، هي محل لافتتان البشر بالقدر نفسه الذي كانت فيه محل عيشه وضرورة بقائه ومجال متعته، ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾، ولذلك فإن ما في هذه الدنيا من الضرورات والوسائل المزينة للإنسان إنما هو ليجعلها مزرعة للآخرة، ويقوم بوظيفة الخلافة في الأرض، ولا ينبغي لهذه الوسائل أن تصبح غايات، ولا للمسود التابع أن ينقلب سيداً متبوعاً، وهو مسافر إلى الدار الآخرة، ويلزمه من الدنيا زاد السفر وعدته وما يبلغه تلك الدار الآخرة، وفي البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قوله عليه الصلاة والسلام: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، ولقد كان النبي عليه السلام هو المثل الأعلى في ذلك؛ فعن عبد الله بن مسعود ـرضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام، وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله ، لو اتخذنا لك وِطاءً ؟ فقال: (ما لي وللدنيا ؟، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ، ثم راح وتركها) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
• واتقوا النساء!!
وقد جاء التحذير من فتنة النساء بعد التحذير من فتنة الدنيا من باب عطف الخاص على العام، تنويهاً بشأنه، وتنبيها على أهميته وخطورته، فالفتنة أولاً ليست الشر بقدر ما هي الامتحان الشديد، وكما سبق القول، فإن الفتنة في الضروري المرغوب أخطر منها في الشدائد والمكروهات، وفي القرآن الكريم قوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، فالمال ضروري لبقاء الحياة والأحياء وقد جعله الله قياماً للناس ﴿ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا﴾، والأولاد ضرورة لاستمرار الجنس البشري واستمرار الخلافة في الأرض، لكن حب المال لقضاء الحوائج أو للتوسع في المباحات ثم في الشهوات والمحرمات، مع الحرص على كسبه بأي وسيلة، ثم حبسه عن مستحقيه، قد يدفع إلى التنافس والتقاتل ما يؤدي إلى هلاك الأمم.
وكثيراً ما يضعف الآباء تجاه محبتهم لأبنائهم فيدفعهم ذلك إلى الكسب المحرم، وعدم الإنفاق الواجب على الأقارب والأرحام والمحتاجين، ثم يجعلهم يتقاعسون عن واجب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي ذلك يقول الرسول عليه السلام: (إن الولد مجبنة مبخلة).
والفتنة بالنساء هي الأشد كما يبدو لأن حياة البشر، وغيرهم أيضاً، قائمة وفق نظام الزوجية، فحاجة كل من الجنسين للآخر هي ضرورة وجودية لمعيشتهما أولاً، فيتحصل السكن والمودة والرحمة، ولاستمرار البشرية من جهة أخرى وما يتضمنه ذلك من بقاء النوع والقيام بوظيفة الخلافة.
ولا تتوقف الفتنة بالنساء على جانب الإغواء بالفاحشة، على خطورته، فلفظة (النساء) محل الفتنة، تشمل جنس النساء بما فيهن الزوجات والمحارم، من الأمهات والأخوات والبنات، وغيرهن، وفي تركيب النساء، كما خلقهن الله تعالى، نقص في العقل ونقص في الدين، لأجل وظيفتهن، مما يجعلهن أضعف أمام مغريات الدنيا، ولديهن من وسائل القوة الناعمة ما يسلبن به عقول كثير من الرجال، يقول عليه السلام: (رأيتُ من ناقصاتِ عقلٍ ودينٍ أسلب لِلُبِّ الرَّجُلِ ما الحازِمِ منكن)، فينحرفوا عن أداء وظيفة الاستخلاف ويصيروا أسرى للدنيا بعد أن كانت أزمتها بأيديهم.
وقد يؤدي التعاطي العاطفي مع الأبناء والأزواج إلى النكول عن واجب نصرة الدين والهجرة والجهاد في سبيل الله، فيكونون كالأعداء للمؤمن إذ صرفوه عن واجباته: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
والقادة ونساؤهم أولى الناس بعدم التوسع في النفقات وأن يكونوا القدوات في التقلل منها، فعندما طلبت زوجات النبي عليه السلام المزيد من النفقة أنزل الله عليه آيات يخيّرهن بين البقاء مع الرسول وإرادة الآخرة، وبين التسريح والتمتع بالدنيا فآثرن جميعهن الدار الآخرة: ﴿يا أيّها النبيّ قُلْ لأزواجكَ إنْ كنتنّ تُردنَ الحياةَ الدنيا وزينتَها فتعالينَ أمتّعْكنّ وأسرّحْكنّ سراحًا جميلاً وإنْ كنتنّ تُردْنَ اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرةَ فإنّ اللهَ أعدّ للمُحسناتِ منكنّ أجرًا عظيمًا﴾.
• فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء
ورد في السنة النبوية عدد من الأحاديث الشريفة التي يمكن أن تسعفنا في التمثيل لبعض مظاهر فتنة النساء في بني إسرائيل، وقد حاول بعض أهل العلم حصر تلك الأحاديث، لكن بعض النظر وشيئا من التدبر في القصص القرآني سيكشفان لنا عن مظاهر في غاية الأهمية.
وقد يكون المفتاح الأول في ذلك هو قوله تعالى في سورة التوبة ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًۢا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ۚإِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾، فإن من رحمة الله بعباده أن يبين لهم مزالق الطريق وعثراته، ويحذرهم من كل ما يشكل خطراً عليهم في دينهم ودنياهم، ولا يكون منهم انحراف عن جهل وعماية، وهذا الحديث الذي بين أيدينا خير مثال على ذلك حيث يحذر الرسول المؤمنين من أشد الفتن التي سوف تعترض مسيرتهم.
ولقد كانت هناك علامة بارزة في مبدأ تكوّن بني إسرائيل، وهي حادثة مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام، ثم مؤازرة بعض النسوة لها في ذلك، وأهمية هذه الحادثة وقصة يوسف بعامة، أنها تصور منعطفاً تاريخيا جرى فيه تحول واستبدال في المستويات القيادية العليا، واستخلاف لبني إسرائيل، بعد التمكين ليوسف وتسلمه منصب العزيز بعد العزيز، ومن ثم استقدامه أباه وإخوته وذراريهم إلى مصر.
وحادثة المراودة، في رأيي، لا تمثل سلوك النساء من جهة، ولا تنطلق من الشبق وشدة الرغبة؛ ذلك أن غالب شأن المرأة أن تكون مطلوبة لا طالبة، سواء أكان ذلك في العلاقة الشرعية أو غير الشرعية، ولم تكن شخصية يوسف بالتي تثير الشهوة أو تحرض على الرغبة الجنسية، كما قد تفيده النظرة العجلى في القصة، ويكفينا قول النسوة حين فوجئن بيوسف عليه السلام: ﴿وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾، حيث تُذكّر صورته عليه السلام بالله تعالى ثم يالملائكة رمز الطهارة، فجماله يذكر بالملائكة الأطهار وليس محركاً للغريزة.
وإذا تمعنا في سلوك النسوة من جهة، ومجتمع رجالات الدولة، ممثلين بالعزيز ومن معه، فلن نجد لديهم نخوة ولا حمية، ويكغي أن نساءهم يتجاوزنهم ويتمادين في مراودة يوسف غير آبهات بهم، ما يشير إلى شدة حالة الترهل والتخلخل في المستوى القيادي في مصر آنذاك، إنها إذن أزمة رجولة طالت حتى رأس الهرم، ما يعني، أن سلوك النسوة يعبر عن افتقاد الرجولة التي وجدنها في يوسف، وهذا تفسير وليس تبريراً، وحيث قد استفحلت هذه الأزمة، فقد آذنت شمسهم بالأفول، وأزف الاستبدال، ووجب الاستخلاف.
وهذه الصورة من فتنة النساء في المجتمع المصري غداة استخلاف بني إسرائيل، تمثل آخر مظاهر فتنة النساء، لكنّ تصور البدايات والمقدمات ليس بالأمر العسير؛ فإن سلوك النسوة وقيامهن بالمراودة، ربما دل على أن الرجال أيضاً هم على نفس الشاكلة من عدم الاستقامة الخلقية، ومن جهة أخرى فإن هذا الترهل والضعف لدى الرجال، رافقه شيء من الاستزلام لدى النسوة، كما أظهر ذلك عدم مبالاة امرأة العزيز بزوجها وهي تتمادى في المراودة، ثم تهدد بسجن يوسف.
وعندها تضيع البوصلة وتضطرب الحياة الاجتماعية والسياسية، ولئن ظنت المرأة أنها قد تسعد إذا طاولت الرجال أو تطاولت عليهم، فإنها سرعان ما تدركها التعاسة، وتعود لتبحث عن الرجال ذوي الرجولة الذين تشعر معهم بأنوثتها، وتسير عجلة الحياة في طريق السلامة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد